القوانين الكونية التي تسود عالمنا الكوني والأرضي والإنساني / القسم الأول

                                                        

                        القس لوسيان جميل


القوانين الكونية التي تسود عالمنا الكوني والأرضي  والإنساني / القسم الأول

القراء الأعزاء! ان عنوان هذا الكتاب هو كيف نتكلم عن الانسان اليوم. ولكن ربما حصلت لبعضكم مفاجأة منذ البداية، بعد ان وجدتم هذا العنوان الذي يتكلم عن القوانين التي تسود عالمنا الكوني والأرضي والإنساني، وغيرها من القوانين والظواهر الكونية التي تتعلق من قريب او من بعيد بالإنسان. غير انني بالحقيقة لم اكن غافلا عن مثل هذا التساؤل. ولكن وضعت هذا العنوان وما يشبهه بسبب " العلاقة " الكبيرة الموجودة بين قوانين المادة الكونية وبين الانسان، حيث نأمل من ذكر القوانين الكونية إن نتعرف على طبيعة الانسان، كما نأمل ايضا ان نعرف حقيقة الكون نفسه بعد معرفة حقيقة الانسان، عن طريق استقراء حقيقة الانسان استقراء علميا، بعد ان تقدمت علوم الانسان تقدما يتيح لنا مثل هذا الاستقراء. 

منظومة الانسان وأبعادها: هذا ومما لا شك فيه هو ان فهم اية منظومة يتطلب فهم جميع الأبعاد التي تتكون منها، والتي قد نجدها في اكثر من اتجاه، سواء كانت هذه المنظومة متكونة من بعدين ام من ثلاثة ابعاد ام اكثر، حتى ان اهمال اي بعد بتعمد او نتيجة الجهل، يشكل خطرا جسيما على فهم المنظومة المطلوب فهمها. كما ان اهمال اي بعد يؤدي الى تضليل لا تحمد عقباه. اما هذا الكلام فهو ينطبق على كثير من البنى الأنثروبولوجية والمنظومات الثانوية، وهي كثيرة لا يسهل عدها، مثل بنى الايمان والدين واللاهوت، ومثل بنى الكلمة التي تحوي معناها ومبناها، وكذلك مثل بنى القسسية والكهنوت، حيث تكون القسسية خدمة كنسية، تحتاج تخويلا كنسيا، في حين ان الكهنوت صفة تتبع الايمان بشكل خاص ومباشر، ولا يعود لأي تفويض، اللهم الا اذا كان هذا الكهنوت هو كهنوت العهد القديم الذي كان في احد ابعاده يعود الى امة العهد القديم. علما إن هذا الكهنوت كان قد وضع على عاتق احد اسباط بني اسرائيل. اما الانسان فلا تقتصر ابعاده على بعدين او ثلاثة، لكنه منظومة تحتاج الى علماء الحياة Les biologistes والى علماء الاجتماع، وعلماء النفس، وعلماء التاريخ والتاريخ الحضاري، وعلماء آخرين كثيرين، لكي يستطيعوا، متضامنين مع بعضهم، ان يعرفوا شيئا مهما من حقيقة الانسان. هذا فضلا عن الفلسفات بكل انواعها الشرقية والغربية، وفضلا عن العلماء المختصين بالفنون والتراث الشعبي، والشعراء وعلماء اللاهوت وعلماء الأخلاق وغيرهم. هذا وان نسينا فلا ننسى علماء الآثار وعلماء البشر البدائيين، وعلماء وفلاسفة يمكن ان يتخصصوا بمعرفة احوال الانسان القديم، والإنسان المعاصر، وإشكاليات حياته، ولاسيما اشكاليات حياته الفلسفية، مثل صراع الطبقات ومثل القوانين التي تنظم حياة الانسان اثناء الحرب وأثناء السلم. وعليه، وبما جاء اعلاه سوف نعرف إن الانسان كون مصغر، كما يقال Micro cosmos ؟
فيما يخصنا: اما فيما يخصنا، نحن الذين لنا اهتمامات متعددة الجوانب في كل ما يخص الله ويخص الانسان، في بعض احواله المهمة، ولنا منهجية لاهوتية انثروبولوجية تساعدنا على معرفة الله ومعرفة الانسان بشكل افضل، فيكون من حق القراء ان ينتظروا منا ان نذهب الى ابعاد الانسان الكبرى Macro structures والى ابعاده الصغرى Micro structures لكي نستطيع ان نوفي حق الانسان، من جهة معرفتنا بحقيقته، ومن جهة تعريف الآخرين بهذه الحقيقة، ولو يكون ذلك عن بعد وليس عن كثب. ولذلك نخالنا نعمل كالعصافير نلتقط الحبوب، اي المعلومات، من اي مكان نستطيع الوصول اليه.
فهل عرف القارئ العزيز لماذا اضطررنا ان نبدأ عملنا المعرفي بالتعرف على القوانين الكونية والإنسانية التي تسود عالمنا الكوني والأرضي والإنساني؟ لقد فعلنا ذلك، لأننا اردنا ان نذهب فـي عملنـا المعرفي للإنسان، الى اعمق واعلي ما نستطيـع، في تعريفنا للإنسان، مع اننا ليست لنا اية دراسة علمية تذكر، باستثناء اطلاع بسيط علـى بعض علوم الانسان، Les sciences de l'homme، هذا فضلا عن معلومات لا باس بها عن تاريخ الفلسفة والفلاسفة، في مختلف عهودها. اي في عهود ما قبل الفلسفة وعهد الفلسفة اليونانية وشيئا غير يسير عن الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
فائدة الكلام اعلاه: اما الكلام اعلاه فيفيد القراء الكـرام في ان يتخلصوا من معارفهم المبنية في اغلب الأحيان، اما على مصادر شعبية غير دقيقة وغير مدعومة ببراهين علمية، وإما على مصادر مبالغ في كفاءة علميتها، او على مصادر تتنكر لعلمية الكلام العلمي للإنسان. علما بأن من يحاول معرفـة الانسان، وفق هذه المنهجية العلمية الجديدة، نوعا ما، على الكثيرين، سوف يستطيع ان يتخلص، طبعا مع بعض الصعوبة، مما يمكن ان يكون قد فرض عليه من تعريف غيبي واعتباطي عن الانسان، خلال مسيرة الحياة، كما سيتخلص من تابوهات كثيرة، ومن معتقدات غيبية ومن اشباه الأساطير، التي تنتشر بين الناس الذين لم تصل اليهم المعارف العلمية.
وماذا عني شخصيا؟: هل اصف الدواء للآخرين وأنا عليل؟ ! وهنا، وكرجـل دين قسيس، اود ان اقول لقرائي الأعزاء، بأن العلمية ليست حكرا على احد، لكنها، وبحسب قاعدة البطء التي تتميز بها عملية الانتقال من منهجية حياة الى اخرى، تصير مفتقرة الى مناهج ونماذج مختلفة يمكن ان تسرع في عملية الانتقال هذه. اما هؤلاء النماذج فيمكن ان نسميهم روادا في احيان كثيرة، ويمكن ان نسميهم انبياء، سواء كانوا انبياء كبارا ام صغارا، ويمكن ان نسميهم نماذج يبني الآخرون مسيرة حياتهم عليهم، دون ان يفقدوا عطاءهم الخاص بهم. فهؤلاء النماذج كلها تختلف عن الناس العاديين في انهم يكتشفون الحقائق العلمية اسرع وأعمق من غيرهم، ويعطون بالتالي ما حصلوا عليه لكل من يحتاج ويقبل عطاءهم. اما في الحالة التي نحن بصددها، فالنموذجية لا تكفي لوحدها، لأن العلم والعلمية لا تكونان فقط نماذج حياتية يمكن ان يتقبلهما الانسان لكنه ايضا يحتاج الى منهجية علمية و انثروبولوجية صارمة ودقيقة يمكن ان تقنع الكثيرين. ومن هنا يمكننا ان نقول بأننا بمنهجيتنا لم نعط نماذج انسانية يمكن الاقتداء بها حسب، ولكننا اعطينا ايضا، منهجية علمية انثروبولوجية تستطيع ان تفك الغازا كثيرة.
حقيقة بنى الانسان التكوينية: ومهما يكن فان النظر الى الانسان، ووصفه بالبنية الكبرى، لا يعود الى كبر حجمه، وإنما يعود الى حقيقة ان الانسان يحوي في منظومته اكبر عدد من الأبعاد والبنى، من اية منظومة اخرى، في عالمنا الكوني، بسبب تمتع الانسان بأبعاد مادية: فيزيائية وكيمائية وحياتية وروحية، مثل العقل والإرادة والضمير والحرية وغيرها، مما لا نجده الا عند البشر، وذلك لكون الانسان اعلى ابداع قامت بتحقيقه العلة الثانية وأكملها على الاطلاق، بعد ان كان الانسان موجودا وكامنا En puissance، فـي تصميم العلة الثانية، اي في الكون، قبل ملايين او مليارات السنوات، من ابتداء الحياة، على ارضنا، بوجود يسمى فلسفيا الوجود بالفعل En acte بعد إن كان موجودا بوجود يسمى وجودا بالقوة او بالقدرة او بالامكانية en puissance، بحسب فكر الفيلسوف ارسطو، الذي يختلف عن فكر افلاطون الانطولوجي كثيرا، كما يختلف عن فكر العلماء العلمي او الفلسفي بدرجات، مع ان ارسطو هو اآخر لم يستطع التخلص من فكره الانطولوجي بالكمال والتمام، لأن ارسطو واحد اتباعه الكبار، توما الاكويني Saint Thomas d'Aquin، لم يعيشا في الزمن الذي نعيش فيه اليوم.غير انني هنا اضيف معلومة جديدة تقول: هناك شبه قناعة عند العلماء تقول بامكانية وجود عالم انساني مماثل لعالمنا، ويمكن إن هذا العالم يكون قد وصل هو الآخر الى مثل حضارتنا الانسانية، او ربما يتفوق عليها. وبذلك لن يكون انساننا الحالي اروع ما توصلت العلة الثانية الى ابداعه. كتبت ذلك تصحيحا لما ورد على لساني قبل بضعة اسطر. لأقول بانه قد لا يكون انساننا الراهن هو ابدع ما وصلت اليه العلة الثانية.
اهمية بيئة الانسان: غير ان سلسلة البنى لا تتوقف عند الانسان، لأن الانسان نفسه ينتمي الى البيئة التي تحويه ويؤثر فيها وتؤثر فيه، تأثيرا كبيرا، سواء كان ذلك سلبا ام ايجابا. وعليه نرى انه لا يجوز لنا ايضا اهمال عالم الانسان، او بيئته الفيزيائية والكيميائية، اذا اردنا حقا ان نفهم الانسان فهما حقيقيا معمقا وسليما، ولاسيما وأننا نعرف ان واقع الحياة البيولوجية يستند هو الآخر الى علوم الفيزياء والكيمياء وغيرها،بكون العلوم المذكورة،البناء السفلي Infra structure، للأنثروبولوجيا، اي لعلم الانسان.
الصعود الفكري الى الكون: ولكن، وبما ان عالمنا الأرضي وحده، لا يستطيع ان يُفهمَنا سر الانسان بعمق، يكون الصعود الفكري الى الكون والى قوانينه وتركيبته المادية امرا طبيعيا، كون الانسان ابنا لهذا الكون الكبير. فالكون، بمعناه المذكور، يساعد على معرفة طبيعة الانسان المادية، ومعرفة سر الانسان معرفة علمية ودقيقة، بعيدا عن اللغة الغيبية والروح الاسطورية التي تخلط بين مبنى الكلمة، او النص، وبين معنى هذه الكلمة وهذا النص، ولاسيما عندما تخلط هذه اللغة، في كتبنا المقدسة، بين ما هو شبيه بالتاريخ Para historique وبين التاريخ نفسه، اي عندما يتم قلب القصة الشبيهة بالتاريخ، الى تاريخ ومجريات موضوعية، بحسب تعبير ظهر في الستينيات، ابان المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. ففي الحقيقة يتجاوز البيولوجي ذاته المادية لكي يصل الى حالة اقرب الى الروحنة، بحسب ما يعلمنا الأب تيار ده شاردن.
الالتباس: اما هذا الخلط الذي تكلمنا عنه، فيسبب لمتلقي الكلمة او النص ما يسمى ب/ الالتباس، ويؤدي الى ضياع الحقيقة، والى اسطرة الكلمة او النص الأدبي، اسطرة كاملة او نسبية، اي تقليب النص الى اسطورة، او ما يشبهها،الأمر الذي يؤثر بشكل كامل وسلبي على معنى النص، الذي لا يمكن ان نكتشفه نحن البشر، الا بعد تحليل وتفكيك اي نص تحليلا وتفكيكا بنيويا Structural، في حين ان الاكتشاف الأول الذي جاء متأخرا ايضا، كان يجب ان يحدث من اول علامات التغيير في ميزان المادة والروح. هذا، مع تأكيدنا على ان الاكتشاف المبكر للروح المتصاعد، ليس من دأب L'apanage مؤسساتنا الكنسية، وإنما يأتي على يد من يملك علما وروحا نبوية، بمعناها الأنثروبولوجي، ويستطيع ان يكتشف مبكرا علامات الأزمنة، كما عرفنا هذا المصطلح، منذ ايام المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، هذا المصطلح الذي يعود في اصله الى الأناجيل.
قضية جديرة بالذكر: والجدير بالذكر هنا، هو ان هذا الالتباس المذكور، يؤثر سلبا على قراءة نص الكتاب المقدس تأثيرا كبيرا،في حين ان استخدام لفظة الايمان، من اجل ابطال نتيجة التحليل المستند الى العلم، لا يأتي، لا في صالح الايمان ولا في صالح العقيدة، ولا في صالح الحقيقة، وإنما يفيد فقط في دعم الشرائح السلفية التي لا يروق لها هذا التحليل البنيوي العلمي، ولا اي تحليل آخر، لأنها ترفض بكل قوتها، كل ما يخالف منطوق ومبنى اية عقيدة كانت، الأمر الذي يجعل هذه الشرائح المتمسكة بأساطيرها وبامتيازاتها تستخدم شتى اشكال العنف في هذا الرفض. فهي مثلا تقول: انت تخالف العقيدة، او انت تتنكر للإيمان القويم، وأنت تشكك الشعب المسيحي، وغير ذلك، واذن عليك إن تصمت او تتنحى، والا نحن نعرف كيف نجعلك تصمت. اما نحن المجددين فنقول لسادتنا الأساقفة: احقا تعرفون يا سادة يا سلاطين الدنيا كيف تجعلون المجددين يصمتون، وفي الوقت عينه تعرفون كيف تحافظون على مصداقيتكم وتتسترون وراء كلمات فارغة، مثل كلمة الايمان والتعليم الرسمي للكنيسة؟ فاذا كنتم تصدقون انكم سلاطين الدنيا الذين لا يغلبون فهذا يعني انكم لا تعرفون إن تقرأوا التاريخ.
الاكليروس الكبير ومسؤوليته السلفية: والجدير بالذكر هنا هو ان من يتقدم الشرائح السلفية الكنسية هذه، هم في اغلبهم من الاكليروس الكبير، هذا الاكليروس الذي لا يمكن ان يصل الى درجة الأسقفية، الا بعد ان تتأكد الدوائر الرومانية من سلامة عقائده، وليس من سلامة ايمانه. ولكن عجبي من كنيسة تلزم قسسها وأساقفتها بتلاوة قانون ايمان، ليس فيه من الايمان الا القليل. غير اننا بالحقيقة، نحتار فيما نقوله بأسقف، يقبل ان يتلو قانون ايمان، ابان حفلة رسامته الأسقفية، هو نفسه الا صوريا وبراغماتيا، مع انه يعرف ان كل الخصومات وكل الانشقاقات نتجت عن قانون الايمان هذا، ويبقى على الرغم من ذلك متمسكا به حتى النخاع. فهل فعلا ان هذا الأسقف يعرف حقيقة قانون الايمان هذا ويقبلها، مهما كلف الأمر، ام انه يعتبر هذه التلاوة مجرد صيغة Formalité تراثية تفرضها الكنيسة، لأن مسئوليها، لم يعبروا بعد الى معرفة الحقيقة الايمانية؟
الاكليروس الكبير والنظرة البنيوية: هذا، وبديهي ان يكون الأساقفة، وبعض القسس المنتفعين من حالتهم القسسية على رأس قائمة الرافضين للتغيير الحقيقي في الكنيسة. ففي الحقيقة،مهما يصيب الفكر الديني اللاهوتي والكتابي، من تأويل وتأوين ( تحيين )، فهو لا يمس الايمان بشيء، لأن الايمان لا يخضع الا للمشاعر، ولا يتأثر بالفكر اللاهوتي، وان كان الانسان بحاجة الى الفكر اللاهوتي لكي يعبر عن الهه وعن ايمانه. ومن هنا، كان من المفروض ان لا تكون في الكنيسة شرائح سلفية، تستميت في سبيل الحفاظ على الوضع العقائدي والفكر اللاهوتي الراهن، علما بأن العقائد هي فكر لاهوتي مختصر بعبارات بسيطة، او مختصر بفلسفة اكل عليها الدهر وشرب.
الاكليروس والإيمان:وعليه نقول: لو كانت شرائح الاكليروس الكبير، وأزلامهم، واعين لحقيقة الايمان، لما كانوا قد وصلوا الى هذا الدرك من السلفية الدينية، ومن القبول بتعليم خـال من المعنى الانساني تمامـا، في احيان كثيرة، ولكانت الكنيسة قد وصلت بمعية مؤمنيها، الى حالة قبول ومواكبة واستئناس بمستجدات الحضارة الراهنة، والاستفادة منها، على الأقل بالتخلص من الفكر الغيبي القاتل، ولكانت هذه الكنيسة قد تخلصت من الانشقاقات الكريستولوجية بسهولة، وحتى من الانشقاق البروتستانتي. فالمنهج العلمي في الدين، هو ركيزة الايمان الصحيح غير المزور، وهو واهب للوحدة الايمانية الحقيقية، ومتقبل ومحترم للاختلاف وللتعددية، وساهر على هذه الوحدة. ونضيف: لو كانت الكنيسة مؤمنة حقا، لكانت آمنت بالتغيير، ولكانت الآن تقف في المقدمة وتقود حركة التقدم الانساني الروحي، عوضا عن إن يقود هذه الحركة غيرها، وتكون هي المقادة عوضا إن تكون القائدة.
احترام العلم والعلمية: وهنا نقولها بصراحة، ان السهر على الحقيقة الايمانية، وعلى وحدة الكنيسة، لا يكون سهرا مشروعا ونافعا الا في حالة احترام العلم والعلمية، وعدم التشبث بأساطير ومعتقدات،لا يمكن ان تكون سوى مسببة للانقسام، كما كانت الفلسفة السيئة الصيت، في القرون الأولى للمسيحية،عندما كانت الكنيسة قد بدأت تتفلسف، في ايام الصراعات الكريستولوجية ( صراعات حول طبيعة يسوع ). وليعرف اساقفتنا الأجلاء، بأن اهمال اي بند من بنود العلم والواقعية، هو جرح في جسم الكنيسة، تخرج منه نتانة الانقسام والبغضاء، كما يحدث اليوم في مجتمعنا المسيحي العراقي، وامتداداته في الغرب المسيحي، مع احترامنا لكل من يحترم العلم والمتعلمين قولا وفعلا، ولكل من يتمسك بأهداب العلوم، ليس فقط من اجل توحيد المسيحيين، وإنما من اجل توحيد جميع البشر، وتقود الجميع قيادة ايمانية حقيقية تحترم الانسان وحاجته الى الحرية والكرامة الانسانية.
الوجود الكوني والوجود الأرضي: وبناء على ما تقدم سوف نحاول ان نتكلم عن القوانين التي تهيمن على الوجود الكوني بشكل عام وعلى خصائصه العامة، ثم نتكلم عن الوجود الأرضي وعن خصائصه، لنتكلم من ثم عن وجود الانسان وعن خصائصه، سواء انطلقنا من الوجود الأرضي، بعد ان يكون هذا الوجود قد اصبح سهل المنال جوهريا، ام انطلقنا من الوجود الكوني لمعرفة الوجود الارضي، ووجود الانسان بشكل خاص، وذلك عن طريق منهجية التماثل.
الوجود الكوني والإنسان: وعليه، اذا ما تكلمنا عن الوجود الارضي، سوف لن ننسى امتداداته Extensions باتجاه الكون، وباتجاه الانسان. اما إذا تكلمنا عن الانسان، فيكون علينا ان لا ننسى جميع امتداداته وجذوره التي تمتد الى القوانين الكونية الكبرى، والى قوانين الأرض وما عليها، من جماد ونبات وحيوان، طالما اننا نعرف ان البنى والمنظومات عند الانسان، كثيرة التشعبات، ولاسيما بناه الحياتية المهمة علميا، من اجل معرفة حقيقة هذا الانسان.
لماذا هذا المقال: وهكذا ربما سيفهم السائل لماذا وضعنا عنوانا في بداية مقال المدخل يقول:القوانين الكونية التي تسود عالمنا الكوني والأرضي والإنساني. فـ/ بالحقيقة يمكننا النظر الى الانسان بمثابة اعلى كائن انتجته العلة الثانية، في كوننا المعروف الى حد الآن، على الرغم من ان الانسان ضئيل في حجمه الجسدي، اذا ما قارناه بحجم الكون المعروف لدينا. علما اننا لا نستهين بحقيقة الضخامة، عند دراستنا للإنسان. فقد يزيد حجـم الانسـان او ينقص، الا اننا نقول:هنا فقط، وفي حالات قليلة اخرى، يكمـن الخير فـي الحد الوسط In medio stat virtus وبالعربية نقول: خير الأمور اوسطها، كما تعلمنا ذلك في درس اللاهوت الأدبي، او الأخلاقي. فلو كان الانسان مفرطا في ضخامته، كانت ستنتج له مشاكل كثيرة، لا نريد ان نستفيض فيها، ومنها انه كان سينقرض مثلما انقرضت بعض الحيوانات الضخمة. كما ان انسانا ضئيل الحجم، كالأقزام السبعة التي تتكلم عنها قصص الأطفال ما كان يستطيع ان يعمل شيئا مهما مما يعمله انساننا الراهن، وذلك بسبب صغر وضآلة حجمه.
الانسان وحركة عالمنا: غير اننا من الآن نرى ان نأخذ الانسان بالحسبان، اكثر من اية كينونة اخرى ارضية وكونية، وان لم يكن الأكثر تأثيرا على الكل الكوني. فـ/ العلة الثانية، وضعت برقبة الانسان مهمة تجميل الكون بأجمل ما يمكن من الصور الناتجة عن انسنة كوننـا وعقلنته، كما سنرى لمحات من هذه الأنسنة وهذه الـ عقلنة عند كلامنا عن خصائص الانسان الأنثروبولوجية. فنعم يختص الباري بمهمة العلة الأولى التي تخلق من العدم، الا ان التحريك يكون من شأن العلة الثانية التي تحرك المادة من حالة الى اخرى، حيث ان هذا التحريك، حتى اذا سمي الانفجار العظيم، انما يعود للعلة الثانية وليس للعلة الأولى. علما ان كلمة خلق تشير الى التحريك من صورة الى اخرى، بخلاف كلمة بَرا- الباري، التي تعني الخلق من العدم. اي ان الباري اوجد شيئا خارجا عن ذاته. ولذلك فان ما يعمله الانسان في الكون هو قريب من عملية الخلق.
عمل الانسان قريب من الخلق: من جهة ثانية فنحن نعرف ان الانسان هو جزء من العلة الثانية، وأحد ابعادها المهمة جدا، الأمر الذي يجعلنا نسمي تحريك الانسان للمادة ابداعا، وهي كلمة تقترب من كلمة الخلق ايضا، والتي تعني التحريك ايضا. فصحيح ان من يحرك العالم هو القوانين المثبتة في العلة الثانية، وهي قوانين كثيرة جدا، الا ان الانسان مسئول عما يمكن ان نسميه مع اخوتنا المصريين التشطيب، والتي تعني العملية النهائية Finishing لدار او لعمارة. هذا، ولكي نفهم اكثر دور الانسان في عملية الإبداع، ما علينا سوى ان نتأمل في كل البناء الحضاري والعلمي والتكنولوجي لعالمنا الانساني، الذي هو من ابداع الانسان. فيا لها من مهمة جليلة وخطيرة ايضا! ويا لحبي للإنسان المبدع ويا لخجلي من بشر يستخدمون قوة العلم والتكنولوجيا لقتل اخوتهم البشر.
علمية طرحنا: قد تكون علمية طرحنا غير مهمة للكثيرين، لكن في الحقيقة من يدعي انه يقيم منهجية تتكلم علميا وأنثروبولوجيا عن الكون وعن الارض وعن الانسان، لابد ان تكون له البراهين العلمية التي تدعم ادعاءه هذا. ولكن بما اننا نعرف اننا لا نستطيع الآن ان نستعين ببعض الاكتشافات الكونية، لأخذ البرهان العلمي منها، فإننا رأينا ان نلجأ الى عالمنا الأرضي المادي والإنساني، لنستقي منه البراهين التي تثبت ان الكون البعيد يتصف بعين الصفات التي يتصف بها عالمنا الارضي ( كوننا القريب )، هذا العالم الذي نجح العلماء اخيرا في الكشف العلمي عن كثير من اسراره.
بعض الاعتبارات: ان الجدير بالذكر هنا، هو انه ليس من الضرورة ان ينطبق قانون معين على عالمنا الأرضي وعلى العالم الكوني بشكل كامل، لكي نستطيع ان نقول بأن قانون الأرض موجود في العالم الكوني، ولكن يكفي ان يكون هناك تماثل بين القانونين، وليس التساوي المطلق، لكي نقر بحقيقة التماثل بين ارضنا وبين الأراضي الأخرى في كوننا القريب او البعيد. اما هذا التماثل المختلف عن التطابق والتشابه، فيقودنا بالحق والحقيقة الى العلوم الارضية، ولاسيما علم الحياة Biologie او يقودنا الى احدى الفلسفات الموجودة عندنا نحن البشر، او يقودنا الى فلسفة جديدة بشكل كلي او جزئي، ونحن في طريقنا الى معرفة الانسان، بأعمق ما يمكن معرفته من صفاته.
يتبع ...

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

435 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع