عالمنا البنيوي

                                           

                       القس لوسيان جميل

عالمنا البنيوي

الحقيقة بين المعنى والمبنى: جريا وراء فلسفة توما الاكويني واتساقا مع معطيات الكتاب المقدس التي بدأنا نحن المعاصرين نعرف انها ليست معطيات تاريخية Historique بل معطيات شبيهة بالتاريخ Para historique ومعطيات مبنية على معتقدات غيبية حضارية بدائية، وأنها بالتالي نص وضع من اجل معناه وليس من اجل مبناه التعبيري، فقد تكلم الكتاب المقدس، ولاسيما كتاب سفر التكوين منه، عن خلقة العالم وعن خلقة الأحياء، وعن خلقة الانسان بأسلوب حضاري قريب من الأساطير، ليس من اجل تأكيد ما يراه هذا الاسلوب مبنى ومعنى، ولكن فقط من اجل التبشير باله قومي واحد خالق كل ما يرى وما لا يرى، وفق رؤية انثروبولوجية حضارية انسانية، وليس وفق اية نظرة انطولوجية ( الاله كما هو بحد ذاته )، لأننا نعرف ان هذا الاله بحد ذاته In se- En soi لا يستطيع بشر ان يعرفه او يدركه، او حتى ان يصف ويحدد طبيعته، لأنه مختلف في طبيعته عن طبيعة البشر بشكل كلي. 

لغة الوحي الانسانيـة: وعليه فان البشر لا يستطيعون ان يقولوا، وحتى من خلال الوحـي، اذا وجد، ان الله هو واحد، او هو اي عدد آخر يرونه، لأن الوحي لا يمكن ان يصل الى البشر الا بعد ان يرتدي هذا الوحي اللباس الأنثروبولوجي، ويأتي بلسان انساني انثروبولوجي، وبحسب عقلية وحضارة انسانية انثروبولوجية. غير ان ما لا يمكن قوله وفق نظرة انطولوجية انسانية، يصبح ممكنا ومعقولا وفق نظرة انثروبولوجية انسانية وجدلية، حيث صار اله بني اسرائيل الها واحدا يرعى قوما واحدا ويوحدهم ويسير امامهم بحسب ايمانهم وقناعتهم القومية التي كان بنو اسرائيل في تلك الحقبة بأمس الحاجة اليها انثروبولوجيا.
حصول التغيير الجدلي: غير ان حاجة الانسان القومية قد سقطت منذ زمن مجيء يسوع المسيح، كما اسقط بنو اسرائيل صورة الآلهة المتعددة Polythéistes لتحل محلها جدليا صورة الاله الواحد Monothéiste، مما يدل على ان صورة الله، كما تصل الى البشر، تتغير جدليا من حقبة الـى أخرى، حيث تكون محاولة الاحتفاظ بهذه الصورة، بعد زوال قوة خدمتها الأنثروبولوجية، محاولة عبثية، نوعا ما، نقول نوعا ما، لأن العمل السلفي الذي يحاول الاحتفاظ بصورة الله التي تحقق مصالـح بعض الناس او الطبقات الاجتماعية الحاكمة، يمكن ان ينجح لفترة معينة حسب قوة هذه السلفية الفكرية والتنظيمية، الأمر الذي يجعلنا نستنتج بأن كل صورة من صور الاله الأنثروبولوجية تكون في اعلى حالتها في بداية النضال السلبي للحصول على فوائد هذه الصورة التحررية، كما تكون بملء قوتها بعد انتصار الصورة الالهية الجديدة وتحولها الى مؤسسة دينية اجتماعية مبنية على الصورة الالهيـة. ونعني هنا امة جديدة.
لا نستغرب: ولذلك نحن لا نستغرب ان تكون قصص كثيرة موجودة في سفر التكوين، شبيهة تماما بالأساطير البابلية، طالما نعرف ان الجاليات اليهودية القادمة الى العراق منذ سبي بابل، نقلت معها الى شعب بني اسرائيل عند عودتها بسماح من الملك كورش الى بلادها، كثيرا من التراث البابلي الثقافي، مثل قصص الخلقة وقصة آدم وحواء وقصة الطوفان وغيرهـا. علما بأننا لا نتكلم هنا عن هذه المسألة بإسهاب، لأنها ليست موضوع كلامنا في هذا الفصل.
ماذا عن الكتاب المقدس: غير ان ما نريد ان نقوله هنا، هو ان الكتاب المقدس، ولاسيما العهد القديم، تكلم عن خلق الكون وخلق الانسان بطريقته الاسطورية الخاصة، لكي تربط انسان العهد القديم بإلهه الواحد الجديد، غير آبه بالأسلوب التعبيري الذي استخدمه، هذا الاسلوب الذي لم يكن للكتبة في ذلك الزمن غيره للتعبير عن مشاعرهم الايمانية الحقيقية الصادقـة. اما القضايا العلمية التي نعرفها اليوم فما كانت واردة بأي شكل من الأشكال، لذلك جاءت جميع ادبيات الكتاب المقدس، بما في ذلك كتب العهد الجديد مبنية على نمط الفكر الحضاري الذي كان سائدا آنذاك، حيث كل شيء يمكن ان يحدث طالما كان الله هو فاعله، وحيث لم يكن احد يسأل الكاتب عما يكتبه من امور غيبية وغير واقعية ومتناقضة مع العلوم الحديثة تناقضا صارخا. من اجل ذلك اذن لم يعد جائزا لنا ان نطلب من كتابنا اي استنتاج علمي، وذلك لأن اعطاء العلم ليس من اختصاص الله علة الكون الاولى، بل هو من اختصاص العلل الثانية التي وضع الله فيها كل ما يلزمها لتقوم ببناء الانسان وتطويره بحسب برنامجها الكوني الطبيعي العجيب الذي نجده في كينونة المادة نفسها، ونجده في انظمة مجتمعاتنا، وفي انظمة كل حياتنا الأخرى.
وماذا عن الفلسفة: اما ما عرفناه، او من عرفناه عن طريق الفلسفة، فليس هو الله، بكامل صفاته، وإنما هو فقط ما سماه القدماء ونسميه نحن ايضا "الأول" اي الموجود الأول، او العلة الأولى. وبذلك نكون قد سجلنا نقطة واحدة في معرفة الهنا، تشبه ما كان عند توما الاكويني، الا وهي امكانية التأكيد على ان لهذا الكون الها، وأنه شخص عاقل، وأنه خلق الكون بما فيه من نظام غير مدرك، غير اننا لن نعرف لله صفة أخرى غير صفة الوجود الأول، او العلة الأولى، ربما بسبب الفارق بين طبيعة الانسان المعرفية وطبيعة الله. كما اننا نشك بإمكانية قدرات الانسان التصوفية على اختراق طبيعة الله السرية والصعود الى معرفة الله الانطولوجية. والكاتب يرى من خلال تأمله الشخصي بالحالة الصوفية ان الخبرات الصوفية لا تأتي المتصوفة، عن طريق المعرفة بالله كعلة اولى، بل تأتيهم عن طريق الله العلة الثانية التي تمثل لنا الهنا الانساني الذي هو بالفعل بمستوى قدراتنا الانسانية. علما بأن هذا التصوف يشبه حالة الانسان البدائي الذي يعرف امورا كثيرة عن طريق الحدس الأنثروبولوجي، في حين انه يعبر عن هذه الأمور التي يقدسها من خلال لاهوت اسطوري ينتمي الى فكر المعتقدات.
حدود معرفتنا بالله: وفي الواقع نحن لن نعرف كيف خلق الله هذا العالم الذي يبقى امامنا سرا مغلقا، مهما توسعت مداركنا وعلوم علمائنا. ويقينا اننا بحاجة ماسة الى ان نعرف بأن معلوماتنا عن الله، وبالتالي عن الانسان، تأتينا بشكل انثروبولوجي، اي ان هذه المعلومات تأتي على قدر امكانية استيعابنا للحقائق المسماة بالإلهية، الأمر الذي يفيدنا في معرفة الانسان ايضا، حيث سنعرف عن الانسان انه يتبع العلة الثانية ولا يتبع العلة الأولى بشكل مطلق، الأمر الذي سنتكلم عنه بمناسبات عدة.
قاعدة عامة: ولكن مهما يكن فإننا عرفنا الآن ان الله الذي خلق الكون الذي يبهرنا، لن يعود يعيده الى العدم ويخلقه من جديد، لأن ما يعمله الله لا يمكن ان يندم عليه، بسبب كمال الله وكمال مشروعه. كما ان الله لن يتدخل في امور كوننا لأي سبب كان. ربما ليس لأن الله غير قادر على هذا التدخل، وإنما لأنه لا يريد هذا التدخل، لأسباب معقولة، او لأسباب يمكن ردها الى قانون التناقض، والى قانون لافوازيه ايضا، والذي يقول بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، الأمر الذي يجعلنا نقول ان الله لا يستطيع ان يجعل من نفسه، بتدخله في العالم، بمثابة قانون جديد يعطل القوانين القديمة، بعد تدميره قوانين أخرى اوجدها هو نفسه ( بحسب فكرة الخلق ).
مشروع الله هو واحد: فمن الواضح اذن ان مشروع الله هو مشروع واحد، وهو مشروع الكون بأكمله، او ما اسميناه ايضا بتسمية فلسفية مشروع العلة الثانية التي اوجدتها العلة الأولى، هذا المشروع الذي يقول عنه الكتاب المقدس انه حسن: ورأى الله ذلك انه حسن. سفر التكوين. اما هذا المشروع الذي يحافظ على قوانينه الذاتية، حاضرا وماضيا ومستقبلا، دون تغيير، فيشمل عالم الانسان في ماضيه وحاضره وفي مستقبله ( من الألف الى الياء ). علما بأن هذا المشروع، كما تكلم عنه العلماء خاصة فهو مشروع واحد يخدم نفسه بنفسه، وفيه كل ما يحتاج من قواعد وقوانين تصب كلها في خدمة مشروع الباري الذاتية.
عظمة المشروع الالهي: وماذا نقول! اذ على الرغم من أن الكون كله يكاد ان يكون غير متناه في تعقيده وفي عظمته وجماله وروعته وأسراره، بحيث تصير اية مقارنة مجرد وهم بسبب بنيوية الكون كله ووحدته وتجانسه، حتى يقال ان ما كان يعتقد انه فراغ في الكون، مملوء بمادة غير منظورة، فإننا، على الرغم من ذلك، سنفتح قوسا لنقول بأن عالمنا الانساني، وان كان عالما مماثلا، فانه عالم اقرب الينا كثيرا من سائر عوالم الكون، الامر الذي يسمح لعلمائنا ان يدرسوا عالمهم الأرضي عن كثب ومن ثم يعمموا دراساتهم على الكون كله، ما لم يثبت العكس. نقول هذا الكلام ونحن نعلم من خلال محاضرات اخذناها هنا وهناك، بأن العلماء تمكنوا من ان يدخلوا الى حرم البنى الصغرى Micro structures مثل عالم الفيروسات وما دونه ايضا. ومثل عالم الخلية وبواطنها، والذرة وبواطنها، وصولا الى اصغر بنية يمكن الوصول اليها، من اجل كثير من ابحاثهم العلمية، ومنها الأبحاث التي تتعلق بالجينات وبال D N A وربما اعمق من ذلك بكثير. يقال ان علماء في الولايات المتحدة تمكنوا من تقليد دماغ الانسان بشكل يكاد ان يكون كاملا. ومع هذا يبقى دماغ الانسان دماغ انسان ويبقى دماغ الحاسوب دماغ حاسوب.
اكتشاف ظواهر عديدة: من خلال ابحاثهم استطاع العلماء ان يجدوا عدة ظواهر في الكون وفي عالمنا. فهم قد وجدوا مثلا ان هناك بنى لم يستطع العلماء ان يعرفوا اذا ما كان ما وجدوه كائنا حيا ام جمادا. ثم وجدوا غيره ولم يستطيعوا ان يعرفوا اذا ما كان قد وجدوه نباتا ام حيوانا. اما في مجال الانسان فهم الى حد الان يفتشون عما سموه بالحلقة المفقودة التي تجعلهم يشاهدون الطفرة الوراثية التي انتجت الانسان القديم المسمى بالإنسان الراشد Homo Sapiens بحسب تعبير علمي لاتيني. طبعا قد لا يكون الكون غير المرئي بتعقيد عالمنا الانساني البنيوي، او لا يظهر هذا التعقيد للعيان، لأننا بعيدون عنه، ولذلك نحسب ان معرفة الكون من قبل الانسان اصعب من معرفة الكون بشكل عام. ولكن مهما كان من امر تعقيد الكون، فإننا متأكدون بأن قوانين اساسية تسيطر على كوننا الكبير Macro cosmos وهي قانون الجاذبية وقانون الجدل وقانون البنيوية، وقانون البناء الذري لكل الكون، بما فيه عالمنا الانساني، اما ديموقريطس هذا فلم يكن يعرف الذرة، كما نعرفها الآن، لذلك كانت الذرة عنده تسمى الجوهر، حيث كان يتكلم عن الجوهر الفرد، اي المادة التي منها تتكون المواد الأخرى، وفق تصور معين خلاصته ان الجواهر الفردة تدور، وفي عملية دورانها هذه تصطدم الذرات بعضهـا ببعض، ممـا ينتج عنه اندماج هذه الذرات بعضها مع بعض. طبعا هذا الفيلسوف يتكلم عن بداية عالمنا المادي. اما هذا الجوهر فيحصل نتيجة تقسيم المادة، حيث يكون الجوهر المادة التي لم تعد تقبل مزيدا من القسمة.
العلماء والذريرة: ان علماءنا منذ فترة لا بأس بها كانوا يفتشون عن هذه المادة التي لم تعد تقبل القسمة. في البداية اكتشفوا الجزيء ثم اكتشفوا الذرة. بعد ذلك اكتشفوا وجود الالكترونات تدور حول نواة هذه الذرة. ثم اكتشفوا النيوترونات وما سموه الكيوركات وغيرها، في انهم اكتشفوا وجود فراغ كبير بين كل هذه الأجزاء التي ذكرناها. ولكن هناك سؤال يقول ترى هل وصل العلماء الى المادة التي منها يتكون تركيب الذرة ؟ يبدو ان العلماء لم يكتشفوا هذه المادة بعد، حتى وان اقتربوا من هذا الاكتشاف، حسب تصريحات بعضهم.
لسنا علماء بل مفكرون: غير اننا ذكرنا كل هذه التفاصيل بشكل يكاد يكون شعبيا، لأننا لسنا علماء بل مجرد مفكرين حول مادة علمية. فهل نسمي نحن هذه المادة بالبنية فائقة الدقة Micro structure؟ نعم يمكن ان نسميها هكذا، لأننا لا نملك غيرها. ولكن المهم ان نعرف من خلال معرفة تماثلية، ان عالمنا وكذلك كوننا، ليسا قطعة من مادة جامدة صلدة لا حركة فيها، لكن عالمنا وكوننا عالم بنيوي مبني بناء فائق الدقة. فلكل بنية فيه حركتها وفعاليتها الخاصة، وكذلك دورها الفعال المهم في البنية الأكبر التي تنتمي اليها كبعد لا يمكن الاستغناء عنه. اما هذا الكلام فيعني ان هذه البنى في حركة مستمرة، هذه الحركة التي لها خصوصيتها وقواعدها الخاصة بها، مما يعني ان لكل بنية وظيفتها الخاصة بها في البنية الأكبر منها.
تسمية بنيوية: بهذا المعنى المشار اليه اعلاه، يمكننا ان نقول ايضا بأن كوننا وعالمنا كون وعالم يتكون من بنى فائقة الدقة، سميت قديما بالذرات، اما في هذا الكتاب فنسميها بالبنى فائقة الدقة، والتي تعتبر اصغر عنصر مادي في الكون كله ولا يقبل القسمة بعد هذا. فالعلماء بالحقيقة يعتبرون العالم، او اي جزء منه، بناء بنيويا لا يعطي معناه الحقيقي الا من خلال انضمام البنى الى بعضها البعض لتشكل مجموعات اكبر، لها في الكل الأكبر وظيفتها الخاصة التي يمكن اعطاء اسم لها، بعد معرفة عمل هذه الوظيفة بشكل علمي حقيقي. وفي الحقيقة عندما كنت اعطي محاضراتي الفلسفية، وخاصة في درس الفيلسوف ديموقريطس، كنت اشبه هذه الجزيئات بالبكسلات، غير اني مؤخرا وجدت بالصدفة من يشبه دقائق المادة بالبكسلات ايضا. وهو تشبيه يأتي من عالم الكومبيوتر وأسسه الحسابية، كما هو معروف، حيث تتشكل اجسام مختلفة حسب قانون حسابي مبني على هذه البيكسلات.
الانطولوجيا ليست طريقنا الوحيد:غير اننا نستطيع ان نفهم بأننا لا نطال المعرفة الالهية من خلال طريق واحد، هو الطريق الانطولوجي، حيث يهتم الانسان بالجوهر، من دون الأعراض. وذلك لأن الجوهر هو الذي يعرف الأشياء ويعطي لها هويتها، بينما الأعراض كلها نسبية ولا قيمومة لها بذاتها، وإنما توجد محمولة على الجواهر ( الكينونات ). كما يتكلم بذلك اللاهوت المسيحي التقليدي، او الروحي فائق الطبيعة، بينما نبقي مصطلح الميتافيزيقي للأمور الروحية الانسانية الصرف. فما نستطيع ان نصل اليه في الواقع بهذه الطريقة الميتافيزيقية الفلسفية هو شيء، وليس كل شيء عن الله فقط، دون ان نتبع توما الاكويني في كل المنعطفات التي يسير فيها، في حين نصل الى سائر الحقائق الأخرى من خلال طريق آخر هو طريق العلة الثانية، وهو بيت القصيد. اما هذا الطريق القديم الجديد فهو الطريق الأنثروبولوجي الذي يقبل التحليل والاستقراء والقياس المنطقي، وان كان العلماء يجدون كثيرا من الصعوبة عندما يتعاملون مع ظواهر كونية وشؤون العالم المعقدة، حتى وان لم يكن بحثهم لا يخرج عما نسميه في هذا الكتاب بالعلة الثانية.

     

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

583 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع