قاسم محمد داود
العرف العشائري بدل القانون في العراق
موقع العراق بين بيئتين جغرافيتين مختلفتين كان له اكبر الأثر في انتاج قيم المجتمع العراقي ، البيئة الأولى صحراء الجزيرة العربية التي تلامس حافاتها الشرقية حوض نهر الفرات ، والتي كانت من اكبر التجمعات البدوية في المنطقة ، والبيئة الثانية هي سهول بلاد الرافدين حيث نشأت وتطورت على ضفاف دجلة والفرات أولى الحضارات ، لذلك صار المجتمع العراقي يعيش متأرجحاً بين البداوة والتحضر واستقر العرف العشائري في اذهان الناس منذ مدة ليست بالقصيرة من الزمن ووجد له افكاراً قبلية بفعل الظروف التاريخية المستمدة من الواقع والأرض التي نشأ عليها سكان وادي الرافدين وبما ان سكان العراق وبالأخص المنطقة الغربية والجنوبية منه هم امتداد لأولئك السكان واعتماد حياتهم الاقتصادية على الزراعة والرعي الى حد ما اصبح العرف العشائري مهيمناً على جميع مناحي الحياة وعلى الواقع الاجتماعي والسياسي ، واصبح ملازما ً لحياتهم ، يتعاطون معه ويرونه القانون الأمثل لحل جميع معضلاتهم ولأنه جزء مهم لتصريف الحياة اليومية في شتى المجالات نقلوه معهم الى المدن الكبيرة والى العاصمة بغداد عند هجراتهم اليها في أوقات مختلفة . وعندما ضعفت هيبة الدولة بعد سقوط النظام البعثي سنة2003 اصبح العرف العشائري المتوارث والذي أضيفت له فصول جديدة ، هو القانون السائد بدلاً من قوانين الدولة الضعيفة ، كما ان اغلب الحكومات التي توالت على السلطة بعد عام 2003 كانت ضعيفة فلجأت الى تقوية سلطتها بالاعتماد على النعرات الطائفية والعشائرية على حساب المواطنة وحقوق المواطنين فصار من المعتاد ان تشهد فنادق العاصمة الكبرى انعقاد المؤتمرات العشائرية تحت رعاية وحضور كبار المسؤولين الحكوميين مما شكل خللاً في ثقافة المجتمع الذي بات يلوذ بالعشيرة بدلاً من قوانين الدولة ، فهناك جهل من كافة الطبقات فالأستاذ الجامعي والطبيب والمسؤول الحكومي باتوا يلجأون الى العشيرة لحل مشاكلهم سواء في العمل او حياتهم الخاصة . وبفعل الحالة الطائفية السائدة في البلد صارت العشيرة مؤدلجة طائفياً الامر الذي ساعد على تجزئة المجتمع وشوه بطريقة افقدته ترابطه واضعفت الروح الوطنية لدى افراده وصار الانتماء الى الوطن في آخر قائمة الانتماءات ان لم يعدم منها ومن نتائج هذه الحالة التي هي بكل المعايير تخرج عن مسار التاريخ والتطور الحضاري لأن القبلية لم تعد تناسب التقدم الذي تشهده المجتمعات الإنسانية والدولة المدنية الحديثة فالمجتمعات البدوية تكاد تزول في العصر الرقمي الحالي بكل تقدمه المتسارع ، حيث ان الدولة الحديثة تقوم على أساس الحقوق والواجبات وتبنى على أساس المواطنة ولا يكون فيها التمييز بسب الانتماء العرقي او الطائفي .ان تسلط القبيلة والعرف القبلي يسبب تصادماً مع الدولة في البعد الفكري المدني في الدولة الحديثة لان القبيلة تنظر الى مؤسسات الدولة كالحكومة والقضاء وجهاز التشريع على انها تهديد لسيادتها ومنافس لها ، يقول الدكتور علي الوردي : " البدو من أكثر الناس حباً بالرئاسة والامرة واكثرهم نفرةَ من الطاعة والانصياع فالإمرة في نظر البدوي علامة الغلبة والطاعة علامة المغلوبية وهذا الذي جعل القبيلة البدوية تميل الى الانقسام عندما تتضخم في عدد افرادها فوق حد معين حيث يظهر التنافس والخصام بين رؤساء أفخاذهم وقد ينشب القتال بينهم " . ان الموقف الفكري والإنساني المطلوب في المجتمعات الحديثة يختلف عن الموقف نفسه في العقلية القبلية التقليدية التي تتعاضد في الحق والباطل وتكون مواقفها كما وصفها شاعر القبيلة بقوله :
وهل انا إلا من غزية إن غوت / غويتُ وإن ترشُد غزية أرشد
ان غياب سلطة القانون وانحسار هيبة الدولة مقابل سلطة العشيرة وقوانينها التي تحولت الى باب واسع للكسب غير المشروع ومما ساعد على ذلك ضعف وبطء الإجراءات القضائية وانتشار الأسلحة لدى الافراد دون رقابة او سيطرة الحكومة وتظهر سيطرة العشيرة وقوانينها الارتجالية بوضوح عندما يتخلى المواطن عن حقوقه المدنية ولا يلجأ الى مراكز الشرطة او القضاء بل الى العشيرة لنيل ما يعتقد انها حقوقه المشروعة بعد " ان يعرف ان القضاء لا يأخذ حقه ولا يحاسب المعتدين عليه " .
وبات شائعاً اللجوء الى ما يعرف (الكَوامة ) وهي احدى وسائل التهديد بين المتخاصمين والتي عادة ما تكون اما شفهية او أطلاق العيارات النارية عند أبواب المساكن او إيصال التهديد عبر آخرين .
لقد تحولت ظاهرة الاحتكام الى العرف العشائري وعدم اللجوء الى القانون من مجرد اعراف تنظم حياة الافراد في البوادي والارياف حيث يقل وجود سلطة الدولة الى وسيلة للابتزاز واستغلال النفوذ الذي تتمتع به بعض العشائر. وأصبحت وظيفة المحاكم الرسمية العراقية مقتصرة على تسجيل عقود الزواج وامور الطلاق ونقل الملكية وتلبية حاجات شريحة من العراقيين الذين لا ينتمون الى العشائر، كما ان تنامي نفوذ وسطوة العشيرة في حل الخلافات بين الناس فسح المجال لبعض العاطلين عن العمل لاستغلال اسم العشيرة لجني الأموال دون مشقة وهي حالة يدفع ضريبتها المواطنون المغلوب على امرهم وقد يصل الامر الى ترويعهم وتهديدهم ووصل الامر الى تكميم الافواه وقمع حرية التعبير بتهديد الصحفيين وكل من يتجرأ على فتح أي ملف أو انتقاد ، وبدلاً من ان تسود وتنتصر قيم المدينة ، خصوصاً في بغداد التي عُرفت طول تاريخها بأنها مدينة متحضرة ، سادت فيها القيم الريفية المتخلفة ، وسيطرت على أسلوب الحياة البغدادية إذ صرنا نشاهد في العاصمة كتابات على ابنية تجارية ومساكن وامام انظار الشرطة كتابات مثل : (البيت محجوز لعشيرة .. او مطلوب دم ) وهذا يعني التهديد علانية بالقتل دون ان تتخذ الحكومة أي اجراء ضد من كتب هذه العبارات او الحد من هذه الظاهرة التي تتعارض مع هيبة وسلطة الدولة .
ان من اهم المبادئ التي تقوم على أساسها الدولة ومهما كان نظامها هو انها تحمي جميع أعضاء المجتمع وتحافظ عليهم بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية ، كما تعني اتحاد وتعاون الافراد الذين يعيشون داخل مجتمع يسير وفقاً لنظام معين من القوانين ، ويقتضي ذلك وجود نظام قضائي عادل يطبق تلك القوانين ، ان من الشروط الأساسية لقيام هذه الدولة هو الا يتعرض أي فرد وشخص فيها لانتهاك أي من حقوقه من قبل طرف آخر او فرد آخر ، فهناك سلطة عليا هي سلطة الدولة ، التي يجب ان يلجأ اليها المواطنين حينما تنتهك حقوقهم او تهدد بالانتهاك ، وليس سلطة العشيرة ، ان تطبيق العرف العشائري يضعف الدولة ويمكن ان تكون العشائر مساند لسلطة الدولة وليس البديل عنها ، الدولة التي تسمح للأفراد والجماعات بتطبيق العقاب بعيداً عن سلطتها دولة فاشلة بكل المقاييس ومصيرها الزوال . اننا اليوم بحاجة الى مجتمع يحركه الانتماء الى الوطن اولاً وقوة وعي المواطن بما له من حقوق وما عليه من واجبات واقتصاد متين لكي يتجه بالنتيجة الى احترام قوانين الدولة التي هي من تحفظ الدولة وقيمها من التشتت والزوال والعبثية باسم الشعب وليس باسم رجل العشيرة لان قوانين الدولة العشائرية لا تمثل في احسن صورها الدولة المدنية الحديثة التي نطمح لها. ان العشائرية وبكافة اشكالها اليوم لا توجد في الدول المتقدمة بل في المجتمعات المتخلفة لأنها أصبحت تشكل عائقاً كبيراً امام نمو المجتمع وتطوره .
3228 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع