هيفاء زنگنة
الانتاج الفكري العراقي وطائفية حزب البعث
نعيش، حاليا، كعراقيين، مرحلة مظلمة، تختلط فيها الحقائق بالاكاذيب، وتجري فيها محاولات اعادة كتابة التاريخ، باستمرار، لاسباب متعددة، يلعب فيها تغير الاجندات السياسية وحاجة السياسيين إلى مأسسة وعي جماعي مستحدث، وهوية حسب الطلب، دورا كبيرا. يساهم في انجاح العملية، انحسار البحث الاكاديمي، العلمي الرصين، في اجواء خيبات الامل المتتالية، وحالة الاحباط العام، وانتشار الزيف الاعلامي، وعدم التدقيق في صحة ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي.
تعزز هذه الاسباب، مجتمعة، تغيير السردية التاريخية، وفق الاهواء السياسية، وتصاعد العواطف، وشعبوية الشعارات، مما يشكل مواقف الناس من الاحداث التاريخية، القريبة والبعيدة. فتكون الحصيلة متطرفة في تصورالماضي والحكم عليه. فهو الفردوس المفقود بالنسبة إلى البعض وعذاب الجحيم بالنسبة إلى آخرين. وبينما تنشط شريحة من الناس بتنقية وتنظيف الماضي من مساوئه، متحسرة عليه، تماشيا مع مصلحتها، تقوم شريحة أخرى باختلاق الاكاذيب وتضخيم مساوئ الماضي عن ذات الفترة. مما يجعل صورة الماضي ملتبسة إلى حد كبير، في غياب النظرة الموضوعية ومصداقية المصدر ومراوغة الذاكرة. الأمر الذي يمنح عمليتي التدوين والتوثيق أهمية قصوى، إذا ما أراد الشعب المحافظة على تاريخه وفهم حاضره وبالتالي بناء مستقبله.
تزايدت الحاجة إلى التوثيق والتدوين كرد فعل على تصاعد فبركة الاكاذيب، في فترة التهيئة للغزو الاجنبي للعراق، التي انطلقت في تسعينيات القرن الماضي، ومع شروع المعارضة بحملاتها لتوفير الشرعية الاخلاقية للغزو والاحتلال، من خلال اختلاق المظالم، احيانا، وتضخيمها في احيان أخرى. هدفها الاساسي، الاستجارة بالاجنبي، للتخلص من نظام قدمته إلى العالم باعتباره نظاما يعتاش على التمييز الطائفي والعرقي، بل وذهب البعض ابعد من ذلك في التسويق الطائفي، خاصة، مدعين تجذر الطائفية لدى الشعب وان لا خلاص منها غير التحرير والديمقراطية. وهي اكذوبة تماثل اكذوبة أمتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل وتهديده العالم خلال دقائق. الحقيقة هي ان النظام العراقي لم يكن طائفيا بل كان نظام حزب واحد بقائد واحد (باستثناء سنوات الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) سلط قمعه السياسي، اعتقالا وتعذيبا، بـ«عدالة» منقطعة النظير، على كل من حاول مس نظام الحزب والقائد «الضرورة». الا انه، خلافا لحبكة المظلومية، لم يكن طائفيا كما بتنا نعرف الطائفية في «العراق الجديد».
من الكتب الجديرة بالاطلاع، والصالحة لاثبات لا طائفية ولا عرقية العراق، فكريا ومجتمعيا، في عراق ما قبل الغزو، كتاب «النتاج الفكري العراقي لعام 1975»، من اعداد المكتبة الوطنية، واشراف وتقديم فؤاد يوسف قزانجي.
تشير المقدمة إلى ان الانتاج الفكري لعام 1975، من خلال التجميع الببلوغرافي الدقيق، قد بلغ 1178 كتابا وهو «أقل من كتب عام 74 وذلك لأن عام 75 هو عام مجانية الكتب المدرسية وانشغال المطابع بطباعتها لكافة المراحل الدراسية». حيث طبعت دار الحرية الحكومية، لوحدها، مليون ونصف المليون نسخة من الكتب الثقافية والمدرسية. الملاحظ من الجرد السريع لقوائم الكتب المصنفة حسب الموضوع واللغة، انها كتب جادة، عموما، معنية بشتى صنوف المعرفة، احتل حقل العلوم الاجتماعية، مثلا، حيزا كبيرا، بلغ 457 عنوانا. وقد شهد عام 75، بسبب اعلان الجبهة بين حزب البعث والحزب الشيوعي والحزب الثوري الكردستاني، ازدهارا في طباعة كتب لمؤلفين من مختلف الانتماءات السياسية أو معنية بنتاجات شخصيات أو موضوعات عابرة للانتماء الحزبي الواحد. فمن بين كتب وزارة الاعلام البالغ عددها 93 : الشبيبي شاعرا لقصي سالم، وتاريخ الحركة الديمقراطية في العراق لعبد الغني الملاح، ومجموعة اعمال ومراجع الفارابي التي بلغت 13 كتابا، صدرت بمناسبة الاحتفال بذكراه في العراق والاتحاد السوفييتي. ومن بين الكتب العلمية والتطبيقية «القوى العاملة في القطاع الزراعي» لغانم حمدون. كما تم نشر 88 كتابا باللغة الكردية وستة بالتركمانية. وتفند المطبوعات الكثيرة في مجالي الدين تهمة الطائفية والتمييز الديني، من بين الكتب المنشورة لمؤلفين يستحقون التوقف عند موضوعاتهم واسمائهم: بحث موضوعي في الجبر والاختيار لمحمد كاظم مصطفوي، ونظرية البداء عند صدر الدين الشيرازي لعبد الزهرة البندر، ومسلم بن عقيل في الكوفة لكامل سلمان الجبوري، وبحوث حول علوم القرآن لمحمد السعدي النجفي، ومعجم رجال الحديث لابو القاسم الخوئي، الحياة بعد الموت لصلاح الدين عبد المجيد، عقد الفضولي في الفقه الإسلامي لعبد الهادي الحكيم، عرفانيات ميرزا غلام رضا، الإسلام سبيل السعادة لمحمد الخالصي، كتاب الطهارة لحسين الحسيني الشاهرودي، الاحكام الشرعية المطابقة لفتاوى فقيه الطائفة ومرجعها الاعلى لمحمد التقي الحسيني الجلالي، موجز احكام الحج لمحمد باقر الصدر والصلاة معراج المؤمن لعبد الرضا الشهرستاني. بالاضافة إلى كتب عن التصوف، والدين المسيحي من بينها: تاريخ دير مار متي للبطريرك اغناطيوس يعقوب الثالث.
واذا كان النتاج الادبي هو احد المؤشرات على طبيعة المجتمع، فان فترة الانفتاح السياسي المؤقتة، في منتصف السبعينيات، بالاضافة إلى لا طائفية النظام، وفرت فسحة لنشر مطبوعات على غرار معالم جديدة في ادبنا المعاصر لفاضل ثامر. كنز الآخرة في مراثي العترة الطاهرة لفاطمة الوصيبعي. تحفة الباكين لمعصومة بنت الملا رضى، ابطال الشهادة على رمال كربلاء المقدسة لفاضل خضير الصفار، ايام صعبة ذكريات شيوعي من العراق لبهاء الدين نوري، تاريخ الجالية العراقية في المهجر لشمعون دابش، شذرات من مذكرات العلامة الفقيد الشيخ محمد رضا الشبيبي تقديم اسعد الشبيبي، ثورة النجف على الانكليز لحسن الاسدي، والاقلية اليهودية بالعراق خلدون ناجي معروف، بالاضافة إلى المطبوعات باللغة الكردية، واصدارات مركز الدراسات الفلسطينية.
واذا كان هناك تنوع كبير وحرية في تصنيف الموضوعات، الا انها سرعان ما تنتفي عند تناول المطبوعات المصنفة تحت المطبوعات السياسية. حيث يقتصر الموجود على كتاب و3 كراسات تضم خطبا لاحمد حسن البكر (الرئيس) وكتابين وكراسين لصدام حسين (نائب الرئيس) وكتابين لميشيل عفلق، وثلاثة كتب للحزب الثوري الكردستاني، واربع مطبوعات للقيادة القومية والقطرية لحزب البعث.
يعكس النتاج الفكري لعام 1975، طبيعة المجتمع العراقي بكل تنوعاته الدينية والمذهبية والعرقية وغناه الذي يبدو منسيا هذه الايام لفرط سموم التمييز والفساد المغروزة في عروقه، كما يبين القدرة والطاقة الخلاقة التي يتمتع بها، وامكانية استعادتها، فيما لو توفرت له، ولو فسحة صغيرة من الحرية السياسية والفكرية.
891 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع