سهر کوسا
بعد ان دخل اخر طفل قطار غنية الطويل, اغلقت أبوابه بهدوء وأمسكت به بقوة .
غنية والأطفال وانأ الجالس على السدة , منذ خمس شتاءات نجتر نفس الذكريات ونفس الصور , جميعنا بذاكرة واحدة.
على جدار كل بيت هنالك مزبلة صغيرة , متكئة ككلب اجرب على اكثر المساحات نتوءا. في نهاية كل زقاق تتسع المزبلة لتأخذ شكل ديناصور ابهق . في طرف المدينة الشرقي خلف السدة الترابية , تكبر هذه المزابل بعد التوحد تصبح أميبيا هائلة لاشكل لها.
هذه الأميبيا الهائلة –المزابل الموحدة–أسميناها "المقلع"
عائلة جبر اكثر العوائل التصاقاً بالمقلع , ينطلقون مع أول خيط للصباح على عربة خشبية مكشوفة , يجرها حصان رمادي , على جانبيه قروح نصف متيبسة .
ملثمين لا يرى من وجوههم شيء , سوى عيونهم المتسمرة الى الأمام , كأنهم غزاة أشداء .
غنية فتاة يافعة ذات جسد معقود كالضفيرة , تؤكد عليه دوما بملابس ضيقة ,ترتدي قفازات صوفية حتى في فصل الصيف , يمكن ان تعرف شعرها اسود فاحم من تلك الخصلة المنفلتة دوماً , تاركة إياها غافية عن صدرها , بين نهديها المنتفضين أبدا .
في أية لحظة يمكن ان تحلق , متحفزة دائما , وهي تمشي على رؤوس أصابعها . لم تر ملامحها قط , لكنهم يقولون انها لا تشبه أخوتها .
غني شقيقها , وجه يابس بشفتين مشققتين وعينين سوداوين , صغيرتين لارموش لهما , ذو اسود لطخت الشمس بعض أجزائها بالأصفر , كل مفردات القاموس منحوتة من المقلع , كان اشهر من يصنع العربات بطوابق متعددة من اسلاك معدنية , ويتفنن في استطالاتها واستقاماتها , ومن أغطية قناني البارد , بعد ان يثقبها ويدخلها بخيط مطاطي سميك , ويلفها على بكرة خياطة , فتأخذ شكل الإطار .
اخوة غني الأربعة لا يختلفون عن البعض الا بأطوالهم .
عائلة جبر تحب عملها بشكل لا يصدق , وسعيدة به الى حد كبير , تعرف مواعيد كل عربات القمامة عن ظهر القلب , تماما مثلما تعرف مواعيد شروق الشمس وغروبها .
يعرفون تفايل سواق تلك العربات الشخصية , اكثر مما يعرفون أقربائهم وجيرانهم .
حين تقف على السدة , وترمي ببصرك نحوهم , تراهم يتقافزون , سعداء كالضفادع .
لغنية قدرة عجيبة على تحديد اماكن الملابس غير التالفة تماما , وقناني البارد السليمة والكرات و.... حتى لو كانت مدفونة على عمق امتار في المقلع غنية شجاعة , تتسابق حافية مع بقية عوائل المقلع , مندفعة باتجاه حاستها , غير آبهة بالزجاج المكسور وشظايا الحديد , صوب تلك النفايات المندلقة , من دبر عربة القمامة , الغريب انها تملك قدميين طريتين ولا تجرح .
حين تتعدد الفرائس , تقفز غنية الى اعلى تلة في المقلع , وتقف بصدرها الناتئ , فتبدأ توجه اخوتها كقائد خبير خاض معارك لا تحصى .
- غني اترك العربة الصفراء .
- تلك العربة الرصاصية توجه اليها ياحسن .
حامد عليك بالعربة ..
غنية ذات قلب طيب , بعد صيدها تجمع كل اطفال المقلع , وتبدأ بتوزيع الغنائم على مقاساتهم ورغباتهم . في البيت ترتق غنية ماتبقى من الملابس , وتصلح بقية الكرات والحاجيات الاخرى وترسلهم للبيع .
جبر والدها لا يتردد بالتصريح امام اخوتها
- غنية رجل البيت .
لانتذكر من الذي نقل الينا خبر تلك العربات غريبة الشكل , والتي تستسلل الى المقلع ليلاً . لكننا نتذكر تلك الايام الثقيلة المليئة بالخوف والجوع , كل عائلات المقلع انسحبت , مخلفة وراءها روايات مروعة عن تلك العربات الليلية . اطفال المقلع اختفوا والشتاء على الابواب " سيقتلهم البرد وهم بلا أصواف " عائلة غنية صارت لاتحب المقلع .
المقلع فقد جاذبيته .
نتذكر ان غنية امتطت حصانها ليلا واتجهت الى السدة ومن هناك شاهدتهم .. عربات بيضوية الشكل , على سقوفها هوائيات متعددة أسلاكها متشابكة معاً تمتد من جانب كل عربة أعمدة تنغرز عميقاً في الأرض , بعدها تأتي عربات أخرى الى تلك الحفر التي تصنعها الأعمدة , لتتقيأ فيها اخوية ملونة , تفضح هؤلاء الغرباء , فتظهر رؤوسهم مغلفة بأقنعة ذات خراطيم طويلة تصل الى ركبهم , كأنهم حشرات ضوئية كبيرة , نتذكره أيضا ان غنية انطلقت بحانها صوبهم ,. قررت ان تشج الليل وتشج وساوسها , وتشجهم , ضربت حصانها بقسوة , فطارت كالسهم أليهم , سحبت احدهم من خرطومه وسحلته على الأرض مسافة أمتار سمعت صوتاً مخنوقاً .
- نفايات نووية , نووية .. ايها المغفل .
تركت غنية ضحيتها الاولى وعادت ثانية الى السدة مهيئة نفسها لهجوم اخر , عدلت عن رأيها , فالحشرات الكبيرة انسحبت مذعورة رجعت غنية الى بيتها هادئة , بعد ان نزعت وساسها , وانتظرت الصباح كي تخبر أخوتها وكل عائلات المقلع بتفاهة قلقهم .
- لاشيء سوى ضياء مندلق في جوف الأرض .
قالت ذلك , ومددت جسدها الرشيق كالضفيرة ونامت . في الصباح نهضت غنية بجسد مثقل على غير عادتها ,. تعاني من ألم حاد في بطنها , رفعت ثوبها الى الأعلى , هناك تكور ضوئي صغير الى جانب بطنها الأيمن كمصباح العرسان , يتفرع كالشجرة في جميع أنحاء جسدها , ذبلت غنية بساعات وما عاد جسدها رشيقاً ليناً , فقدت حيويتها , وصار هذا الورم الضوئي كبيراً كالجنين في بطنها .
بعد ثلاثة ايام نتذكر بألم , ان غنية امتطت حصانها للمرة الأخيرة , واتجهت به الى السدة ليلاً . ترجلت ومشت بتثاقل الى أعلى تله في المقلع , سجدت عليها , قطعت أنفاسها , وأنزلت رئتيها وقلبها وأمعاءها بقوة على هذا التكور , تشبثت بالمقلع بأصابع متشنجة , جاءت بيدها دمية ناعمة , صرخت بفم مقفل , جاءت بيدها قطار طويل , عندما صارت الضوء حاداً بين فخذيها , تذكرت اخاها الصغير محسن , فخنقت القطار بقوة , وصرخت بصوت عالً , فاندفعت كرة بركانية بين فخذيها , مازالت تتقافز بجنون على المقلع , بينما ظلت غنية للان ممدودة على وجهها وماسكة بكلتا يديها قطاراً طويل .
الگاردينيا: شكرا / سهر.. قصة رائعة.. ننتظر جديدكم..
868 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع