بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ... السادسة والستين
أبو صير وأبو قير
كان يا ما كان، في قديم الزمان، حلاق ذكي اسمه أبو صير، فقير جدًا يعمل كثيرًا ويجد ويتعب كثيرًا، ولا يكسب إلا القليل. وبعد صبر طويل عزم على الرحيل إلى بلد آخر، يكسب فيه ما يستحق، ويعيش سعيدًا.
وكان له جار صباغ اسمه أبو قير، كان هذا الصباغ يكذب دائمًا على الزبائن ويغشهم، يأخذ أجرة صبغ الثياب سلفًا، ثم يذهب إلى السوق، ويبيع الثياب، ثم يقول لصاحبه: متأسف، سرقه اللص، لهذا قاطعه الناس، فصار فقيرًا هو أيضًا.
لما سمع أبو قير كلام جاره أبو صير عن السفر قال له :
_ أنا أيضًا، أريد الرحيل، أريد أن أسافر معك، لنذهب معًا إلى بلد آخر، نعمل فيه بجد، ونقتسم كل ما نكسب.
وهكذا اتفق أبو صير وأبو قير على السفر معًا، وباع كل واحد منهما دكانه، ثم ركبا في سفينة كبيرة، فيها عدد كبير من المسافرين، وعلى ظهر السفينة، جعل أبو صير يحلق لحى المسافرين، ويقص شعرهم، مقابل أجرة بسيطة، وكان يعطي صاحبه نصف ما يكسب، حسب الاتفاق. بينما كان أبو قير يأكل ويشرب وينام ويتفرج على البحر، وهو يقول :
أنا متأسف، فأنا صباغ، لا بد لي من دكان لكي أعمل، وسوف أعمل عندما نصل إلى وطننا الجديد.
أخيرًا وصلت السفينة إلى ميناء عظيم، فيه عدد هائل من الدكاكين والحوانيت والمتاجر والمحلات والمخازن، في أسواق كبيرة، وأخرى صغيرة. نزل الصديقان من السفينة ليلاً، وسارا في شوارع المدينة، وسط الظلام، حتى وصلا إلى فندق صغير نزلا فيه.
في الصباح الباكر، نهض أبو صير، وخرج إلى السوق ليبحث عن عمل، بينما ظل أبو قير في فراشه، وقال:
_ أنا مريض اليوم، يجب أن أستريح، وسأبحث غدًا عن العمل.
وهكذا صار أبو صير يعمل كل يوم، من الصباح حتى المساء، بينما يبقى أبو قير في الفندق، يستريح، ويأخذ نصف المال الذي يكسبه صاحبه الحلاق.
وحدث ذات يوم أن مرض أبو صير، فلم يستطع الخروج للعمل، فبقي الصديقان في غرفتهما في الفندق أحدهما مريض حقًا والآخر متمارض، حتى جاع أبو قير وهم للخروج بحثًا عن شيء من الطعام، وقبل أن يخرج وبعد أن تأكد من أن صاحبه نائم، فتش جيوب صاحبه وأخذ كل ما وجد فيها من دراهم، ثم خرج من الفندق.
ما إن سار أبو قير في المدينة قليلاً حتى تبين له أمر عجيب لا يعقل، المدينة بلا ألوان ! أو على الأصح ليس فيها إلا ما هو أبيض وأزرق! فأين الأحمر، والأصفر، والأخضر، والبرتقالي، والبني، والبنفسجي، والوردي !
أسرع أبو قير ودخل إلى دكان أحد الصباغين، وقال له :
_ إني أبحث عن عمل، وأنا أعرف ألوانًا جديدة لا تعرفونها في مدينتكم، اقبلني أجيرًا عندك وسوف أعلمك إياها فتكون أغنى صباغ في المدينة.
قال الصباغ بانزعاج :
_ نحن لا نقبل الغرباء في هذه الصنعة.
وكان أبو قير يسمع نفس الجواب في كل مصبغة يدخلها، احتار في أمره وفكر طويلاً، ثم عزم على الذهاب إلى قصر السلطان، وطلب من الحرس أن يخبروا سيدهم، بأن له سرًا خطيرًا لن يبوح به إلا للسلطان نفسه، فأذن له السلطان
بالدخول، فسلم وقبل الأرض بين يديه، ثم جلس بخشوع على مقربة من العرش، وعندما أشار إليه الحاجب، قال:
_ يا مولاي السلطان، يا ملك الزمان، يا صاحب الجلالة، إن عندي ألوانًا لا يعرفها أحد في مدينتكم، وأنا أتمنى أن يستفيد منها مولاي ورعيته، كما استفاد منها أهل بغداد.
السلطان وهو غير مهتم بما سمع سأله:
_ من أنت ؟
_ أنا أكبر صباغ في مدينة بغداد، أنا أبو قير الشهير.
ظل السلطان غير مهتم بكلام أبي قير، لكنه قال لوزيره :
_ أقيموا له مصبغة، وأعطوه بعض ثياب ليصبغها للسلطانة.
صبغ أبو قير ثياب السلطانة أحسن صبغ، بألوان رائعة، لم ير لها سكان المملكة مثيلاً أبدًا، ففرح الملك والملكة، وصار أبو قير من أغنى تجار المدينة، وصارت مصبغته أشهر مصبغة في البلاد، وجاءه الزبائن من كل صوب ومكان،
وأصبح أبو قير غنيًا، بل وغنيًا جدًا، ولكنه لم يفكر أبدًا بصاحبه.
بقي أبو صير مريضًا في فراشه عدة أيام، لا يخرج من الغرفة، حتى انتبه إليه صاحب الفندق ورق له قلبه، وعندما
تبين له أن الشاب المسكين مفلس تمامًا، قال له :
_ لا تحزن! ابق هنا حتى تشفى، فأنا لست بحاجة إلى المال.
وأتاه الرجل الطيب بالطعام والدواء، وظل يعتني به حتى شفي من مرضه، حينها خرج إلى المدينة بحثًا عن صاحبه، وعن عمل يكسب منه عيشه.
فصار يزور المصابغ مصبغة مصبغة، حتى وقع نظره فجأة على مصبغة كبيرة، يدخل إليها الناس ويخرجون في نشاط منتظم، دخل إليها ورأى صاحبه جالسًا على كرسي كبير وحوله الخدم ينفذون أوامره.
ففرح الحلاق برؤية صاحبه وأسرع إليه يهنئه بما صار إليه، لكنه فوجيء به يصيح في وجهه:
_ اخرج ! أيها اللص اللعين ! أنت الذي كان يسرق ثيابي في بغداد، وتريد أن تفعل هذا من جديد هنا !
أيها الخدم اطردوه !
رجع أبو صير إلى الفندق حزينًا كئيبًا، لا يدري ماذا يقول فيما سمع ورأى، كان قلبه منقبضًا، وضاقت الدنيا في عينيه، وحن إلى مدينته، بغداد، وإلى تلك الأيام التي كان يعمل فيها بكد عظيم، دون أن يغدر به أحد، وبعد أن بكى ساعات، هدأت نفسه وعاد إليه العزم على مواجهة المصاعب بروح عالية، وصبر شديد.
خرج أبو صير إلى المدينة في اليوم التالي بحثًا عن العمل، وصار يعمل عند أحد الحلاقين، ثم في أكبر حمام في المدينة، ولما كان عمله ممتازًا، صار يكسب المزيد والمزيد من المال، حتى توفر لديه مبلغ يكفي لبناء حمام جديد، بنى حمامه على أحسن وجه، وبنى بجانبه دكانًا للحلاقة، وسرعان ما صار واحدًا من أغنى أهل السوق في المدينة، فسمع به أبو قير، وجاءه يومًا إلى الدكان، وتظاهر بأنه سعيد برؤيته، وقال له :
_ يا صديقي العزيز، يا أخي الحبيب ! أين كنت ؟ لماذا لم تسأل عني كل هذه المدة ؟ بحثت عنك في كل مكان، ولم أكن أتصور أن أجدك هنا ! كم أنا سعيد بنجاحك !
قال له أبو صير :
_ ولماذا طردتني عندما جئت إليك في المصبغة ؟
_ أنا طردتك ! مستحيل ! ... آه، ربما كنت تعبًا، فلم أعرف أنك كنت ذلك الرجل الذي طردته صديقي، آه، لقد ضعف نظري يا صاحبي العزيز منذ فراقنا، كنت قلقاً عليك وحزين لغيابك !
_ لا بأس عليك، المهم أننا ما زلنا أصدقاء، أليس كذلك ؟
_ وكيف لا، بل نحن إخوة، أنا أخوك وأنت أخي وحبيبي.
_ نعم، أنت أخي وصديقي.
_ ... ولكن، قل لي ... لماذا لا تكمل نجاحك بأن تدعو السلطان إلى حمامك، وتحلق له شعره، فتصبح أشهر حلاق في البلاد !
_ إنها والله فكرة حسنة، سأفعل إن شاء الله.
ما إن خرج أبو قير من عند صاحبه حتى ذهب إلى قصر السلطان، وطلب المثول بين يديه على أسرع وجه، وقال له :
_ يا مولاي، هناك من يريد قتلك !
_ مَنْ ؟
_ الحلاق أبو صير، صاحب الحمام الجديد.
_ ولماذا يريد قتلي ؟
_ إنه الحلاق أبة صير عدوك اللدود، جاء إلى مملكتك لهدف واحد هو أن يقتلك في حمامه.
_ وما الذي يثبت أن ما تقوله صحيح ؟
_ سترى يا مولاي، أيها السلطان العظيم، سيأتي إليك أبو صير، ويدعوك لزيارة حمامه ودكانه، وهناك سيعرض عليك قص شعرك ثم يحاول قتلك.
بعد يومين جاء أبو صير إلى قصر السلطان، ودعاه إلى حمامه، فأمر السلطان الحرس بحبسه، ثم أمر الحاجب بأن يضعه في كيس ويرمي به إلى البحر. حدث ذلك كله في دقائق، ولم يتمكن الحلاق المسكين من الدفاع عن نفسه.
ولكن الحاجب أدرك حقيقة الأمر، وكان من أصدقاء الحلاق المقربين، فأخفاه في بيته، ووضع حجرًا في الكيس، ورمى به إلى البحر على مرأى من السلطان، وكان السلطان في شرفة عالية من قصره يتفرج على هذا المشهد وهو يداعب بأصابعه خاتمه العظيم، خاتم الحكم والقوة والسلطة، وعندما ألقى الحاجب بالكيس إلى الماء ارتعد السلطان وسقط الخاتم من يده إلى البحر. وكم كان حزنه شديدًا،ً والسلطان بلا خاتم ليس بسلطان، ولا أحد ينفذ أمرًا غير مختوم بخاتم المملكة.
انطوى السلطان على نفسه، لا يتحدث إلى أحد، ولا يأكل إلا القليل، ولا يخرج من غرفته. وكان أبو صير، هو الآخر، حبيسًا في دار صديقه المخلص حاجب السلطان. وفي يوم من الأيام، ضجر أبو صير كثيرًا، فخرج متنكرًا بثياب صياد سمك، وذهب إلى الشاطئ ليصطاد بعض السمك. فاصطاد سمكة كبيرة وجد في بطنها خاتما لم ير مثله قط، لا في جماله ولا روعة صنعته. فلما عاد الحاجب إلى داره وأراه أبو صير ما وجد في بطن السمكة، صاح قائلاً :
_ إنه خاتم السلطان !
ثم أسرع إلى القصر، وبصحبته أبو صير، ودخل على السلطان، وبشره بعودة الخاتم، وقص عليه ما حدث. عندها، قال السلطان للحلاق النبيل :
_ اطلب ما شئت ! إني مدين لك بالكثير !
قال أبو صير :
_ لي طلب بسيط، يا مولاي. قل لي، لماذا غضبت علي ؟
أخبره السلطان بما كان، فحدثه أبو صير بحقيقة الأمر، فغضب السلطان على الصباغ اللعين وأمر الحاجب بأن يرميه إلى البحر. فقال له أبو صير :
_ مولاي، أرجوك أن تعفو عنه، إنه كان صاحبي، وهو بغدادي مثلي .
ولكن السلطان رفض العفو عنه، فمات أبو قير، ولم يأسف عليه أحد. أما أبو صير فقد كره أن يبقى في المدينة التي مات فيها صاحبه، فعاد إلى بغداد وعاش فيها في أمان وسعادة وهناء.
1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع