د. منار الشوربجي
الأقليات ومستقبل الاقتصاد الأميركي
حين طالعت أخيراً أخباراً عن ارتفاع قيمة إيجارات المنازل في أغلب المدن الأميركية تذكرت الدراسات التي كنت قد قرأتها منذ شهور قليلة والتي تقول إن العقود الطويلة من التمييز العنصري ستؤثر على مجمل الاقتصاد الأميركي مع حلول منتصف القرن الحالي، والسبب هو أن تلك الدراسات تتوقع انهياراً كاملاً لثروات السود، والأميركيين من أصل لاتيني خلال عقود، وهو ما سيتزامن مع تحول غير البيض في الولايات المتحدة إلى الأغلبية، الأمر الذي سيعني تحولاً راديكالياً في الاقتصاد الأميركي نفسه.
والدراسات، المبنية على إحصاءات رسمية صادرة عن الحكومة الفيدرالية، تشير إلى أن ما يملكه سود أميركا من ثروة سيتلاشى بالكامل مع حلول منتصف القرن الحالي ليصل للصفر، بينما تتلاشى ثروات الأميركيين من أصل لاتيني بعد ذلك التاريخ بحوالي العقدين.
فالفارق في الثروة بين السود والبيض جلي لكل متابع، فوفق الإحصاءات الحكومية، وصل متوسط ثروة الأسر البيضاء في عام 2017 إلى 171 ألف دولار، بينما كان متوسط ثروة الأسر السوداء 17 ألف دولار، والأسر من أصول لاتينية 20 ألف دولار، وتبدو الأسر من أصول لاتينية، في الإحصاءات، في وضع أفضل قليلاً من الأسر السوداء، وهو ما يستغله الخطاب السياسي العنصري لتحميل السود المسؤولية عن أوضاعهم، دون اعتبار للسياق التاريخي وتأثيره عليهم، والحقيقة أنه يستحيل فهم السبب وراء التباين في ثروات الأميركيين دون فهم السياق التاريخي من ناحية، وعلاقة الثروة بمسألة السكن من ناحية أخرى، ذلك لأن التمييز في السكن ظل دوماً أحد تجليات العنصرية المؤسسية هناك.
فمحدودية ثروة السود بالمقارنة بالبيض ترجع جذورها لزمن العبودية، فالسود الأوائل، الذين قدموا لأميركا مكبلين بالأغلال لاستعبادهم، كانوا يعاملون كملكية للبيض يتم بيعهم وشراؤهم، أي كانوا هم أنفسهم جزءاً من ثروة البيض، والعبيد بالطبع كان عملهم دون مقابل، الأمر الذي أضاف لثروات البيض التي كانت تتراكم بفضل عمل السود كعبيد وبفضل المحاصيل التي كانوا يزرعونها، والتي كان ربحها، هو الآخر، يدخل جيوب البيض وحدهم دون السود. بعبارة أخرى، ففي اليوم الذي ألغيت فيه العبودية، صار السود أحراراً ولكن لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً رغم عملهم الشاق على مدار قرون، بينما كان البيض قد راكموا الثروات التي ورثوها للأجيال الجديدة منهم، أما السود فقد بدأوا حياة الحرية عاجزين عن توريث أبنائهم شيئاً، ولأنهم كانوا محرومين من التعليم في زمن العبودية فقد تقلدوا بعدها الوظائف الدنيا في المجتمع والتي تدر بالضرورة دخلاً محدوداً.
ثم بدأت مرحلة الفصل العنصري بعد عشرة أعوام فقط من نهاية العبودية، وهو الفصل الذي انطبق على كل شيء بما في ذلك المسكن، فقد قطن السود المناطق الفقيرة، والتي صارت، بمرور الوقت محرومة من الخدمات التي يتم تمويلها من الضرائب التي يدفعها قاطنو كل حي، ومما ضاعف المشكلة أن الحكومة الفيدرالية نفسها، ومعها سوق العقارات، لم تكن تسمح للسود بالحصول على قروض كالبيض، لشراء المنازل إلا في مناطق بعينها لا يسكنها غيرهم.
وحركة الحقوق المدنية في الستينات لم تفلح، هي الأخرى، في القضاء على العنصرية المؤسسية ولا المستترة خصوصاً في مجال السكن. فحتى حين صار السود قادرين على الحصول على مساكن في مناطق الطبقة الوسطى الأميركية، نشأت الظاهرة التي عرفت «بهروب البيض» من تلك المناطق إلى الضواحي، مما كان يؤدي لتحول السود لأغلبية في الحي. لكن ما إن يصبح السود الأغلبية في أحد الأحياء حتى تنخفض أسعار بيوته في سوق العقارات، فتتلاشى ثروة السود من الطبقة الوسطى. بعبارة أخرى، تشقى الأسرة السوداء لامتلاك منزل في منطقة للطبقة الوسطى أملاً في أن يعيش أبناؤها حياة أفضل، لكن سرعان ما تجد الأسرة ثمن المنزل الذي اشترته يهوي للقاع فتتلاشى معه ثروة الأسرة وقدرتها على تعليم أبنائها في مدارس معقولة فضلاً عن انخفاض مستوى المعيشة والخدمات في الحي الذي يصبح فقيراً، الأمر الذي يعني عجز الأسرة عن توريث أبنائها من الأجيال الجديدة ثروة تذكر.
وأزمة الكساد الأميركي في 2008 كان جوهرها تلك العنصرية المؤسسية التي سمحت بالتلاعب بالأسر غير البيضاء، وبالذات السود عبر منحها قروضاً يتم التلاعب في شروطها، أدت لعجزهم عن السداد وبالتالي ضياع المنازل التي اشتروها، وهي الأزمة التي لم تفلح إدارة أوباما في مساعدة أغلبية ضحاياها من السود واللاتينو معاً.
ومن هنا، فإنه عندما ترتفع قيمة الإيجارات بالمدن الأميركية، فإن معنى ذلك، عندي، المزيد من تلاشي ثروات السود، بل وتحول الكثير منهم إلى أسر بلا مأوى تسكن الشوارع.
المفارقة المؤلمة في كل ذلك هي أن الخطاب السياسي اليميني، خصوصاً في عهد ترامب، يحمل أولئك السود المسؤولية عن التمييز التاريخي ضدهم والذي لم يتلاش حتى يومنا هذا وإن صار أقل صراحة دون أن يكون أقل وطأة وإيلاماً.
1126 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع