قاسم محمد داود
من اعلام التصوف الإسلامي ... ابن سبعين
فيلسوف الصوفية الثاني بعد أبن عربي ،هو محمد بن عبد الحق بن إبراهيم بن محمد ولد سنة 614هـ /1217م في مدينة رقوطة بمرسية في الاندلس وتوفى سنة 669هـ /1296م في مكة وأشتهر بأبن سبعين لأنه كان يطلق على نفسه أبن داره والدارة في الحساب تعني حرف العين الذي يقابل 70 في حساب الجمل وكان قد استمد هذا من حديث النبي محمد (ص ): "اني اتوب الى ربي في اليوم سبعين مرة " .وكان من أسرة نبيلة غنية لها مكانة عالية في الاندلس . قضى معظم شبابه في مدينته مرسية حيث درس العربية وآدابها ، والعلوم العقلية واخذ التصوف عن أبي أسحق إبراهيم بن يوسف بقراءة كتبهِ والمشاركة في الانتماء الى المدرسة ( الشوذية ) في التصوف وليس بالشكل المباشر . وهذه الطريقة تنسب الى مؤسسها الصوفي الاندلسي أبو عبد الله الشوذي الاشبيلي ، وكانت تمزج التصوف بالفلسفة .
أنتقل أبن سبعين الى المغرب وهو دون العشرين ، فأقام أولا في سبته هو وجمع من اصحابهِ واتباعه الذين بدأوا يلتفون حوله عندما كان في الاندلس . زادت شهرته بعد ان أجاب على أسئلة فردريك الثاني أمبراطور النورماندين في صقلية الذي تبنى ترجمة الفلسفة الإسلامية الى اللاتينية ، وكان قد وجه بهذه الأسئلة مع مبعوثين الى مصر والشام والعراق واليمن وآسيا الوسطى وجاءته أجوبة لم تعجبه فسأل عن المغرب والاندلس فذكروا له أبن سبعين فوجه اليه مبعوثاً مع مال فكتب أبن سبعين جواب الأسئلة ورفض أخذ المال . وأعجب الامبراطور بالأجوبة فأرسل هدية ثمينة الى أبن سبعين فرفضها أيضاً . وكانت هذه الأسئلة التي عرفت بالمسائل الصقلية تدور حول : العالم هل هو قديم أو محدث ، والعلم الإلهي ما المقصود منه ، وما مقدماته الضرورية إن كان له مقدمات ،والمقولات أي شيء هي ،وكيف يتصرف بها في أجناس العلوم حتى يتم عدها وعددها عشر فهل يمكن ان تكون أقل . وهل يمكن ان تكون أكثر ، وما البرهان على ذلك ، وعن النفس : ما الدليل على بقائها وما طبيعتها ، وأين خالف الاسكندر الافروديسي أرسطوطاليس .
أوغرت المكانة العالية التي نالها ابن سبعين صدور الفقهاء عليه فاتهموه بالكفر لذلك اضطر حاكم سبته الى طرده منها فذهب الى مدينة بجاية في الجزائر وسكن فيها مدة الا انهُ في النهاية ونتيجة المكائد حوله تم نفيه من بلاد المغرب كلها فخرج منها سنة 644هـ/1247م وهو في الثلاثين من عمره ،أي انه أقام في المغرب ما يقارب خمس وعشرين سنة ،واختلف المؤرخون في سبب نفيه من المغرب ،فخصومه يقولون انه نفي بسبب كلمة كفر صدرت عنه وهي قوله : " لقد تحجر ابن آمنه واسعاً بقوله لا نبي من بعدي " ويرون في هذا انه كان ينكر النبوة وانها من الأنبياء وليست اختيار رباني ، وهناك من يرى في هذا الكلام كثير من التجني على ابن سبعين الذي كان يعظم النبوة ، اما أنصاره فأنهم يرون في هجرته ، أحد مفاخره ودليلاً على بلوغه درجة مقامية عالية ، وبكل الأحوال فهو قد خرج منفياً بعد هجوم الفقهاء عليه وخوفه منهم . رحل ابن سبعين الى مصر واقام فيها مدة قصيرة فقد سبقت قدومه الاخبار بأنه رجل ملحد يقول بوحدة الخالق والمخلوق ولا يتورع عن الإعلان بقوله : "انا هو، وهو انا " مما سبب نقمة فقهاء مصر عليه وخصومتهم له . ترك ابن سبعين مصر وذهب الى مكة سنة 652هـ/1254م واستقر بها ، وكان امير مكة من مُريديه ، فصارت له منزلة عنده فكثر اتباعه وذاع صيته بين اهل مكة وقد ظل فيها حتى توفي .
تعكس مصنفات ابن سبعين ثقافته الواسعة المتنوعة ، فهو قد قرأ فلاسفة اليونان ، واطلع على الفلسفات الشرقية القديمة ، كما اطلع على فلسفة ابن سينا والفارابي ورسائل اخوان الصفا في المشرق وابن باجة وابن طفيل وابن رشد في المغرب وله المام واسع بمذاهب المتكلمين خصوصاً الاشعرية وكان علمهُ بمذاهب التصوف دقيق ، ويتبين هذا كله من نقده لمن تقدمه من فلاسفة ومتكلمين وصوفية وهو الى جانب ماتقدم عميق المعرفة بمذاهب الفقه الإسلامي .
فلسفة ابن سبعين هي وحدة الوجود ، وقد انتقلت هذه الفلسفة الصوفية من الاندلس والمغرب الى المشرق علي يد ابن عربي وابن سبعين حيث انتشرت تعاليم هذا النوع من التصوف الذي كان محل اتهام وصلت الى تكفير ابن سبعين ومن قبلهِ ابن عربي .
عالج ابن سبعين فكرة وحدة الوجود في رسائله ففي وصيته لتلاميذه يقول : "إن في كل شيئ سرأً من سرهِ جَمُدَ في الجماداتِ وظَهرَ في النباتات وتحركَ في الحيوان وأعلن في الانسان " . كما ان بعض اقواله كانت اقرب الى الحلولية كما في العبارة التالية من رسالة (خطاب الله بلسان نوره ) : " ان كان لا إلا أنا فلا إلا هو وان كان لا إلا هو فلا إلا أنا ...هو الأول وأنا الأول وهو الآخر وأنا الآخر وهو الظاهر وأنا الظاهر وهو الباطن وانا الباطن " . كان ابن سبعين يرى ان النفس والعقل مثلاً لا وجود لهما بذاتيهما، وانما وجودهما من الواحد ، والواحد لا يتعدى ، فهما لا يخرجان عن قضية الوجود الواحد ،على انه لم ينكر فعل العقل بل قيده في مضماره فجعلهُ أداة ضبط للعلوم وميزان لها . نظرية القيم الأخلاقية السبعينية ترتبط بمبحث الوجود والمعرفة ، ذلك أن الاخلاق عنده تتجه في الأصل الى أثبات الوحدة المطلقة ، فالخير والسعادة واللذة ملونة بلون وحدة الوجود والخير والشر لا فرق بينهما من حيث الحقيقة الوجودية لان الوجود قضية واحدة وهو الخير المطلق .
تميزت حياة ابن سبعين بالمواجهات الدائمة والخصومات الفكرية تطلبت منه الاختيار بين الاستقرار والصمت او الانتقال والجهر برأيه ، لذا اتسمت الآثار المتأخرة من نتاجهِ بالقصر ، وصاحبها الاعتذار بسبب ضيق الوقت والانشغال ، كما كانت تعتمد على قدر من الغموض وتسودها إشارات بحروف ابجدية والغاز .
لم تنشر من مؤلفات ابن سبعين غير كتاب " الكلام على المسائل الصقلية " في سنة 1941، قام بعد ذلك الدكتور عبد الرحمن بدوي (1916 -2002 ) بنشر قسم من رسائل ابن سبعين عام 1965 وهي : رسالة النورية ، وعهد ابن سبعين والاحاطة .
اما كتابه " بُدّ العارف " الذي الفه في العشرينات من عمره لا يزال مخطوط ، ومن رسائل ابن سبعين الأخرى : خطاب الله بلسان نوره والكلام عن الحكمة والرسالة القوسية وشرح كتاب ادريس والحروف الوضعية في الصور الفلكية ورسائل أخرى عديدة .
اختلفت الروايات حول الكيفية التي مات عليها ابن سبعين ، فقد أورد المؤرخين روايات كثيرة غير مؤكدة عن انتحاره ، بأنه قطع شرايين يده حتى تصفى دمهُ كما ورد في كتاب (فوات الوفيات )لابن شاكر الكتبي ، وهناك رواية أخرى تذكر ان وزير ملك اليمن كان على كره مع ابن سبعين فدبر من يدس السُم له للتخلص منه
3657 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع