التشيع الإيراني بنكهته الفارسية السلطانية

                                               

                              منى فياض

 التشيع الإيراني بنكهته الفارسية السلطانية

تعود جذور الصراع بين المذهبين السني والشيعي إلى الخلاف على خلافة الرسول، حيث بدأت الاعتراضات السياسية منذ تلك الفترة. ولنقل باختصار، إن "الآباء المؤسسين" للشيعية ومؤيديهم كانوا يميلون إلى إرساء شرعية سلالية، معتبرين أن الخلفاء يجب أن يختاروا من عائلة النبي. وبالعكس، نجد أن أهل السنة يؤمنون بأن النبي لم يوص لأحد بالخلافة بل تركها شورى يختار الناس لها ما يشاؤون. ومما تجدر الإشارة إليه أن مصطلح "أهل السنة والجماعة" لم يظهر في التاريخ إلا متأخرا أيام المتوكل. أما في الأصل فهو نزاع عائلي اتخذ لونا دينيا ومن ثم دخل في صميم العقائد المذهبية وتحول إلى صراع متأصل.

يشير علي الوردي إلى محاولة عباس العقاد التوسط بين عقيدة الشيعة وعقيدة أهل السنة في قضية الخلافة. استنتج أن النبي كان يحب عليا ويحببه إلى الناس لكي يمهد له سبل الخلافة من بعده. والنبي برأي العقاد لم يرد أن يفرض رغبته هذه على الناس، إنما اراد أن يختاره الناس طواعية وحبا. لكن هذا الرأي لا يرضي الطرفين بالطبع. فتبعا لوصف الوردي، كان النزاع بين رجال الدين من الشيعة والسنة على أساس قبلي كما يتنازع البدو في الصحراء؛ لأن جوهر الخلاف يدور حول من يمتلك السلطة. مر هذا الخلاف بظروف ومراحل تاريخية متعددة قبل أن يرسوا على الانقسام الحاد الذي اكتسب طابعا دمويا والمموه بالحرب على الإرهاب مؤخرا.

إذن وخلافا للتاريخ المسيحي لم تكن المسائل اللاهوتية والعقائدية ما شكل الانفصالات الأولى في العالم الإسلامي، بل القضايا السياسية والصراع على السلطة.

بعد اغتيال علي واستشهاد الحسين مر الشيعة بمرحلة من التهميش تناقلوا خلالها اجتهاداتهم اللاهوتية، المستوحاة غالبا من الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، لكي يحددوا خلافاتهم مع السنة ويشرعوا خصوماتهم ومنافساتهم الداخلية بحسب فرنسوا تويال.

إن مؤسسات المذهب الشيعي الاثني عشري لم تتمتع تقليديا وتاريخيا بأي طابع سياسي. كان ينظر إلى تدخل رجال الدين والفقهاء والعلماء بالشأن السياسي على أنه مضر بمصلحة الطائفة، وانحصر دورهم في إرشاد أتباعهم حول إدارة شؤون حياتهم، بعيدا عن توجيه الدولة؛ بانتظار الإمام المهدي الذي غاب وغادر الأرض ليقود البشر على وجه أفضل في زمن آت.

التشيع الإيراني

شكل الاجتياح العربي الإسلامي لإيران نقطة تحول فاصلة في التاريخ الإيراني. فما قبل الإسلام مختلف عما بعده. فلقد اختفت معه الحضارات التي سادت قديما في حيزهم الجغرافي، وصاروا جزءا من الإمبراطورية العربية الإسلامية. لكن الأمر لم يحصل بسلاسة بل في ظل تجاذب ومقاومة شديدين؛ فبالرغم من تأثرها بالديانة العربية الإسلامية لم تتأثر إيران كثيرا باللغة العربية. هذه المقاومة لم تقتصر على الجانب الإيراني؛ فإذا أخذنا مثلا دولتي المناذرة والساسانيين، الواقعتين تحت الهيمنة الفارسية، نجد أنهما احتفظتا أيضا بلغتهما العربية. أضف أن النزعة القومية العارمة التي يتميز بها الإيرانيون، تمثلت بالشعوبية كتيار ثقافي، حتى في ظل ذروة السيطرة العربية.

لا شك أن مقاومة الفرس ترتبط بانهيار حضارتهم بسبب الصعود العربي الإسلامي الذي انطلق كالسهم في سرعته بالانتشار مجتاحا مناطق واسعة امتدت من الهند حتى المغرب العربي والأندلس. الملفت أن إيران بقيت على إسلامها بالرغم من التحديات والثورات والقلاقل التي طبعت علاقتها بالحكم العربي. وظل الفرس يحملون راية التسنن في الإسلام حتى ظهر الصفويون الذين يرجح أنهم تركمان.

حاولت افتراضات متعددة شرح تشيع الصفويين الذين كانوا قديما من البدو التركمان الشيعة الذين اضطهدتهم الإمبراطورية العثمانية، منها أنهم حاولوا أن يوجدوا سلطة موازية للعثمانيين السنة المسيطرين على العالم الإسلامي في تلك المرحلة.

فرض الصفويون التشيع بالقوة على المجتمع الفارسي، ومارسوا شتى الوسائل لإكراه الفرس على التشيع. ولجأوا إلى الاضطهاد والقتل والتعذيب في هذا السبيل. كان شعارهم في ذلك: "يا علي!

كان هذا بداية التحول لدمج الشيعة الاثني عشرية بالإيرانية، أي الهوية الألفية لدولة متعددة الأعراق. ولم يصبح التماثل بين الشيعية والإيرانية واقعا إلا في فترة متأخرة مع السلالة القاجارية في أواخر القرن الثامن عشر، لتدوم حتى العام 1924. يشهد على ذلك الوضع المتقلقل للشيعة في القرن الثامن عشر، محاولة الشاه نادر أن يعيد إرساء المذهب السني في إيران على أثر التهديدات التي جابهه بها الافغان، لكن مقاومة رجال الدين الشيعة أحبطت هذه المحاولة.

من هنا يمكن الحديث عن اهتداء ثان إلى الشيعية: الأول كان عن طريق السلطة السياسية أما الثاني فكان من فعل رجال الدين الذين تحولوا إلى إكليروس. وهكذا فإن سلطة مضادة بدأت تتركز في البلاد، وهي سلطة قوية بمقدار ما هي مستقلة ماديا.

عندما احتاج النظام الصفوي إلى منظرين وأيديولوجيين يدعمون توجهات النظام ويساعدونه على بث العقيدة الجديدة في الحشود الإيرانية؛ لجأ إلى علماء جبل عامل من لبنان، الذي كان حينها أحد معاقل الشيعة فهو موطن الأقليات والمضطهدين، لترسيخ العقيدة الشيعية. من هنا علاقة إيران التاريخية والخاصة بلبنان التي استعيدت مع الثورة الإسلامية في العام 1979.

ولم يتخذ النزاع الطائفي بين الشيعة والسنة شكلا صارخا إلا أثناء التنافس بين العثمانيين والصفويين على العراق، ثم على يد الخميني بعد الثورة الإسلامية.

لم يكتف الخميني بتأجيج الصراع السني ـ الشيعي، بل وتسبب بانقسام الشيعة أنفسهم، كما تشير لورا هنسلمان. فبسبب عقيدته، أي ولاية الفقيه التي تدعو إلى تسلم رجال الدين مقاليد السلطة السياسية وتطبيقه لها، انقسم البيت الشيعي ـ لأول مرة ـ إلى حوزتين متناقضتين ومتنافستين: الحوزة العلمية الصامتة في النجف والحوزة الثورية والمسيسة في قم.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن إجماع رجال الدين الشيعة على مر القرون، على أن ولاية الفقهاء كسلطة توجيه وحكم، كانت تقتصر على أولئك العاجزين عن اتخاذ قرارات أو الاعتناء بأنفسهم كالأيتام ومن يعانون من أمراض عقلية، دون أن تمتد لتشمل مجتمع المؤمنين بعامة. فولاية الفقيه التامة هي مهمة الإمامة الوحيدة التي لم يضطلع بها تاريخيا فقهاء الشيعة، لأنهم يؤمنون أنها تعود إلى الإمام الغائب وهو من سيتكفل بها عند عودته. لكنها صارت موضع نقاش عندما وسع الخميني مفهومها ليتعدى معناها التقليدي المذكور آنفا إلى أن جعل خامنئي من نفسه ظل الله على الأرض.

يكتب الوردي أنه عندما صار التشيع في عهد الصفويين مذهبا قوميا في إيران، اصطبغ من جراء ذلك بصبغة الغرور القومي وأمسى عقيدة سلطانية خامدة ـ لا تختلف ـ عن أي عقيدة أخرى من عقائد السلاطين. خدر الصفويون مذهب التشيع وروضوه، فأزالوا عنه نزعته الثورية، وجعلوه مذهبا رسميا لا يختلف عن غيره من المذاهب الدينية الأخرى. واختفت منه تلك الروح الوثابة التي بعثها فيه علي وأولاده على توالي الأجيال. كان علي بن أبي طالب أنشودة الثورة في تاريخ الإسلام كله، لكنه أصبح على يد الصفويين ألعوبة تمثل في المسارح.

من هنا تمييز علي شريعتي بين شيعتين: شيعة الدولة الصفوية ـ مع رجال دين فاسدين وغير نافعين ـ وشيعة علي، صهر النبي، حيث يتجسد الصراع من أجل العدالة والحقيقة. لكن بقيت الثورة على مسافة من علي شريعتي الذي توفي بطريقة غامضة في لندن قبيل انتصارها.

عززت إيران الإسلامية منذ العام 1979 الخريطة الشيعية مقابل الخريطة الإيرانية، لأنها تفضل الاعتماد على الطوائف الشيعية غير الإيرانية ـ الهزارة في أفغانستان والشيعة في جنوب لبنان والعراق والعلويين في سورية والحوثيين في اليمن ـ أكثر منها على جماعات إيرانية عرقيا ـ كالأكراد والطاجيك. هذه الجامعة الشيعية، كغاية ووسيلة للدبلوماسية الإيرانية، هي في الوقت عينه تعبير أساسي عن الحركة الثوروية التي تسعى إيران ـ آيات الله لتعميمها تحت شعار تصدير الثورة.

وبعد أن نجحت ركيزتها الأولى حزب الله، وعلى غرار الاتحاد السوفياتي الذي كان في إمكانه الاعتماد على دعم الأحزاب الشيوعية في مختلف مناطق العالم، فإن إيران أوجدت لها جماعات شيعية تدعمها تحت مسميات عدة. ومن ثم تكاثرت الأحزاب الإلهية والأنصار وأنواع الحشود وغيرها..

لكن تعقيدات نقطة الارتكاز الأيديولوجية هذه كبيرة. فمع أن المذهب الشيعي لا يركن إلى مفهوم الأمة ـ القومية التي تحمل خطر تقسيم الإسلام، والمفكرون المسلمون الشيعة حذروا دائما من الواقع الوطني ـ القومي؛ لكن المفارقة ونقطة الضعف هنا أن إيران نفسها دمجت بين شيعيتها وقوميتها الإيرانية وجعلتهما أمرا واحدا.

فعندما تدعو إلى تبعية الشيعة للجامعة الشيعية ومركزها الدولة/ الأمة الإيرانية فإنها تطرح عليهم التحدي الصعب بالتخلي عن انتمائهم القومي أي عروبتهم. فكيف يمكنهم ذلك على خلفية الصراع التاريخي وحمولة العداء الذي أججته ممارسات إيران نفسها واعتداءاتها بوجه مفضوح منذ الثورة السورية! وأضافت إليها التبجح والاستفزاز مؤخرا بإعلانها استعادة الإمبراطورية الفارسية واحتلال 4 عواصم عربية!؟

لقد فقدت الجمهورية الإسلامية الايرانية آخر ادعاءاتها بدفاعها عن المظلومية والمظلومين وتحولت إلى الظلم والاستبداد الصافيين، ودائما تحت شعارات براقة ومخادعة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

992 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع