موفق نيسكو
هل كرسي أورشليم رسولي؟ وهل البطريرك ساكو وريثهُ؟
بعد أن قامت روما والانكليز بتسمية بعض السريان (آشوريين وكلدان حديثاً) لأغراض سياسية عبرية، لأن الآشوريين والكلدان الحاليين ينحدرون من الأسباط الإسرائيليين الذين سباهم الآشوريون والكلدان العراقيون القدماء، ولشهرة الاسمين في التاريخ والكتاب المقدس، برزت اسطوانتان، الأولى سنة 1912م من قبل المطران الكلداني- الآشوري أدي شير، وهي نحن سليلي الآشوريين والكلدان القدماء، لعل العالم يفهم أكثر ويلبي طلباتهم بهذين الاسمين، وتحدثنا عن هذا الأمر كثيراً، والثانية، أسطوانة الاعتزاز بانتمائهم الإسرائيلي ونحن وريثي كرسي أورشليم، والعراق بلد اليهود الثاني، وخرائط ووثائق..إلخ، ولم نكن كرسياً أنطاكياً، وهذه الاسطوانة أيضاً برزت بتشجيع بعض الغربيين، لكن العلامة الكبير الفونس منكانا +1937م من كنيسة الكلدان شكَّكَ في قصة أدي وماري واعتبرها أسطورة، وهي القصة التي يعتمد عليها الكلدان والآشوريين الحاليين الجدد في تبشير كنيستهم في ساليق، قطيسفون، (المدائن) أو كما يُسمَّونها خطأً، كنيسة أو كرسي بابل، وأثبت منكانا أن كنيسة المدائن هي سريانية أنطاكية، ونشر ذلك في الطبعة الفرنسية 1907م، ص 78 و122، فطلب منه بطريرك الكلدان عمانوئيل توما +1947م حذف الأمر وإيقاف طبع الكتاب، لكن منكانا طبعه، فغضب البطريرك عليه، وهجر منكانا كلية اللاهوت والكنيسة وغادر العراق في ريعان شبابه في 17 آذار سنة 1913م ليستقر في بريطانيا إلى وفاته، وقد نعت المتشددون منكانا بنعوت شتى، ومنهم البطريرك ساكو، الذي عادت اسطوانة، أن كرسينا لم يكن أنطاكياً، وهو سليل أورشليم لتبرز بقوة على يده في مقالاته وعظاته الكثيرة منذ كان كاهناً وإلى الآن، تبعه آخرون، أمَّا السبب فهو بدون شك سياسي، لا تاريخي، ولا ديني، وهو: لعل العالم يفهم مطالبهم أقوى وأسرع.
إن عقدة الكلدان الحاليين ومعهم الآشوريين النساطرة الغير تابعين لروما، هي أن كرسي كنيستهم، وبطريرك الكلدان الحالي غير معترف به من قِبل روما والفاتيكان أنه كرسي رسولي، أسوةً ببطاركة الأقباط الكاثوليك، السريان الموارنة، السريان الكاثوليك، السريان الملكيين (الروم الكاثوليك)، الذين يستمدون رسوليتهم من أنطاكية، ولذلك إذ استطاع الكلدان والآشوريين أن يثبتوا أنهم وريثي أورشليم، ربما سيعزز ذلك مطالبهم السياسية، لأنه في كل تاريخ كنيسة روما وإلى اليوم، لا مكان لجلوس بطريرك بابل أو الكلدان في المجمع الشرقي، وقد نص الباب 4، قانون 59، بند 2، من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، الكنائس البطريركية، التي صدرت في عهد البابا يوحنا بولس الثاني في 18/ 10/ 1990م: إن ترتيب التقدّم بين كراسي الكنائس الشرقية البطريركية القديمة هو كما يلي: في المقام الأول الكرسي القسطنيطيني يليه الإسكندري، فالأنطاكي فالأورشليمي، والقانون 59 من الباب الرابع استند إلى القانون 55: إن النظام البطريركي قائم في الكنيسة، وَفقًا للتقليد الكنسي العريق في القدم الذي اعترفت به المجامع المسكونية.
وكرسي ساليق أو المدائن قطعاً يستمد رسوليته من كرسي أنطاكية أيضاً، وحتى البطريرك ساكو رغم أنه يؤكد أن كنيسته يهو- مسيحية وسليلة أورشليم، لكنها يقول أن كنيسته لم تخضع لأورشليم كنسياً وإدارياً، مجلة بين النهرين 1996م، ص212، أي أنه يريد أن تكون مستقلة وسليلة أورشليم، ولن نستشهد بوثائق كثيرة من كنيستهم، قبل وبعد وثيقة كوركيس مطران أربيل 945م، والتي نكتفي بها، والتي يؤكد أنهم كانوا تابعين لأنطاكية قبل أن يعتنقوا النسطرة وينفصلوا عنها، وكانوا يذكرون اسم بطريرك أنطاكية قبل جاثليقهم. (والجاثليق رتبة أقل من بطريرك أنطاكية، ولقب البطريرك لكنيسة المشرق تاريخياً هو جاثليق وليس بطريرك).
الكراسي الرسولية في المسيحية
من الحقائق الثابتة في التاريخ، أن الكراسي الرسولية في المسيحية هي ثلاثة فقط، محصورة في العواصم القديمة، أنطاكية، روما، والإسكندرية، التي لها السلطة والسلطان، كلٌ على كنائس مناطقهِ، وروما لا تعترف تاريخياً، إلاَّ بهذه الثلاثة، وهذا ما أقره المجمع المسكوني الأول سنة 325م في قانونه السادس والذي يعتبر المجمع الأساسي وحجر الزواية لكل الكنائس المسيحية الرسولية التقليدية إلى اليوم، وعندما نقل الإمبراطور قسطنطين الكبير +337م عاصمته من روما إلى القسطنطينية، اعتُبرت القسطنطينية كرسياً رابعاً، وقد أغاض روما هذا الأمر، لكن قوة الإمبراطور الذي رعى وحضر مجمع نيقة من جهة، ومن جهة أخرى أقنعوا أسقف روما أن القسطنطينية هي نظير روما، واسمها هو "روما الجديدة"، وكرسي روما هي المقر الديني الأصلي، والقسطنطينية مقر الكرسي الملكي أو المدني، فوافقت روما ظاهرياً على مضض، وأقرَّ ذلك مجمع القسطنطينية المسكوني 381م في القانون الثالث: (يكون لأسقف القسطنطينية مكان الإكرام بعد أسقف روما، لأن القسطنطينية هي روما الجديدة)، وثُبِّتَ ذلك في الجلسة الخامسة عشر وفي القانون الثامن والعشرون من مجمع خلقيدونية المنعقد في 31 تشرين أول سنة 451م، وفي الجلسة السابعة وتقديراً لمكانة القدس المسيحية، مُنح أسقف القدس الذي كان يخضع لمطران قيصرية فلسطين الخاضع لبطريرك أنطاكية السرياني لقباً شرفياً بعد القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية، عُرف بعدئذٍ بالبطريرك الخامس، أمَّا روما فكانت تُسمِّيه متعمدة أحياناً البطريرك الرابع، لأنها لا تعترف باستقلالية القسطنطينية وتعتبرها نظير روما.
وبقيت روما معترضة زمناً طويلاً على رسولية كرسي القسطنطينية، وكانت روما دائماً تعتبر نفسها لها الأولية على القسطنطينية التي تأسست بقوة الإمبراطور وتعتبرها ظلِّها (روما الجديدة)، ومكانتها مدنية فقط لأنها مقر الملك وتُسمِّيها مركز كنيسة القسطنطينية الملكي، وكان نواب لاون أسقف روما (لقب البابا متأخر، وكان سابقاً يُسمَّى أسقف روما، وثبت لقب البابا نهائياً سنة 1073م) غائبين عن جلسة 31 تشرين أول في مجمع خلقيدونية 451م، وفي جلسة 20 تشرين الثاني اعترض نواب لاون على القانون الثامن والعشرون، وقد اعترض لاون نفسهُ على القانونين الثالث من مجمع القسطنطينية والثامن والعشرون من مجمع خلقيدونية في رسالته إلى الملك مرقيان وأناطاليوس أسقف القسطنطينية، قائلاً: إن الامتيازات التي حصلت عليها كراسي روما، الإسكندرية، وأنطاكية في مجمع نقية 325م يجب أن تبقى ثابتة غير متزعزعة لأنها مُرتَّبة بروح الله، وقد اعترف آباء روما أن القانونين نُفذا رغم اعتراض لاون عليهما. (مكسيموس مظلوم +1855م، بطريرك الروم الكاثوليك، الكنز الثمين، ج3 ص289). والبطريرك ساكو نفسه يؤكد أن كرسي القسطنطينية مُستحدث على أسس سياسية واجتماعية، وليس على أساس رسولي (لويس ساكو، آباؤنا السريان، ص25).
البابا غريغوريوس الأول +604م في رسالته إلى فليجيوس بطريرك الإسكندرية الخلقيدوني يعتبر الكراسي الرسولية هي ثلاثة فقط، لمؤسس واحد هو بطرس، مؤسس كرس أنطاكية الأول، ومعلم مرقس، قائلاً: إن بطرس الرسول ثبَّت كرسي أنطاكية وجلس عليه، ونحن روما والإسكندرية وأنطاكية ثلاثة أساقفة، وهم واحد لواحد مع بطرس، لأنه استراح واستحق إن يتمم الحياة الوقتية في روما، وهو الذي زيَّن كرسي الإسكندرية بإرساله تلميذه الإنجيلي (مرقس) إلىيها، وسنة 866م قال البابا نيقولاس الأول إلى مجلس شورى بلغاريا في منشوره رقم 92: لا يوجد في المسيحية سوى ثلاث كنائس رسولية هي: روما، الإسكندرية، وأنطاكية، أمَّا القسطنطينية وأورشليم فهما بطاركة أسماء فقط، لأن القسطنطينية لم تذكر في مجمع نيقية ولم يؤسسها رسول، إنما دُعيت روما الجديدة بمنحة ملوكية أكثر منها عدالة. (الأرشمندرينت جراسيموس اللاذقي، تاريخ الانشقاق، 1891م، ج1 ص310-311، ج2 ص454. وايسذورس، الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة، ج1 ص39، ج 2 ص 49-50، وأنظر قول العلّامة ايرونيمس في مشاهير الرجال ف1، ورسالة لاون الروماني إلى أنطاليوس القسطنيطيني سنة 451م. وميخائيل تاميزيه اليسوعي، الرتبة البطريركية، أصلها وتاريخها وحقوقها، مجلة المشرق، 1902م، ص435، 589 وبعدهما، معززة بمصادر تاريخية، وأن روما والإسكندرية وأنطاكية فقط كراسي رسولية، ويسُمِّيها الانتصار المثلث). ولم تعترف روما باستقلال كرسي القسطنطينية إلى بعد الانفصال الكبير لكنيستي روما والقسطنطينية سنة 1054م إلى كاثوليكية وأرثوذكسية، فعندما أصبح اللاتين أسياد القسطنطينية بواسطة الفرنجة "الصليبين"، أعلن البابا اينوسنشيوس الثالث +1216م في المجمع اللاتراني الرابع أن كرسي القسطنطينية له التقدم على الإسكندرية وأنطاكية وأورشليم، ومع ذلك استهان بالاعتراف مستشهداً بسفر حزقيال 1: 10، فقال: فلترتفع كرسي القسطنطينية لأن الحيوانات الأربعة الموصوفة حول العرش، تجعل حزقيال وجه النسر فوق الحيوانات الأخرى، أي البطريركيات الأربعة، القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية، وأورشليم، هي المرموز لها بالحيوانات التي هي في دائرة الكرسي المقدس (روما). (كيرلس مقار، بطريرك الأقباط الكاثوليك، الوضع الإلهي في تأسيس الكنيسة، 1917م، ج 2 ص171-173).
هل كرسي أورشليم (القدس) رسولي؟
إن كرسي أورشليم القدس لم يكن في يوم من الأيام وإلى اليوم كرسياً رسولياً (بمعنى له سلطة وسلطان على الكنائس الأممية الأخرى)، فكنيسة أورشليم القدس تُعبر الكنيسة الأم، وكان كرسيها خاص باليهود المتنصرين، وأحدث هؤلاء مشاكل كثيرة يطول شرحها، وأول أسقف لهم، هو قريب السيد المسيح مار يعقوب الذي يُسمَّى أخو الرب، ورجمه اليهود سنة 62م، ثم تم خراب أورشليم سنة 70 م، فتشتت المؤمنين من أورشليم ولم تعد هناك كنيسة فيها ، ومنذ سنة 135م بدأت تنمو في القدس كنيسة صغيرة تابعة لمطران قيصرية فلسطين الخاضع لبطريرك أنطاكية السرياني، وكان مطران أورشليم دائم التذمر بحجة أنه أسقف كرسي أورشليم الأم، وفي مجمع نيقية 325م وتقديراً لمكانة أورشليم، قرر القانون السابع منح أسقف أورشليم المقام الثاني في الكرامة بعد مطران قيصرية فلسطين: "ليكرَّم أسقف القدس وليكن له المقام الثاني في الكرامة دون أن تُمس حقوق المطرانية "، ومنذ تولي يوبيناليوس أسقفية أورشليم سنة 422م، كان مشاكساً وكثير التذمر، وفي مجمع إفسس 431م حاول يوبيناليوس استغلال القانون السابع من مجمع نيقية والتمرد على مطران قيصرية وعلى بطريرك أنطاكية مطالباً اعتبار نفسه الثاني بعد بطريرك روما وبسلطته على ولايتي فينيقية والعربية، فوبَّخهُ جميع الآباء، وتصف المصادر الكاثوليكية التي ينتمي لها البطرك ساكو، يوبيناليوس: المتعجرف، المحتال، المراوغ، المستغل للقانون، ومزوِّر التاريخ والتقليد..الخ، وكان يوبيناليوس مدافعاً قوياً ضد النسطورية والأوطاخية فأحبه الشماس لاون (أسقف روما فيما بعد، أي البابا)، وفي مجمع خلقيدونية 451م لعب يوبيناليوس دوراً مهماً وساند بقوة صديقه لاون الذي أصبح أسقف (بابا) روما ، فتمتع بمكانة محترمة أكبر لدى لاون، وطلب المجمع من بطريرك أنطاكية مكسيموس حل الخلاف مع يوبيناليوس، وفي الجلسة السابعة تم الاتفاق بين مكسيموس ويوبيناليوسن فسُلخت ولايات اليهودية والسامرة والجليل من بطريرك أنطاكية وأعطيت ليوبيناليوس، مقابل إسقاط إدِّعائه بخصوص السلطة البطريركية ومقارنة نفسه ببطريرك أنطاكية، وكذلك إسقاط مطالبته بالسلطة على مقاطعتي فينيقة والعربية التي بقيت تحت سلطة بطريرك أنطاكية، ومُنح يوبيناليوس لقب شرف فقط، بعد القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية، وليس لقب أسقف كرسي رسولي، وسُميَّ البطريرك الخامس (أو الرابع أحياناً من روما)، وقد تندَّم بطريرك أنطاكية مكسيموس بالتسرع بتلبية مطالب يوبيناليوس، فكتب إلى لاون بذلك، فوجَّه لاون رسالة جوابية برقم 119: 92 في 11 حزيران 453م، يصف مطامح يوبيناليوس بأقسى العبارات، وأنه سيقوم بكل ما في وسعه لحفظ مقام وكرامة بطريرك أنطاكية حسب التقليد، ثم حكم ببطلان هذا العمل، لكن يوبيناليوس أصم أذنه عن أوامر لاون، هو ومن بعدهُ أساقفة أورشليم وتصرفوا كبطاركة، وأحبار روما لم يقروا بقانونية هذا العمل واعتبروه احتيالاً ومرواغة لأن كرسي أورشليم هو شرفي وليس رسولي، وليس له سلطان على أحدٍ سواه، ولم يتم معالجة الأمر إلى المجمع اللاتراني الرابع سنة 1215م الذي أيضاً أبقى أسقف أو بطريرك أورشليم على مكانة شرف فقط. (مجموعة الشرع الكنسي "الكاثوليكي"، ص59-63. تاميزيه، ص589 وبعدها. وأنظر تاريخ زكريا الفصيح +537م، ج1 ص156 (سرياني)، وأنظر البطريرك السرياني يعقوب الثالث، تاريخ الكنيسة الأنطاكية، ج2 ص173-174، 192، 198).
فهل كرس أورشليم رسولي؟، وهل هناك رعية واحدة في العالم إلى اليوم تتبع كرسي أورشليم خارج فلسطين، فكيف ولماذا يدعي البطريرك ساكو أن كرسيه سليل أورشليم؟، وهل يستطيع إقناع العالم، وحتى روما التي تقول إن الكراسي مُرتَّبة بروح الله ولا تتزعزع؟، فتضحي وتغير تاريخها وتضرب كل قرارات المجامع المسكونية الأولى وتدخل في مشاكل مع الكنائس الرسولية الأخرى، لشيء غير حقيقي، ولأغراض سياسية من أجل500 ألف شخص اسمهم كلدان، ومعهم حوالي 300 ألف شخص اسمهم آشوريين، وهم غير كاثوليك، فمثلاً لو كان عدد الكلدان والآشوريين على الأقل 100 مليون وكلهم كاثوليك، ربما ضربت روما التاريخ لكسبهم واعتبرت كرسيهم تابع أو سليل أو وارث كرسي أورشليم الشرفي، الغير رسولي، ولو كان عددهم 200 مليون مثلاً، ربما ستضحي روما وتعتبر كرسيهم رسولي مستقل، لكن حتى في هذه الحالة، سيكون كرسي البطريرك ساكو على أساس سياسي أو اجتماعي أسوةً بالقسطنطينية كما يقول هو، وأيضاً لن يجلس البطريك الكلداني، إلاَّ سادساً، وليس قبل بطاركة الكراسي الأخرى، ولنفرض أن روما فعلت ذلك، فهل سينتقل البطرك ساكو ليدير كرسيه من أورشليم؟، لا نعتقد ذلك، لأن بطريرك أورشليم اللاتيني الجالس في أورشليم له الصدارة، أم أن البطريرك ساكو يطمح تأسيس كنيسة في العراق سليلة أو نظير أو وريثة كرسي أورشليم؟.
وشكراً/ موفق نيسكو
3842 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع