ألإغــتــيـــال عــن بــعــد

                   

                            بقلم: غانم العنّـاز

ألإغتـيال عــن بــعــد

كان واحدا من زملائه الذين يتوقون للاتحاق بالقوات الجوية لبلادهم الذين يتم اختيارهم لا لياقتهم البدنية فحسب بل لمهاراتهم في المناورات الجوية ودقة التصويب لاصابة منشآت الاعداء الثابتة والاهم من ذلك دقة اصابة الاهداف المتحركة كعجلاتهم الحربية من دبابات ومدرعات وناقلات افراد وشاحنات للعتاد والتموين وغير ذلك من المعدات الحربية. كما انها مفيدة جدا لاغتيال الشخصيات السياسية والعسكرية المهمة للعدو. 

وبما ان تحديد مواقع مثل هذه الاهداف المتحركة قد يستغرق وقتا طويلا ورصدا مستمرا فان اي خطأ في اصابة مثل هذه الاهداف سوف ينتج عنه اضاعة لفرصة ثمينة قد لا يسنح لمثلها في المستقبل. هذا اضافة الى ما في ذلك من تبذير للصواريخ والقنابل الغالية الثمن التي تحملها مثل هذه الطائرات اضافة الى تنبيه العدو لأخذ التدابير والاحتياطات اللازمة لاخفاء مثل تلك الاهداف قدر المستطاع. كما يتطلب من قادة مثل هذه الطائرات سرعة البديهة والمناورة الدقيقة لتجنب اسقاط طائراتهم من قبل الدفاعات الارضية او الجوية للعدو.
فتدريب مثل هؤلاء الطيارين قد يستغرق وقتا طويلا من دروس نظرية وعملية يقضونها في الصفوف امام شاشات الحاسبات المتطورة التي تحاكي اهدافا واقعية متحركة يراد الانقضاض عليها تماما كما نراه في بعض الالعاب الالكترونية المنتشرة في محلات اللهو وبعض المقاهي اوالتي يمكن شراءها واللهو بها على الحاسبات الخاصة في البيوت. والغاية من مثل هذه الالعاب اصابة اهداف اللعبة المتحركة من جنود ومعدات وطائرت وغيرها وجميعها تتطلب مهارات فائقة من سرعة عالية في التفكير وردود الفعل المطلوبة ودقة وخفة عالية باليدين لاصابة العدو او تفادي اي اصابة منه.
ومن العجيب فان كل تلك المهارات المطلوبة لا تشتمل على الشجاعة الفائقة؟ فيكفي ان يكون قائد الطائرة متزن التفكير ، سريع البديهة ، ماهر التسديد ، حاذق المناورة ، والمراوغة بطائرته لتفادي نيران العدو اكثر من كونه شجاع.ا
كما تشمل سنوات الدراسة التعرف على انواع الصواريخ والقنابل والاعتدة الاخرى التي تستعمل للاهداف المختلفة. كما تشمل الدروس التعرف على جغرافية بلاد الاعداء والاسلحة المتوفرة لديهم من طائرات وصواريخ ارض جو وغيره.ا
انتهت الفترة الدراسية ليمنح الطلاب رتبهم ليلتحقوا بالوحدات الفعالة ليستمر التدريب اليومي دو انقطاع لحين صدور الاوامر لمشاغلة وتدمير الاهداف الحقيقية للعدو.
لقد كان ذلك الطيار عند صدور الاوامر له للقيام بمهمته الاولى معتدا بقيادة طائرته واثقا من قدرته على مشاغلة الاهداف سواء كانت ثابتة او متحركة مستعدا لتفيذ واجبه في قصف الاهداف التي اوكلت اليه وتدميرها بمن فيها من الناس. غير انه لم يكن متأكدا بانه مستعد لقتل البشر الذين لا يعرف عنهم شيء سوى انهم لابد ان يكونوا مثله لهم اولاد وزوجات وامهات واخوة واقارب واصدقاء.
لقد خطرت على باله مثل هذه الافكار من قبل لكنها لم تمس ضميره بالحاح كما هي الحال الان. فهو يعرف انه سيكلف بالقتل اضافة الى الإغتيال. اذن هو قاتل في كلتا الحالتين فهل هو مستعد الآن للقيام بذلك؟
لقد وجد عند ذلك بان الوقت على مناقشة موضوع القتل وتأنيب الضمير قد فات وقد حان وقت تنفيذ الاوامر دون تردد او تخاذل. هرع الى مقعده امام لوحات السيطرة التي امامه والتي يعرف عنها كل صغيرة وكبيرة ويستطيع تشغيلها وعيونه معصوبة كما يقال. وجلس بقربه مساعده الذي لا يبدو عليه اية علامة من علامات الاهتمام وكأن الامر لا يهمه من قريب او بعيد بل هو عمل روتيني كبقية الاعمال التي يمارسها بقية الناس في حياتهم اليومية. وبالرغم من انه يحب ان يقتنع بذلك المنطق كمساعده الا انه لم يستطع اقناع ضميره بان القتل والتدمير قد اصبح مهنة له سواء كان ذلك فعليا او بالتدريب المستمر عليه.
لقد حملت طائرته بصاروخين وقنبلتين وزودت بالوقود اللازم واصبحت جاهزة للاقلاع لقصف هدفه الذي يبعد عن قاعدته بآلاف الكيلومترات.

    

شغلت محركات الطائرة واتجهت نحو الهدف الذي يتألف من رتل من السيارات والشاحنات في احدى المناطق الجبلية الوعرة في افغانستان ليقوم بتسديد صاروخه الاول الى السيارة الاولى والصاروخ الثاني الى السيارة الاخيرة ليقوم بالقاء قنبلتيه الحارقتين على بقية االسيارات والشاحنات. لقد كان تسديده محكما نتج عنه تدمير معظم القافلة واضرام النيران فيها. لقد حدث ذلك بسرعة فائقة كان فيها مشدود الاعصاب غائبا عن ما حوله من الوجود سوى ذلك الرتل الذي يجب ان لا يخطئه مهما كلفه الامر ليبدأ حياته العملية وقد نفذ مهمته الاولى بنجاح باهر.
شعر بعد ذلك بهدوء تام فقد استنزفت المهمة كامل طاقاته العصبية والنفسية والجسمية ليترجل من مقعد القيادة ويعانق مساعده على نجاح مهمته الاولى ليقود سيارته راجعا الى داره لتناول العشاء بين زوجته واولاده ليقضي ليلته في نوم متقطع متذكرا كل دقيقة من دقائق تلك الغارة على ذلك الرتل من السيارات وما فيها من اشخاص ومعدات.
فكم يا ترى كان عدد القتلى؟ وكم كان عدد الجرحى؟ وعدد الذين اصابتهم الحروق؟ والاعاقة؟ وهل هو راض عن ما قام به؟ وهل كان باستطاعته التخفيف من الاصابات ليريح بعض الشيء من تأنيب الضمير؟ ام يا ترى بأنه قد اصبح آلة من آلات القتل والتدمير التي قد اتخذها كمهنة كأي مهنة من المهن الاخرى؟ وهل سيستطيع القيام بممارسة مهنته هذه مدى الحياة؟ وماذا عن اطفال اولئك الناس الذي تم قتلهم؟ ومن الذي سيعيلهم؟ وهل يرضى لأولاده مثل ذلك المصير؟ أسئلة كثيرة لا تكاد تحصى ولا تنتهى.
التهم فطوره بسرعة وبشبه غيبوبة عن ما حوله ليستقل سيارته ويذهب الى عمله في زحام شوارع احدى المدن الامركية ليجد نفسه في غرفة العمليات بمعية مساعده ورئيسه وآخرين من زملائه. شغلت الة الفيديو ليرى بالتفصيل ما حدث خلال غارته في الامس ليقوم بالتعليق على ذلك. كما قام الآخرون بطرح اسئلتهم واستفساراتهم حول الموضوع لتنتهي المناقشات ويتم الاتفاق بان المهة قد نفذت بدقة ومهنية عالية كللها النجاح الباهر باصابة الاهداف المطلوبة وتكبيد العدو خسائر فادحة.
اما طائرته فقد كانت في ذلك الوقت قابعة في مطار صغير على بعد آلاف الكيلومترات في احدى القواعد الامريكية في احدى دول الشرق الاسط الصديقة. فقد تم فحصها وتزويدها بالوقود ليعاد تسليحها بالصواريخ والقنابل والعتاد لتكون جاهزة لمهمتها القادمة التي ستنفذ في الوقت المناسب في اليمن ذلك البلد الذي سيبدأ بدراسة جغرافيته وشعبه وساسته وجيشه وتاريخه وما الى ذلك.
وحتى ذلك الحين فقد عاد الطيار للجلوس امام حاسبته الالكترونية للتدريب من جديد في ضوء مهمته الاولى في افغانستان لصقل مواهبه في دقة اصابة الاهداف بانتظار تلقي الاوامر الجديدة للقتل والتدمير التي يجب عليه ان ينفذها بدقة وبدون نقاش وليطرد تلك الافكار التي فيها شيء من تأنيب الضمير وليعود نفسه من الآن فصاعدا على طرد واماتت ذلك الضمير شيئا فشييء والا ستصبح حياته جحيما لا تطاق.
بقي الطيار يفكر في اختياره لمهنته الجديدة وعليه القيام بها بصورة جيدة من قتل واغتيال للآخرين وتدمير لعوائلهم في سبيل إعالة اولاده وزوجته!! فيا من مفارقة من مفارقات الحياة ما كان ليفكر بها من قبل.
غانم العناز
واتفورد - من ضواحي لندن
أيار 2017

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

854 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع