قاسم محمد داود
ديمقراطية ...ولكن دون ديمقراطيين
لا خلاف على ان الديمقراطية هي الأفضل بين جميع أنظمة الحكم ، وقد توصل العالم الى الديمقراطية بعد تجارب مريرة دفعت الشعوب بأثمانها من دمائها . من هنا يجوز القول بأن الديمقراطية تمثل نهاية التاريخ ، فلا يبقى بعد الديمقراطية سوى المزيد منها . لكن أكثر مدعي الديمقراطية في بلادنا ليسوا للأسف ديمقراطيين ، وفي رأس كل منهم دكتاتور مستبد إذا أتيحت له الفرصة . فالديمقراطية بالنسبة لهؤلاء مجرد شعار ، هدفه الوصول الى السلطة ومن ثم نهاية الديمقراطية ، التي تكون قد استنفذت أغراضها في نظرهم . جماعات دينية اعترفت بأنها تؤيد الديمقراطية وصناديق الاقتراع لكي تفوز فيها ، وستكون آخر انتخابات يشهدها البلد. الديمقراطية ليست مجرد نظام يمكن تلخيص مكوناته وشروطه على الورق ، بل أسلوب حياة والديمقراطية مستحيلة بدون ديمقراطيين حقيقين ، يقبلون الديمقراطية ليس لأنفسهم فقط بل لخصومهم أيضاً . السعي للديمقراطية يجب ان يكون ديمقراطياً .لان الديمقراطية لا تتلخص في الانتخابات او النظام السياسي فقط كما يراد تصورها ، بل هي تربية وسلوك حضاري وهي ثقافة مجتمع تمهد للقوة والتقدم ، وهذا يخيف الكثير من الأشخاص والتنظيمات التي تريد ان تجعل النظام الديمقراطي مجرد واجهة او ستار لتحقيق مصالحها الخاصة دون ادنى اكتراث للمصلحة العامة .أن الديمقراطية ليست مجرد مؤسسات واجراءات وانتخابات فقط ،ولكنها أيضا مجموعة قيم واتجاهات ومشاعر تشجع الممارسة الديمقراطية الفاعلة من جانب الحكام والمحكومين ، وتنطلق من مقدمات بديهية مثل : إقرار حقوق الانسان واحترامها ، وإصدار التشريعات القانونية التي تحميها ، وإقرار حرية الرأي والتعبير والتنظيم ، والتسامح السياسي والفكري ، والمساواة ، وحرية الصحافة ، والسماح بالتعددية الحزبية ، والتداول السلمي للسلطة ، واحترام إرادة الأغلبية .
من أهم شروط العملية الديمقراطية وجود أناس ديمقراطيين يعرفون أبجدياتها، ويتمسكون بأهدافها، ويدافعون عن مبادئها واستمراريتها. ولعل أهم ما يجسد هذا هو أن يتقبل من يدخل العملية الهزيمة ــ إنْ لحقت به ــ بروح رياضية، فلا يزايد أو يتشبث بمواقف متطرفة الغرض منها قلب النتائج لصالحه حتى لو أدى ذلك إلى حرب أهلية وانقسامات مجتمعية تحرق الأخضر واليابس . في جميع دول العالم الديمقراطي هناك مبدأ يميز هذا النظام عن الأنظمة الشمولية ، وهو التنافس الحر في ميدان السياسة ، ومهما كانت درجة التدني في مستوى القبول الشعبي ، أو في الأوساط السياسية ، فأن الخاسر في تلك الدول – شخصاً كان او مؤسسة – ينسحب بكل هدوء ليفسح المجال أمام الآخرين ليأخذوا دورهم ، وهذا المعلم من معالم الديمقراطية واشتراطاتها هو الغائب الأبرز في ديمقراطيات العالم الثالث ، مع وجود استثناءات قليلة جداً بطبيعة الحال كالاستثناء الهندي . التجربة الديمقراطية في العراق نموذج لديمقراطيات العالم الثالث ، فمن المعلوم ان التجربة الديمقراطية في العراق اقترنت بتدخل عسكري مباشر يعقبه احتلال اجنبي ولمرتين ، المرة الأولى كانت في عام 1921 ، وتحت وصاية الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى والمرة الثانية في عام 2003 ، وتحت وصاية الاحتلال الأمريكي- البريطاني . وفي كلتا الحالتين كانت التجربة الديمقراطية تعاني الامرين بسبب تداخل صلاحيات السلطة التنفيذية مع صلاحيات السلطة التشريعية .
وليس بإمكان احد ان ينكر ان التجربة الديمقراطية في العراق فرضت على الشعب العراقي بالقوة العسكرية الامريكية ، خاصة وان مجلس الحكم الذي تشكل بعد الاحتلال كان بتوصية من الحاكم المدني بول بريمر ، حيث كان جميع أعضاءه من الذين قابلوه في عدة مناسبات وحصلوا على تزكية منه ، ولم يكن للشعب العراقي أي رأي بخصوص تشكيل هذا المجلس ، والذي شُكل على أساس نظام المحاصصة القومية والطائفية ، النظام الذي مازال ينخر بالديمقراطية ليومنا هذا وربما لعقود قادمة ، لابل ان التجربة الديمقراطية الجديدة في العراق تتميز بغياب يكاد يكون تاماً للسلطة التشريعية بسبب انشغال معظم أعضاء البرلمان بتحقيق افضل المكاسب المادية لهم وللكتل والأحزاب التي ينتمون اليها وهو الامر الذي انعكس سلباً على الانتخابات التي أجريت مؤخراً حيث كانت المشاركة فيها قليلة جداً ، بعد ان تولدت قناعة شعبية مفادها ان السلطتين التنفيذية والتشريعية عمدتا الى ابتلاع جميع الحريات والحقوق والثروات ، مما أدى الى نشوء نظام طبقي غير متوازن يعتمد المحاصصة القومية والطائفية دون أي اكتراث بتدني المستويات الاقتصادية والخدمية لأبناء الشعب .
إن الديمقراطية الحقيقية هو ان يشعر الانسان بأنه يتمتع بكامل حقوق الانسان وحقوق المواطنة ، وهذا ما فشلت تجربة العراق الديمقراطية في تحقيقه ‘ فلا معنى واضح للديمقراطية ولا وجود حقيقي لها ‘ بل هي مسمى فقط ، إن هي الا فوضى أتت على الأخضر واليابس وأضاعت وحدة البلاد واستقرارها وحريتها . ويمكن القول ان سبب فشل التجربة الديمقراطية يعود لأسباب عديدة منها :
السلوك الاناني للأحزاب الحاكمة التي تضع مصالحها فوق مصلحة الوطن والشعب العراقي ، وكرست منهج المحاصصة بالحكم ، فجعلت الدولة غنيمة تتقاسمها الأحزاب كلاً حسب وزنه النيابي ، وهكذا تشكل حلف من الأحزاب هدفهُ الأول هو الاستمرار في الحصول على المكاسب على حساب المصلحة العامة ، غير مبالين باستمرار تخلف الدولة وتفاقم الازمات التي لها ارتباط وثيق بالشعب ،واصبح الوصول الى مجلس النواب يعني الثراء والجاه .
كما ان غياب الوعي والجهل لدى الأغلبية العظمى من الشعب يقود الناس الى تكرار الخطأ في كل انتخابات ثم الى تكريس تواجد نفس الأحزاب تحت تأثير العامل الطائفي والعنصري والقبلي مع علمهم بفشل هؤلاء بتحقيق مصلحة ناخبيهم . ولا يخفى على احد دور الإرادة الخارجية في تشكيل التوجهات السياسية لدى الأحزاب والجماعات المتصدرة للحكم في البلاد ، مما أدى الى تفريغ التجربة الديمقراطية من أي معنى ديمقراطي حقيقي .
ومن الاطلاع على النظم الديمقراطية في العالم ، نخلص الى القول إن مقومات بناء الديمقراطية مرتبطة بإقامة وعي ثقافي وسياسي وبناء اجتماعي متطور وتعميق ثقافة الانتماء الى العراق ونبذ الانتماءات الطائفية والقبلية ، وتطبيق العدالة الاجتماعية ، التي تتحكم فيها علاقات اجتماعية إنسانية بين أبناء الشعب العراقي ، ولابد من بناء مؤسسات دولة على أسس مهنية وطنية بعيدة عن الطائفية والفساد الإداري والمالي بشتى انواعه . كما ان الانتخابات الحرة النزيهة وان كانت شرط لازم لاكتمال الديمقراطية ، لكن وجودها في ذاته لا يعني بالضرورة أن النظام ديمقراطي ، فلا بد من توافر القيم الإنسانية الأخرى المصاحبة مثل الحرية والعدالة والمساواة .
2763 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع