محمود سعيد*
فيلم «الحلوة الأمريكية»… وجه الولايات المتحدة القبيح
■ لم تكن صورة الإعلان عن الفيلم مشوقة، مجرد فتاة سمراء ذات جمال عادي، ترفع يدها في علامة تحية، أو إيقاف سيارة، توصلها مبتغاها. حتى العنوان «الحلوة الأمريكية» لا يلفت الانتباه، ولعل حصاره من قبل دور السينما العادية في أمريكا، رغم إنتاجه هناك، واختياره للتنافس على جائزة السعفة الذهبية، في مهرجان كان 2016، حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم. وصدور مقالات إيجابية تشيد به، بالإضافة إلى أداء (شاسا لين) المميز، إذ رشحت كأفضل ممثلة، رغم أنها تعمل أول مرة، وأنها لم تتجاوز الثامنة عشرة. في هذه السنة بالذات كشفت حقائق مؤسفة في الولايات المتحدة، لم يكن أحد يتصور أنها تحدث في أقوى وأغنى بلد في العالم، حيث تقبع كالذئاب المفترسة أقوى منظمات الدفاع عن البلد، من CIA FBA، وعشرات المنظمات الحكومية التي تتنصت على المواطنين، وتتجسس عليهم. في هذا البلد، ينفضح فجأة مليادير، مخرج سينمائي كأفنشتاين، اغتصب أكثر من مئة وعشرين امرأة، من أشهر نساء أمريكا. نساء لهن احترامهن في نظر الشعب الأمريكي، كذلك الوحش الآخر «لاري نصار» مدرب الأولمبيات الذي لم تفلت من يده أي شابة تدربت على بطولة العالم، لينوف عدد ضحاياه على 160 شابة وبطلة حُزن جوائز عالمية. كما كشفت مجلة «التايمز» عن 26000 ضحية اغتصاب من مجندات الجيش الأمريكي. فكيف يحدث هذا في أقوى واعتى بلد في العالم؟ هذا الفيلم يحيط مداركنا ويقودنا لمعرفة السبب، لأنه يعطينا فكرة عن البحر الذي تعوم فيه الضحايا البريئة، بدون عون أو سند، ليسهل وقوعها في فك الافتراس.
عالم الضياع
فيلم «الحلوة الأمريكية» يتناول شريحة ممن فاتهم القطار، وظلوا سادرين في لهوهم، حتى إذ بلغوا الثامنة عشرة وجدوا أنفسهم بين مطرقة ترك بيت العائلة والاستقلال، وسندانة الواقع الذي لا يرحم. فأمامهم الضياع التام، أو العثور على عمل مهما كان .. مطعم، بقالة، توصيل وجبات إلخ، أو ربما ينحدر إلى ترويج المخدرات، لكن عينيه تبقيان تتبعان أي فرصة تطفو في بحر الأحداث. وبالنسبة للحكومة الأمريكية فهي تغري بعض هؤلاء المتعثرين، لتسد ما يشغر من فراغ يعتري أعداد الجيش، أو الشرطة، أو FBA، CAI، وفي هؤلاء عاثري الحظ من لم يجد أي فرصة مما تقدم، وهم كثر، فماذا يفعل؟ ليس غير انتظار الفرص النادرة العابرة! وجد نفر لا يتجاوز الثامنة عشرة، بغيتهم في فرصة قدمتها لهم فتاة تملك «صاروخا»، شاحنة صغيرة ذات 18 راكباً، تؤمن لهم معاشاً على قدر حاجتهم. الفتاة توصلت إلى فكرة عبقرية، وهي بيع مجلات «جنس، ديكور، طبيعة، قشبة، أخبار النجوم الخ» مجلات قديمة، تحصل عليها بالمجان، في صوامع حرق النفايات، إذ يتم تزويد هذه الصوامع بشكل دوري، بما يتخلف عن البيع. تنتقل الشاحنة من ضاحية إلى أخرى في أي ولاية، وعندما يتم كنس الضواحي، تنتقل إلى ولاية أخرى، وهكذا، فالحياة مع هذه المجموعة تخلق نوعاً من الإلفة والتضامن والحميمية تعوض عن فقدان العائلة، والعمل معها يؤمن الحد الأدنى من متطلبات الحياة، إضافة إلى تجربة حياة، حرة، جماعية فريدة. على الموجودين في الصاروخ ذكوراً وإناثاً أن يبذلوا جهدهم لبيع ما يمكن، أما المردود، فلهم منه حد معين، على أن يذهب الباقي لصاحبة الشاحنة التي تتكفل بدفع ثمن الفندق والطعام والنقل والملابس، ومن الحديث الذي يجري، نعلم أن معظمهم لم يخضعوا لإغراء التجنيد في الجيش أو الشرطة، رافضين المكافآت الضخمة لأسباب مختلفة، فهناك من قتل أبوه في أفغانستان، أو العراق، وهناك من تعوق أخوها أو قريبها في الحرب فترك في نفسها جرحاً لا يندمل. هذه الحلوة ماتت أمها بالسرطان قبل ثلاث سنوات، ولم تجد مأوى سوى عائلة مفككة، الزوجان مدمنان، يقضيان ما يحصلان عليه في الشرب والرقص في حانة، مع غيرهم، تاركين أمر رعاية ثلاثة أطفال لها «بضعة أشهر، خمس سنوات، عشر سنوات، وعليها مهمة تغذيتهم، بدون أي سيولة نقدية، عليها أن تنط كالقط إلى حاوية ضخمة لقمامة سوبر ماركت قريب، تنزل فيها فتلتقط ما يصلح مادة للطبخ من خضراوات، ولحوم وفاكهة. في طريق رجوعها محملة بكيس القمامة بيد، ممسكة بالطفل على صدرها باليد الأخرى، رأت الشاحنة، ووقعت عينا شاب، نكتشف في ما بعد، أنه موكل بتجنيد أعضاء جدد في الشاحنة، فيغريها بربح هائل (300 دولار يومياً)، لتنضم إلى قافلة بيع المجلات، وتتحرر من مسؤولية إعالة الأطفال الثلاثة، شديدة الإرهاق.
أمريكا الحقيقية
هؤلاء الشباب لهم عواطف، ورغبات، وأحلام، وقضاؤهم معاً وقتاً طويلاً، يحملهم شاؤوا أم أبوا على التأثر ببعضهم بمرور الوقت، فمن لم يكن يشرب، أو يدخن، أو يعرف المخدرات يبدأ بتعاطي كل شيء، ومن كان يأنف من السرقة يقوم بممارستها، والوقت كفيل بإذابة جليد الإرادة. فإمكانية دخول بيوت راقية أنيقة غنية من ضرورات العمل، وهي فرصة لالتقاط «سرقة» أشياء ثمينة، كحلي، أو نقود، أو مقتنيات نادرة يمكن دسها في الحقائب، أو الجيوب، وهذا يعني أن الشاحنة الصاروخ تصبح معهد إعداد هولاء الشباب لمستقبل يؤهلهم للصراع في غابة مجتمع أمريكا المتلاطم، متحررين من أي مبادئ عليا مسبقة. لا يستقرّ في خلد صاحبة الشاحنة أي شيء ممنوع، فحينما تصل منطقة عمال يعملون بالنفط، تزود الفتيات منهم بملابس فاضحة، تقول لهم: هؤلاء أغنياء أغووهم، تربحوا كثيراً. المهم هو الربح. لكن الحلوة وكان اسمها «ستار» تقع في حب الشاب الذي جندها للعمل، على الرغم من كونه يضاجع صاحبة الشاحنة، لأنه أهم شخص في المجموعة، وهو المسؤول عن تجنيد وتدريب الجدد، وبمرور الزمن، وكثرة التجارب يتمرس الجميع، ويتفوق في الأداء لتصبح الشاحنة معهد ترويض وتمرين لممارسة حياة، تؤشر حداً في أسفل دركة اجتماعية، ولذلك يبذلون كل جهد ممكن لجني مبالغ أكثر، فتراهم يخترعون قصصاً لإقناع الناس بأهمية عملهم، فتارة يدعون أن الربح من بيع المجلات، هو العمل في حقل إعادة الأطفال التائهين، المخطوفين، يصفون فرحة الأبوين بلقاء أبنائهم، وتارة يدعون أنهم يمولون صرفيات الأطفال المصابين بالسرطان، أو مرض المناعة المكتسبة «الإيدز»، أو مساعدة المعوقين، والمتشردين، وثالثة لتوزيع المبالغ على ذوي الأطفال الذين ينشؤون في عائلات تحت مستوى حد الدخل الأدنى وهكذا.
وينتهي الفيلم بأغنية رائعة ذات وقع حزين تلخص مغامرة هذه المجموعة التائهة من البشر، في اغنى دولة في العالم ..
نشأت الحلوة الأمريكية على جانب الطريق
بينما ترن أجراس الكنيسة والحب، القوي ينمو،
نشأت بشكل جيد،
نشات ببطء كأي فتاة أمريكية جميلة..
ثابتة كالواعظ،
حرة كالمخدارت،
لا تستطيع الانتظار
٭ كاتب عراقي ـ شيكاغو
777 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع