الوجود العثماني في العراق احتلال واستعمار ام امتداد للخلافة الإسلامية

 

                       

                             قاسم محمد داود

الوجود العثماني في العراق احتلال واستعمار ام امتداد للخلافة الإسلامية

كان العراق ولايزال ولأسباب عديدة منطقة صراع نفوذ وهيمنة بين القوى الإقليمية الكبيرة المتصارعة لذا تعرض على مدى تأريخه الى غزوات واحتلال وشهدت ارضه معارك عديدة .

وكان دخول العثمانيون الى العراق حلقة في تلك السلسلة الطويلة من الوقائع .ففي 25 تشرين الثاني سنة 1534م دخل السلطان العثماني سليمان الأول الذي يعرف باسم سليمان القانوني(1494م -1566م) بغداد وصار العراق ولاية عثمانية حتى سنة 1918م ليصبح تحت الانتداب البريطاني .اختلف الباحثون حول الحقبة العثمانية من تاريخ العراق التي استمرت أربعة قرون ،هل كان احتلال أجنبي أم وحدة تحت راية دولة الخلافة الإسلامية وهل كان العثمانيون سبباً في تخلف العراق ام اسهام في نهضة وعمران البلد ؟

قبل الإجابة سوف نحاول ان نعرّف الاحتلال والاستعمار لكي نعرف مدى ما يناسب حالة الوجود العثماني في العراق .

الكثير من المصادر تعرّف الاحتلال بأنه "استيلاء جيش دولة على جميع او بعض أراضي دولة أخرى خلال فترة غزو او حرب او بعد تلك الحرب وهو من احد اشكال الاستعمار وأكثرها وضوحاً وقدماً..." . اما الاستعمار فهو " ظاهرة تهدف الى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها من اجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهي بالتالي نهب وسلب لمعظم ثروات البلاد المستعمرة ، فضلاً عن تحطيم كرامة شعب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي ، وفرض ثقافة المستعمر على انها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة الى مرحلة الحضارة . "

تعرضت الدولة العثمانية للكثير من التحامل من قبل المؤرخين والمفكرين الاوربيين واطلقوا عليها الكثير من الصفات كان آخرها (رجل أوروبا ) المريض في محاولة لتشويه صورتها عند الشعوب الخاضعة لها ،متأثرين بدورها في اسقاط الإمبراطورية البيزنطية بعد فتح القسطنطينية سنة 1435م وتغيير الخريطة السياسية لأوروبا نهائياً واستيلائها على شرق أوروبا .الا ان هذا لا ينفي ان الدولة العثمانية العلية كما كانت تسمى دولة توسعية ، وسعت حدودها عن طريق الغزو تحت عنوان الجهاد في سبيل نشر الإسلام ، ففي الغرب وصلت الى حدود النمسا بعد ان احتلت البلقان واليونان ، وفي الشرق استولت على بلاد الشام والعراق وأجزاء كبيرة من الجزيرة العربية ، كما انها استولت على الشمال الافريقي بأكمله .

وعندما بدأ التوسع العثماني في أوروبا يواجه مقاومة شديد صار للعثمانيين الرغبة في التوسع والاستيلاء على أراضي جديدة والحصول على موارد مالية شرقاً ، إضافة الى تهديدات الدولة الصفوية وتحالفها مع البرتغاليين ورغبة كل من العثمانيين والصفويين في زعامة العالم الإسلامي أدى الى نشوء صراع بين الدولتين اللتين كانتا على طرفي نقيض مذهبياً .

استولى الشاه إسماعيل الصفوي (1487 -1524م) على العراق سنة 1508م وعمل على صبغة بالصبغة الشيعية ،ثم سعى الى نشر المذهب الشيعي في الاناضول ،فأثار بذلك السلطان العثماني خاصة وان الشاه كان يسعى الى التحالف مع ملك المجر ضد العثمانيين ، فرد السلطان سليم الأول (1470 -1520م ) على تحركات الشاه الصفوي بأن شن حرباً شاملة على الدولة الفارسية .ودارت المعركة الحاسمة بين السلطان والشاه في وادي جالديران سنة 1514م كان النصر فيها للسلطان العثماني .لم يشأ السلطان سليم الأول ان يتابع تقدمه ويستولي على العراق باستثناء شمال العراق والموصل التي ضمها اليه .اصبح العراق مطوقاً من الشمال والغرب بالدولة العثمانية ، لذلك صار حكام بغداد متذبذبي الولاءات بين الشاه والسلطان وعندما اعلن حاكم بغداد ذو الفقار الكردي ولاءه للسلطان رد عليه الشاه بالزحف بجيشه نحو بغداد ،لكن السلطان سليمان القانوني اسرع بالتوجه نحو تبريز ثم الى العراق واستولى على بغداد .

أصبحت بغداد ولاية عثمانية تدار من قبل الاستانة ، ولأهمية بغداد ودورها الثقافي والتاريخي ، كانت تحتفظ بالسيادة والهيمنة على ولايتي الموصل والبصرة كما كان ولاتها يتمتعون بمكانة متميزة ،وقد عين السلطان سليمان والياً على بغداد (سليمان باشا المجري ) وهو من اصل مجري (هنغاري ) الذي تولى ولاية بغداد من الفتح العثماني سنة 1534م حتى سنة 1536م ، واسندت اليه الايالات العراقية الأخرى (الموصل ، البصرة ، الاحساء ، شهرزور ) وزود بالقوات اللازمة لحفظ الامن والنظام .

يمكن ان نقسم الحكم العثماني في العراق الى خمسة عهود لكل منها طابعه الخاص حسب نوع الحكام والصراعات التي كانت تدور على الحكم وهي :

الاول :- يبدأ بدخول السلطان سليمان القانوني الى بغداد سنة 1534م حتى دخول الصفويين اليها مر أخرى سنة 1624م .

الثاني :- يبدأ من استعادة السلطان مراد الرابع بغداد من الحكم الصفوي سنة 1638م حتى بداية حكم المماليك سنة 1749م .

الثالث :- عهد المماليك الذي بدأ سنة 1749م وانتهى بنهاية حكم داود باشا سنة 1831م .

الرابع :- عهد حكم الولاة المعينين من استانبول مباشرة منذ سنة 1831م لغاية تعيين مدحت باشا والياً سنة 1869م .

الخامس :- منذ تعيين مدحت باشا سنة 1869م وحتى الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1918 م بعد سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى .

وضع الباب العالي نظام الحكم في العراق على غرار النظام الذي كان متبعا في بقية الإمبراطورية العثمانية . فكان الوالي على قمة الجهاز الإداري وكان معظم هؤلاء الولاة حتى سنة 1723م من حاشية السلطان ، وكانت القاعدة التي انتهجها السلاطين العثمانيين في تعيين الولاة لمدة سنة واحدة وتجدد بتعينه الى ثلاث سنوات ،هذه المدة قصيرة لا تمكنه من القيام بمشاريع مهمة ، فكانت السنين تمر والولاة تتغير فقد ذكر المؤرخون ان تسعة وثلاثون والياً حكم العراق بين 1639الى 1704م لم يترك واحد منهم عند عزله او نقله أي اثر يذكر ، سوى ترميم المساجد او بناء سدود ترابية تنهار بسرعة . وكان على الوالي ان يدبر أمور ولايته وان يرسل الأموال المقررة عليه سنوياً الى الباب العالي ، كان الوالي يعتمد في السنوات الأولى من الحكم العثماني على القوات الانكشارية (معنى الانكشارية الجنود الجدد ، وهي قوات مشاة من النخبة في الجيش العثماني تأسست في عهد السلطان مراد الأول 1362-1389م ) كما اعتمد الولاة على الاقطاعيين لمدهم بالمقاتلين عند الحاجة ،ولكن بسبب التمردات العديدة التي قامت بها القوات العثمانية لجأ الولاة الى تكوين قوات محلية تكون تحت امرتهم الا ان الانكشارية كانت هي الأقوى . كان النظام الإداري في العراق وبقية الولايات العثمانية الأخرى يعتمد على المدخولات الجديدة (الإيرادات ) وسخرت التنظيمات الإدارية لخدمة مصالح الدولة العثمانية الاقتصادية ، كان الوالي اعلى منصب أداري في العراق وهو حلقة الوصل بين ولاية العراق وبين مركز الدولة في العاصمة استانبول ، وسلطته تتمثل بفرض النظام وحفظ الامن وقيادة الجيش وفرض جباية الضرائب . ونتيجة للحروب العثمانية الصفوية التي استمرت لسنوات طويلة والحروب العثمانية النمساوية ، افلست الخزانة العثمانية . مما اضطر العثمانيون الى فرض ضرائب جديدة على الشعب عن طريق الملتزمين ( نظام اللزمة لتحصيل الضرائب ) اما بالاتفاق او المزايدة فيتلاعب هؤلاء بمقدار الضرائب المفروضة مستغلين عدم وجود رقابة ، ويدفعون الرشاوي الى كبار الموظفين من اجل الحصول على مساعدة الجندرمة للضغط على الذين لا يدفعون الضرائب .

وقد تعددت الضرائب فمنها الضرائب الديوانية وهي الضرائب التي صدرت بقانون من الديوان ( الهيئة الحكومية العليا في الولاية ) ، وهي على الاغلب تفرض على الأراضي الزراعية وما تنتجه من محاصيل وتتراوح نسبتها من 10الى 20% وهناك ضرائب تفرض على الفلاح وما يملك من حيوانات كالأغنام والابقار والابل تسمى ضريبة (الكودة ) وضريبة (الجزرة ) والتي تؤخذ على كل رأس ماشية يذبح ، وضريبة ( الدمغة )والتي تؤخذ على البضائع المباعة بالأسواق ، وضريبة البائع وتؤخذ عند مرور السلع من منطقة الى أخرى ، وضريبة ( الكَمرك ) وكانت تفرض على كل ما يستورد او يصدر من البضائع ، وضريبة ( المهنة ) يدفعها ذوي المهن الحرة . وقد بلغ مجموع هذه الضرائب ما يقارب الثمانين ضريبة ، والتي أصبحت ثقل على الشعب العراقي مما دفعهم الى التذمر والتمرد الامر الذي انعكس سلباً على مستوى الإنتاج .

اما في مجال التعليم فقد اهملت الدولة العثمانية ، خلال مراحل تاريخها تنشيط التعليم المدني الا في نطاق المدارس التابعة للهيئة الدينية الإسلامية ولم يتطور التعليم الا في بداية عهد السلطان عبد المجيد الأول (1823- 1861م ) وباقي السلاطين الذين تلوه . وينطبق الامر على العراق فقد بقيت أحوال التعليم تعاني من الركود وضعف المستوى الا ان قدوم الوالي مدحت باشا (1824- 1884م) حرك الأوضاع من خلال الإجراءات الإصلاحية التي نشط بها في مختلف مرافق الحياة ، فأنشئت اول مدرسة عام 1869م .

وعلى الصعيد الحضاري فقد كانت الحضارة العثمانية مزيج من حضارات الأمم التي سبقتها وحضارات الأمم التي عاصرتها . فبرز فيها اثر العرب وأثر الفرس من ناحية وأثر البيزنطيين وأثر الاوربيين من ناحية ثانية ، ويمكن ان يقال ان الحضارة العثمانية امتداد للحضارة والخلافة العربية الإسلامية ولكنه امتداد طبع بالطابع التركي وطعم بكثير من المؤثرات البيزنطية أولا ثم بكثير من المؤثرات الاوربية بعد ذلك . في جوهرها كانت الإمبراطورية العثمانية متعددة الأعراق ، الاسرة الحاكمة كانت تركية ولكن السكان كانوا من الاتراك والعرب والاكراد واليونانيين والارمن والبوسنيين والصرب والفرس وغيرهم ، لم يتبع العثمانيون سياسة التغيير القومي فحفظت القوميات المنضوية تحت لواء الدولة العثمانية بطابعها القومي الخاص .والمعروف ان الدولة العثمانية كانت دولة طبقية تعددت فيها الطبقات ،كما ان محاولات توطين العشائر العراقية في العهد العثماني الأخير لغرض السيطرة على هذه العشائر التي كانت تتمرد على الدولة ولا تخضع لسلطتها ، استحدثت الإدارة العثمانية نظام التسجيل الى العقاري(الطابو) فكان بداية لتشكيل النظام الاقطاعي وتحولت بيوت رؤساء العشائر الى بيوت اقطاعية كبرى ، وبذلك تغير طابع العلاقة بين ابن العشيرة ورئيس العشيرة فصارت علاقة الفلاح المعدم بالمالك الذي تحول الى اقطاعي .

وفي الختام لا يمكن القول ان الوجود العثماني في العراق لم يكن سبباً من أسباب التخلف الذي أصابه الا انه لم يكن السبب الرئيس فقد تسلم العثمانيون العراق والعالم العربي وقد ذبلت معظم معالمه الحضارية التي كانت قائمة قبل ذلك بخمسة قرون تقريباً ، ولكن أخطر ما أصاب العراق والعالم العربي خلال الحقبة العثمانية هو انغلاقه داخل حدود الإمبراطورية العثمانية وانعزاله تماماً عن المؤثرات الحضارية التي مرت على أوروبا ، بدءاً بعصر النهضة وفنونها وآدابها والإصلاح الديني وملابساته والاكتشافات الجغرافية ومضاعفاتها والحركة العلمية واتساع آفاقها وعصر التنوير والثورة الفرنسية وآثارها .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4597 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع