وليد السطم الراوي
هولاكو في مدينة عنه كتب تلتهمها نار الجهل
في يوم جمعة وفي نهاية ثمانينيات القرن الماضي شاء القدر ان أكون وقت صلاة الجمعة في مدينة عنه، ولما كان وصولي متأخراً بعض الشيء والمسجد الكبير في المجمع الحكومي مكتظاً بالمصلين صعدتُ للطابق العلوي حيث جلستُ هناك للاستماع لخطبة الجمعة، انبهرت مما رأيت ليس لزخرف المسجد الرائع الذي أتقن بمهارة وإنما لجلوسي قرب مكتبة عامرة بمئات العناوين من المجلدات والكتب الأخرى، ما شاء الله تبارك الرحمن فهذه المدينه لا تخرج عن رونقها الجميل وما عرفت به أنها في طليعة المدن بتخريج دفعات كبيرة من أطباء وعلماء ومثقفين وقادة، بعد إنتهاء الصلاة صرت أهيم بين عناوين تلك الكتب الرائعة ويجول خاطري فيما آنست تلك الشريحة من صفوة الأفذاذ لخدمة البشر والإنسانية .
وجاءت الملمات التي تتبعها العبرات لمِا جاء به خوارج العصر من تركات وزفرات، أكل قلوبهم الحقد على كل ما هو حضاري في هذه المدينة العريقة والمدن الأخرى، لقد شعر هؤلاء الاوباش بالفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين أهل المدينة الأصلاء، فلهذه المدينة باعٌ طويلٌ في تخريج نخب المجتمع العراقي والعربي لما توليه من الاهتمام في العلوم والدراسة والاخلاق، فقد رفدت هذه المدينة مئات العلماء والمثقفين والأكاديميين الأفاضل لينهل من عبقهم الزاهر طلاب العلم في أصقاع الأرض وينشروا عبير الثقافة والإبداع في كل أرجاء المعمورة، لقد أثرى هؤلاء الرجال من هذه المدينة صاحبة التاريخ الطويل والتي عمرها من عمر العراق وشاركوا في بناء الدولة العصرية الحديثة ودافعوا عنها بإخلاص وبسالة وعملوا جاهدين في عمارة الأرض وصلاح المجتمع، بعكس أجندات داعش وأزلامه المسيّرين من دول لا تريد الخير لأمتنا الإسلامية، فهم يحاولون أن يجعلوا أمتنا أمة لقيطة ليعيشوا فقط للتخريب والتدمير والإبادة، فشتان بين ما جاء به الاسلام وبين ما جاء به هؤلاء!
ظهر أبو رغال من بين فتات القوم وزفرات الواقع المؤلم وقاد المغول الجدد إلى عمل إجرامي بشع وهو تدمير وإحراق مكتبات المساجد بالإضافة إلى المكتبة العامة والتي تحوي على ما يقارب ال 9000 عنوان صمدت لعقود طويلة رغم تطور التكنولوجيا والحداثة فيما وصل اليه العلم، كانت تلك المكتبات تحوي عصارة فكر الكتاب والمؤلفين، جمعت فيها الكثير من كتب العلوم والفنون والآداب ومن علوم شرعية كتفسير القرآن والفقه والعقيدة ومن علوم حياتية أخرى كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والتاريخ والفلسفة وغير ذلك .
عندما سقطت قرطبة في يد نصارى الأندلس سنة 636 هجرية قبل سقوط بغداد على يد هولاكو بعشرين سنة، قاموا بحرق مكتبة قرطبه تماماً، وقام بذلك أحد قساوسة النصارى بنفسه وكان اسمه كمبيس، فحرق كل ما وقعت عليه يده من كتب بذلت فيها آلاف الاعمار وآلاف ساعات الكتابة وأنفق في سبيل كتابتها الكثير من المال والجهد والعرق، لكن هذه سنّتهم ومؤامراتهم لطمس هوية الإسلام الإنسانية والرحمة المهداة، حروبهم هي حروب على الحضارة وحرب على المدنية وحرب على الإسلام بل هي حرب على الإنسانية كلها .
من خلال هذا الواقع المرير وما جرت عليه الامور لابد أن أستذكر مكتبة جامع الراشدين قرب السوق الرابع، فقد تحدث إليّ صديق من حملة الشهادات العليا عنها، يتحدث وصوته متحشرج بقصة المتألم الحزين مما أصاب المدينة وأشعر في جنباته كهل الآلام وثقل الآهات وعمق الاوجاع، يقول أكثر ما آلمني بهذه المكتبة أن طلاب العلم كانوا بعد إنهاء بحوثهم يجمعون مصادرهم من الكتب والدوريات ويجعلونها وقفاً في هذا المسجد ليستفيد منها طلابٌ آخرون بدل أن تقبع في مكتبات البيوت وقد عمد إلى ذلك الكثير يطلبون الأجر والثواب فقط من الباري عز وجل وتكون حسبة لله، ولكن تفاجؤوا في آخر المطاف أن المغول الجدد قد أحرقوا قسماً من هذه الكتب والقسم الآخر رمي في بحيرة سد حديثة!
.
ماذا فعلوا بمكتبة عنه العامة:
لقد حمل الدواعش الكتب الثمينة، آلاف الكتب الثمينة وببساطة شديدة لا تخلو من حماقة وغباء ألقوا بها في بحيرة السد والقسم المتبقي أحرق أمام أنظار الناس، وقيل أيضا إنهم حملوا قسماً آخر إلى قضاء راوه ووايضا الى مدينة البوكمال السورية!
هذه الجريمة ليست بحق أهالي عنه فقط بل بحق العراق كله، بل إنها والله جريمة بحق الإنسانية، وكأن التاريخ يعيد نفسه بأشكال هولاكية متنوعة وبعناوين وشعارات شتى وكم تكررت هذه الجريمة في التاريخ!
.
لقد كان همُّ الغزاة وعلى مر العصور أن يحرموا هذه الأمة من اتصالها بأي نوع من أنواع العلوم إما بحرق الكتب او بإغراقها في الأنهار أو بسرقتها، كل ذلك لأن الأعداء يعرفون قيمة العلم في هذه المدن كما هو الحال في مدينة عنه. نعم أمتنا تمرض ولكن لا تموت والتاريخ قد سطر ما فعله الأوغاد عبر قرون مضت وبإذن الله سوف تنطوي هذه الصفحة وتعود مدننا عامرة زاهية بالعلم والعلماء وهذا هو جوهر ما حرص عليه آباؤنا وأجدادنا بغرس القيم والحفاظ على الثوابت الإسلامية الرصينة .
✽ ✽ ✽
وليد السطم الراوي
تركيا _ مرسين
780 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع