صالح الطائي
والدتي وتشكيل الكلمات
التشكيل: علامات وحركات ترسم على الحروف العربية لضبطها وتصحيح نطقها، ظهر إلى الوجود بشكل واسع في العصر الأموي كحاجة فرضتها التطورات، فمع اتساع الفتوحات، ودخول الأعاجم في الإسلام، وتوافدهم إلى أرض العرب، واختلاطهم بهم، تفشي اللحن بين الناس، مما استوجب العودة إلى ما وضعه أبو الأسود الدؤلي من علامات بناءً على طلبٍ من خليفة المسلمين علي بن أبي طالب(رض). ثم مع مرور الأزمان وتفشي الانحلال في جسد الأمة واستيلاء الأعاجم على كراسي الحكم، فقدت اللغة أهميتها، وتحولت إلى هجين يبعد كثيرا عن أصوله. أما التعليم الذي تأثر بالواقع السياسي والاجتماعي فإنه وبسبب محدوديته وتخصصه في الشأن الديني حصرا فإنه كان أضعف من ان يتمكن من تصحيح الأمور، ولكنه مع ذلك نجح في الحفاظ على بقايا الموروث ولكن بأسلوب ملائي فيه الكثير من الإشكالات.
فنمط التعليم المُلائي الذي كان يدقق كثيرا بالجزئيات؛ سواء على مستوى الحلال والحرام أو على مستوى اللغة والإعراب والسنن العامة وحتى السلوك، تسبب في تعقيد اللغة، فبدت في عالم خاص يبدو غريبا عن عالمها المألوف. وبعيدا عن الحديث عن مجمل التعقيدات التي أحدثوها، لا بأس في التحدث عن الأنماط الملائية في الإعراب كأنموذجٍ للمعاناة التي أحدثها التعقيد الشامل، فتعالوا لنعرف كيف كان آباؤنا وأمهاتنا المساكين يتهجون الكلمات وحركاتها يوم كان (المُلا) هو المشرف على التعليم، هو المدير والمعاون والمعلم ومراقب الصف وحارسه، أي أنه كان مدرسة متكاملة يقوم بكل ما تقوم به المدارس المعاصرة .. وأنا هنا اتكلم عن المدارس المعاصرة في العراق فقط لأنها بكل اعتزاز لا زالت على طبيعتها الأولى يوم تم فتح أول مدرسة عراقية في فترة ولاية مدحت باشا (1869 ـ 1872)، ومن ثم أنشئ نظام التعليم في العراق في عام 1921، وتوسعت رقعة المدارس فشملت كل أرض العراق، إذ تتفق الآراء على أن مدارسنا العراقية المعاصرة تكاد لا تفرق شيئا ولا تختلف كثيرا عنها في بداية نشأتها، ولربما كانت في نشأتها الأولى أفضل منها اليوم.
ولكي لا أبتعد ولا أقتبس من غرباء سأتحدث عن تجربة والدتي(رحمها الله). لقد حصلت والدتي بغدادية المولد والنشأة على فرصة تلقي العلم على يد (الملا) التي كانت تعلمهم القراءة والكتابة وحفظ القرآن. واتذكر أن والدتي (رحمها الله وغفر لها) كانت تقرأ ولا تكتب، وقراءتها كانت سليمة.
وحينما أدخلت إلى الصف الأول الابتدائي، بدأت والدتي تعطيني دروسا وفق فهمها للقراءة المحركة، فأحفظ ما تقول، وحينما أذهب إلى المدرسة ويطلب مني المعلم أن أقرأ، أبدا القراءة بأسلوبها الذي علمته لي، فأحصل عادة على ضربتين على كفيَّ الاثنين عقابا بسبب ذلك الأسلوب الغريب في القراءة، وقد تكررت الحالة عدة مرات إلى أن ذهب المعلم (رحمه الله وغفر له) إلى والدي(رحمه الله وغفر له)، وطلب منه عدم تعليمي تلك الطريقة، فتخلصت من العقوبة اليومية بسبب زير وزبر، ولكني لم أتخلص من رواسب ذلك الموروث العذب الجميل، فهو لا زال راسخا في ذاكرتي، أداعب به أحفادي، فيضحكون كثيرا.
وأول ما يجب أن تعرفوه هو أن أسماء الفتحة والضمة والكسرة المتداولة؛ التي يبنى وفقها تحريك الكلمة ونطقها حاليا، والتي استنبطها الخليل بن أحمد الفراهيدي، واستبدل بها النقطة التي استخدمها أبو الأسود الدؤلي لتحريك الكلمات، تحولت وفق المنهجية الملائية إلى نمط لفظي جديد وكما مبين في أدناه:
كانت الضمة (ـُ) تسمى: بيش، فإذا قرأوا دالا مضمومة قرءوها هكذا: دال بيش: دو
والفتحة (ـَ) تسمى زَبَرْ، فإذا قرأوا دالا مفتوحة، قرءوها هكذا: دال زبر: ده
والكسرة (ـِ) تسمى زير، فإذا قرأوا دالا مكسورة يقرءوها هكذا: دال زير: دي
ولكي تعرفوا مقدار التعقيد الذي كان الطلاب يواجهونه فينهكهم ويتعبهم، سنعرب جزءً من آية (الحَمْدُ لِلِهِ رَبِّ العالَمين) من سورة الفاتحة المباركة وفق منهجيتهم المعقدة القديمة:
ألف لام زبر: أل
حا ميم زبر: حَم
* الحم
دال بيش: دو
* الحمدُ
لام زير: لي
لام ألف: لا
* لِلِا
ها زير: هي
لِلهِ
وهكذا كانت ألسنهم تلقلق بهذه النغمات ؛ التي هي أقرب إلى العُجمة منها إلى العربية طوال الدرس اليومي، ولكنها في كل الأحوال لقلقة، أنتجت متعلمين رائعين لا يعرف اللحن إلى ألسنتهم طريقا، على خلاف المعاصرين الذين تمتعوا بالتبسيط، ومع ذلك لا تكاد تفقه لهم قولا، ولاسيما حينما يخلطون بين البيش والزبر والزير فيستخدمونها في غير مواضعها فيضيع المعنى!.
ومن هنا أرى أن محبي التراث وعشاق القديم ملزمون بحفظ وتوثيق تلك الطريقة، لضمها إلى ما لدينا من تراث تعليمي، ولكي لا تنساها الأجيال، وتبقى عالقة في الذاكرة، ولا تضيع مع ما ضاع من مورثنا الجميل.
https://www.youtube.com/watch?v=4Fu-S9vJMZM
1497 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع