الهروب الى الموت

                                            

                     وليد حمادة سطم الراوي

الهروب الى الموت
قصة وفاة المهندس فاضل حمادي حبيني الراوي رحمه الله

بعد أن عظم البلاء وأدركتنا أيادي الظلم والشقاء وبان المخطط الكبير في تدمير المدن والأحياء، عزمنا على الخروج من المدينة، كان ذلك في الأول من سبتمبر عام 2015، كانت المجازفة الأولى هي كيفية الخروج من راوه أولاً، أشار إلي أبي بأن نرسل العائلة بسيارة ونحن نركب دراجة نارية للحاق بهم وفعلاً تم ذلك حيث أن الدواعش لم يخطر ببالهم أن من يخرج بدراجة يروم الذهاب إلى تركيا! 

وصلنا مدينه القائم وهناك اجتمعنا بالأهل وقلوبنا ملؤها الخوف من المجهول في رحلة محفوفة بالكثيرمن الصعاب، وصلنا إلى البوكمال السوريه وهناك ركبنا سيارة حمل من نوع كيا متجهين نحو مدينة الميادين، عند وصولنا إلى هناك بدأنا بالبحث عمّن يوصلنا إلى الحدود التركية فالطريق محفوف بخطر داعش ومفارزهم المنتشرة في أغلب الطرق، من خلال البحث وجدنا ضالتنا وهو سائق محترم من أهل الميادين الكرام اتفقنا معه ليوصلنا إلى الرقة، توجه بنا إلى بيته لأخذ قسط من الراحة وجهز سيارته بالوقود وأخذنا معنا مياه الشرب حيث الحر الشديد وشمس الظهيرة العالية، صلينا الظهر والعصر قصراً وجمعاً وتوكلنا على الله وخرجنا، طوال هذا الطريق كنا نشعر بالألفة والسرور والضحكات ترتسم في وجوهنا والأمل يحدونا بأن نصل إلى الجانب الأخر من الحياة، كانت المناظر الخلابة على طول الطريق تعطي انطباعا شمولياً بجمالية الأراضي السوريه وبث روح التفاؤل بسلامة الوصول .
والدي ينظر إلى تلك الطبيعة المتلونة، فكلما مررنا بمكان جميل أو قرية فيها من ألوان الزراعة الزاهية يقول: "إنها رحله العمر".
أخيراً وصلنا الرقة عاصمة خلافة البغدادي وجنده، كل شيء فيها يدل على الخراب، سواد الثياب وغبار الوجوه وأشعث الشعر المتجعد، قذارة مرسومة في مكنون نفوسهم العفنة، لا شيء في تلكم الوجوه تدل على الرحمة، الرايات السود تملأ المدينة فوق الركام وبين الزحام، بدأت الشمس بالغروب معلنة عتمة سواد ليل الظالمين في الرقة، توجهنا نحو فندق في المدينة، كانت ليلة حارة مع إرهاق وإعياء السفر، أصوات الطائرات مزقت سكون الليل بأزيزها، تجوب سماء المدينة حتى الفجر، كان لها هدفاً أصابته بصاروخ، صوت الإنفجار كان كافياً في بث الرعب في الأطفال والنساء .
صباح اليوم التالي 2/9/2015 استأجرنا سيارة أخرى لنكمل رحلتنا نحو الحدود الشمالية الغربية لسوريا، خرجنا مبكرين وبعد مسيرة مايقارب الساعتين توقفنا لتناول الفطور في إحدى الاستراحات، بعدها بدأت السيارة بإكمال ما بدأنا به نحو الحدود، أحسست بما يدور في ذهن أبي وهو يفكر بمصيرنا وما ينتظرنا في رحلة لم نكن فيها نطلب سوى الأمان والاطمئنان لعائلتي والخلاص من جحيم الأوباش وإجرامهم باسم الدين، كنا نرى قرى ومدن شتى في طريق اتخذناه الملاذ الأخير لنا، مع تلك الأفكار وما يجول في مخيلتي وإذا بالسائق يقطع سلسلة أفكاري معلناً انتهاء الرحلة، وصلنا منطقة فيها من التلال المتناثرة هنا وهناك، كان هناك مسلحين استفسرنا عنهم فقالوا لنا إنهم الجيش السوري الحر، إذن خرجنا من مناطق داعش، هذا أول الغيث والحمد لله، هناك إحساس بالأمان بعض الشيء مع ضمور العلامات والرايات السود، قبل مغادرة المكان التقينا صدفة بعائلة المرحوم أبو أيسر ناجي إبراهيم الراوي، استأجر كل منا سيارة حتى وصلنا إلى الحدود في منطقة خربة الجوز التابعة لريف إدلب ولم نرَ تلك العائلة بعدها، حل الظلام وبدأنا المسير باتجاه الحدود التركية، عبرنا الأراضي السورية بحذر شديد وبعد مسيرة عشرة دقائق داخل الأراضي التركية بدأ الجيش التركي بإطلاق الرصاص الحي باتجاهات شتى، بدأ الرعب يدب في الأطفال والنساء، بكاء وصراخ وعويل، هدأ الوضع قليلاً فبادرنا بالمسير مرة اخرى واذا بجنود اتراك يركضون نحونا وأمسكوا بنا أنا وأبي وأخواي وواحدة من أخواتي الصغيرات، تراجعت أمي في هذه الأثناء هي والأختين الأخريتين باتجاه الأراضي السورية، اختبؤوا بين الاشجار مع بعض العوائل الأخريات، كان مشهداً مهولاً ومريعاً ولكن ليس باليد حيلة، أخذونا نحن إلى سجن في مقر قريب للجيش التركي، أحسست بما يشعر به أبي من إحباط وألم شديدين لما أصابنا الآن وترك أمي وأختاي يلاقون مصيرهم المحتوم في هذه الغابة وفي هذه الأرض التي لم نطأها من قبل، كان أبي شارد الذهن محبوس الأنفاس تأخذه الافكار يميناً وشمالاً.
أدخلونا في السجن في ليلة بارة ونحن بملابسنا الصيفية، كان البرد القارص قد هجم علينا مع إنهيار تام وإعياء لم يصاحبني طوال حياتي، لاطعام ولاماء ولاأي شيء من هذا القبيل، بعد جهد مضني استطعنا التواصل مع أمي المتعبه والاتصال بها والاطمئنان عليها، أخذ والدي الهاتف وبدأ يطمأنهم بأننا بخير وسنخرج في الصباح الباكر إن شاء الله، في هذه الأثناء قالت لنا أمي: "هل نعبر نحن وأنتم تلحقون بنا؟"، قال لها أبي: "نعم إن كنتم تستطيعون ذلك ونحن سنلحق بكم غدا ان شاء الله"، كانت كلماته تخرج من فمه ولكن هناك ما يدور في خوالج صدره من هموم وآهات، لم أشعر أنه مطمئن لكلماته التي تخرج من فمه، بل هي لتطييب خاطر أمي وحثها على إكمال ما بدأنا به وهو العبور إلى بر الأمان في تركيا، تم عبور والدتي وأختيَّ ليلاً إلى أحدى القرى التركية مع عوائل أخرى وإسكانهم في أحد البيوت أملاً في اللحاق بهم غداً إن شاء الله، في تمام الساعه ١٢:٠٠ ظهراً أخرجونا من السجن وأعادونا مرة ثانية إلى الاراضي السوريه حيث كان هناك ينبوع ماء بارد نزل والدي وأخوتي للسباحه لإعادة النشاط وحيوية اللذين فقدناهما مساء أمس، حلق والدي لحيته وأحضرنا بعض الطعام والشراب ثم استلقى أبي تحت شجرة جوز ونام بعض الوقت، بقينا على هذه الحالة حتى حلول المساء وكنا بين الفينة والأخرى نتواصل عبر الهاتف مع والدتي والاطمئنان عليها وعلى أختيَّ وأحوالهما، ومع إسدال ستار النهار وحلول ليل آت بدأنا المسير مرة أخرى إلى داخل الاراضي التركية، مشينا نحو ساعتين من الزمن بين أشجار كثيفة ومرتفعات شاهقة ومنحدرات مخيفة، أخيراً وصلنا إلى مكان قيل لنا انتهت مرحلة الخطر وأصبحتم في مأمن قرب إحدى القرى التركية، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، في تلك اللحظة المشؤومة قال أبي يا أيمن لقد تعبت كثيراً أريد أن أجلس للراحة، استلقى تحت شجرة وبدأتُ بتحريك الهواء على وجهه بقطعة قماش لكي يشعر بالراحه وجلبت له الماء البارد وشرب قليلاً، وبدأ يشعر بألم في صدره، قال لي يا أيمن قلبي يؤلمني لا استطيع إكمال المسير معكم إعتنِ بأمك وإخوتك، كلمات كان وقعها كالصاعقة علي! بدأ إخوتي بالبكاء والجلوس حول أبي.
"يا أبي انت قوي وستتعافى وسنكون بأمان جميعاً إن شاء الله، أمي تنتظرنا الآن يا أبي يجب أن تكون بخير"، هذه الكلمات خرجت من فمي علها تصل إلى قلبه المليء بالحب لنا ، قال لي لا أستطيع قلبي يؤلمني جداً، بدأت أسأل المتواجدين هل يوجد مستشفى أو طبيب أو أي شيء من هذا القبيل؟ أريد الاتصال بأسعاف هلا أحد يعرف كيف؟ كل محاولاتي باءت بالفشل، يمر الوقت بسرعة وأنا أنظر اليه وكيف أن حالته قد ساءت أكثر وأكثر، تمنيت أن يمسك الأتراك بنا الآن لكي أنقذ ابي ويحول إلى مستشفى تركي، إستمر هذا الحال لأكثر من ساعتين وأنا لا أستطيع فعل اي شيء سوى المكوث بجانب والدي، عند الثالثه فجراً صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، لحظات شرود أسدلت ستارها على عمود بيتنا وضوءه الناصع البهي، أبهذه البقعة الغريبة بين أحراش غابة وأرض أجنبية لم أكن أعرفها قط تأتي منية أبي هكذا؟ لا اعتراض لحكمك يا إلهي، كيف أتصرف الآن وأين أذهب ماذا أقول وماذا أفعل، مات أبي! أُسكت إخوتي تارة وأجلس قرب رأسه تارة أخرى ولا أستطيع حبس دموعي الحارقه، إنا لله وإنا اليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل على من ظلمنا، واللعنه كل اللعنة على داعش ومن جندهم وساندهم .
جاءت سيارة الاسعاف أخيراً كان ذلك صباح الجمعة الموافق 04/09/2015 في منطقة تدعى يلاداغ، نقلت الجنازة إلى مركز صحي قريب وتمت الاجراءات القانونية لتثبيت الوفاة ثم جاءت سيارة نقل الموتى لأخذ الجنازة وهنا مرة اخرى أقف عاجزاً أمام أمر آخر، السائق لا يقبل أن يأخذ اخوتي الصغار معنا، بكيت عنده وترجيته كثيراً بلا فائدة، واذا بي أرى شاباً من سوريا كان معي في ذلك المساء المشؤوم، طلبت منه ان يعتني بإخوتي الصغار لحين عودتي من الدفن، وقلت له إخوتي أمانة في رقبتك، وهنا لا أدري ما الذي حل ببقية العائلة لكن علمت أن نبأ وفاة والدي قد وصلهم، بدأت بإجراء اللازم لحفر القبر ، كل ذلك يجري وانا أحاول أن أتمالك نفسي لأنقذ بقية عائلتي، وصية والدي عليّ تنفيذها، أمي وأخوتي أحوج ما يحتاجونه لي الآن، استطعت عبر الانترنت أن أتصل بابن عمي إياد في بغداد لأعلمه بوفاة والدي وأن يبلغ بقية الأقارب هناك، سهل الله لي بأن يكون حولي بعض الشباب السوريين اليافعين خارجين من تحت ركام براميل الموت في سور،يا لم أكن أحمل معي أي نقود تركية واستطعت ان أؤمن ذلك والحمد لله، أيضا كان هناك رجل يدعى أبو سيف وآخرون جزاهم الله خيراً عند سماعهم بقصتي سارعوا لتقديم المساعدة لي، اشتريت بعض العطور مع الكفن وبدأت بتغسيل الجنازة وحملها إلى مثواها الأخير في بقعة كان عزيز عليّ أن يدفن فيها أبي لغربتها وآلامها التي عشناها لأيام صعاب كانت احلك ما تكون علينا منذ أن خرجنا إلى هذه الدنيا، ما أصعب أن يموت الإنسان في مكان غريب، ولكن هذه إرادة الله (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت ).
بقي علي ان اعود إلى إخوتي الصغار حيث أنهم ما زالوا عند ذلك السوري، بداية شعرت أنه يريد نقوداً على ما قدمه لي كخدمة لاعتنائه بعض الوقت بإخوتي، مع أنهم أخذوا ما تبقى من حقائب كنا نحملها، ولكن بفضل الله إتصلت بابن عمي أوراس الذي بدوره أرسل إلي شخصاً تركياً وعلى ما أظن انه موظف حكومي ذهب إلى هناك وجاء بالأطفال .
أخيراً اجتمعت أنا وإخوتي الصغار مع والدتي وأختاي اللتان كانتا معها وقلوبنا مكلومة على فراق أعز ما نملك في هذه الدنيا، كان لقاءً وأي لقاء كان؟ ننظر إلى بعضنا البعض ونبحث عن ضالتنا فيما فقدناه، لقد دفن والدنا هنا في ارض لا نعرفها بين آهات النزوح وويلات ما تركناه في بلادنا .
أدعو لك يا والدي بالرحمة من رب كريم غفور حليم، أنت وكل أموات المسلمين 

 وليد حمادة سطم الراوي
ماجستير ادارة صناعية
تركيا - مرسين

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

693 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع