من لندن الى بغداد حقيقة الرحلة الاولى

                                                     

                                   د.سعدالعبيدي

قليل ما هدأت هواتف العراقيين المقيمين في بريطانيا خلال شهر شباط، يُخبر أحدهم الآخر، يبشره أن الخطوط الجوية العراقية، ستسيّرُ رحلات لها مباشرة من لندن الى بغداد، تعيد مجدها القديم وترفع اسم العراق عاليا.

تنافس باقي الخطوط العالمية المملوكة لدول كبرى، من حيث الامان والخدمة وامتداد الخطوط. وبدأ الحجز، حتى أن بعضهم لغى حجزا كان قد أتمه على خطوط أخرى، ليتشرف بالمساهمة في الرحلة التاريخية الاولى مساء يوم 5/3/2013. مدفوع بما تبقى من مشاعر وطنية. حظر المحظوظون بتسجيل أسمائهم في هذه الرحلة، غالبيتهم من كبار السن رجالا ونساء، يحدوهم الامل بتأكيد عراقيتهم عن طريقها "الرحلة" قبل مغادرة دنياهم بجناسٍ وجوازات أجنبية. يُستقبلون من فضائيات، يجري بعضهم لقاءات، يستبشرون خيرا، تزداد في دواخلهم مشاعر الاعتزاز بالعراق. ينجزون الخطوة الاولى، يدخلون السوق الحرة، يتكلمون مع بعضهم عن يوم عظيم هذا الذي عاودت فيه الخطوط نشاطها من جديد. يجلبُ أنظارهم بردة فعل ساخنة ما ورد على اللوحة الالكترونية، تأخير في الاقلاع مدته خمسون دقيقة دون باقي الرحلات لباقي الخطوط التي تتسابق لتسجل التزاما بالدقائق المعدودات. يبدأ اللوم البسيط للذات العراقية، يقول أحدهم باللهجة الدارجة (هاي مو خوش بشارة) يتدخل آخر أكثر تفاؤلا، فيرد على اللوم الجاري، بالتأكيد أن المسألة عادية وتجري في كل الخطوط. تنتهي الخمسين دقيقة، ويُحَدد المجال "المخرج" الذي يوصل الى الطيارة، ويصعد الجمع بين متفائل ومتشائم، يدخلون في نقاشات يحاولون الابتعاد فيها عن السياسة، تنتهي الخمسين دقيقة، وتبدأ أخرى، ويفتح الخرطوم المؤدي الى الطائرة التي كانت من النوع الاحدث في كل شيء الا  الطاقم الذي ينتسب اصحابه الى زمان آخر غير هذا الزمان. تنسي حداثتها ونظافتها المتشائمين، أفكارا يحاولون تأكيدها.، يتم الترحيب بالركاب، بطريقة موجزة، يعقبه دعاء السفر، تُربط الاحزمة، يقل التشاؤم، تستعرض اجراءات السلامة منقوصة باللغتين العربية والانجليزية. يتوقف كل شيئ بلا سبب. يترك الركاب على حالهم. تمر ساعة جلوس، يعلن قائد الطائرة، خمس عشر دقيقة للاقلاع. تتوقف النقاشات مؤقتا. وينتهي النقد الحاد. تمر ساعة بعد هذا الوقت المحدد، يخرج أحد الركاب، يصرخ من مكانه، (لماذا هكذا. نحن بشر ولسنا حيوانات. أعلمونا ما يجري). صخب من الركاب، يقابله سكوت مطبق من الطاقم الذي لا يعلم شيئا، سوى الرد بصيغة تهرب، (سنقلع ان شاء الله). ينهض البعض من أماكنهم احتجاجا، يعلن قائد الطائرة، مصري الجنسية كما يقال، عن فتح أبوابها، للنزول الى الصالة حتى الايذان بالاقلاع من سلطات المطار البريطاني، يصطدم الساعون الى الخروج بممانعة موظف بريطاني يقف في باب الطائرة من جهة الخرطوم. يحتدم النقاش. يضع واحد من الطاقم العراقي أسباب التأخير على أكتاف السويديين الذين أخروا الاقلاع أثناء المجيء الى بريطانيا، ويحمل آخر مسؤوليته على سلطات المطار البريطانية، التي لم تأذن بالاقلاع. يتقدم عراقي جريئ مكفول بجوازه البريطاني على الارض البريطانية وبلغة انجليزية جيدة، يعنف الموظف البريطاني الواقف بالباب بشدة على التأخير في منح الايذان بالاقلاع. يجيبه ببرود البريطانيين المعهود، وبقبول للانتقاد، (سيدي أن الامر برمته لا يخص البريطانيين. المسألة وما فيها أن الخطوط الجوية العراقية لم ترسل خطة الطيران، ونحن بانتظارها، وحالما تصل ستقلع الطائرة على الفور، هكذا هي أصول الهبوط والاقلاع من المطارات).
يسكت الجميع من فرط المفاجئة. ثلاث ساعات تأخير، لم يعتذر أحد من الطاقم، لم يقدم شيئا لتلهية الركاب الغاضبين، سوى الماء بطلب مسبق، وبكوب صغير، لان كمه قليل كما تقول أحدة المضيفات. يعلن الموظف البريطاني عن وصول الخطة من بغداد، تقلع الطائرة بطريقة مستعجلة لا يعيد قائدها التأكيد على ربط الاحزمة، لانه يريد الاقلاع، تخلصا من اللوم في تجربته الاولى على هذا الخط الجديد. أربعة ساعات طيران بعد ثلاث ساعات تأخير، ودخول ثان لمرافق الطائرة الصحية، يجد الداخل وكأن المكان قد تبدل، روائح كريهة، المياه على الارضية. يحاول ايجاد تفسير، يصله التفسير جاهز من اشارة للجالس بجنبه الى سيدة تحمل قنينة ماء أخذتها معها الى المرافق الصحية، لتستعملها بعد قضاء حاجتها، خرجت منها وهي فارغة تركتها على ارضيتها المشبعة بالماء، يؤكد أنها ليست الوحيدة، فقد سبقها رجل أصرعلى أخذ قنينة ماء والدخول بها مؤكدا حاجته اليها بقصد الوضوء. يستمر الحال، ينكشف الصباح، ينزل أحد الطاقم من المضيفيين الجويين حقيبته من على الدرج العلوي للطائرة، يخرج منديل تنشيف، وفرشة تنظيف أسنان ومعجون. يأخذ معه قنينة ماء ويدخل ذات المرافق الصحية. الامر غريب، شكوى من قلة ماء الشرب، وتبذير بالماء لاغراض الاغتسال والتشطيف، والاغرب تصرف هذا المضيف بوزنه الثقيل الذي لم يشاهد مضيف قد فعل فعلته على جميع الخطوط العالمية. يستحق فعله تسجيلٍ في موسوعة الارقام القياسة، ويستحق الاشادة به معتنيا  مثاليا بالاسنان من قبل منظمة الصحة العالمية.
كل شيء بدأ جميلا، وطنيا، ينعش الآمال، لينتهي:
تأخير غير مبرر، كان يمكن تجاوز حصوله في أول رحلة يسجلها التاريخ.
استهانة بانسانية الانسان العراقي، كان يمكن تجاوزها باعطاء تفسير صحيح لما يجري، وتحمل مسؤولية التأخير.
تخريب تدريجي غير متعمد لطائرة نزلت توا الى الخدمة، تمثل صرحاعراقيا، يفترض المحافظة عليه، بالزام الركاب على الالتزام بقواعد الطيران حتى في الحمامات المجهزة أصلا بالماء المناسب للاغتسال.
وختاما لابد من التذكير أن تكرار التأخير في المجيئ، سيربك خطط الطيران التي ينظمها الحاسوب، وتكرارها سيدفع سلطات المطار البريطانية وغيرها من الاوربية الى رفض أستخدام مطاراتها من طائرات تتسبب في أثارة الارتباك. اذاما تم الاخذ بالاعتبار ان  كل حركة فيها بمقياس ثوان معدودات، ينظمها حاسوب لا ينفع التدخل بمجريات عمله من قبل الكتل والاحزاب.   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

653 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع