بقلم د. رحيم الغرباوي
فعل الكتابة ولحظات بنائها قراءة في أشعار مونيه لخذاري من مجموعتها الشعرية (غيوم الشوق لم تمطر ) .
الشعر هو ظمأ واقع وأنين قلب ووجع تجربة في أحيان كثيرة ، ذلك ما يجعل ولادة الشعر حتمية لدى الشاعر , كما أنَّ كلمات النص هي كثيرا ما تعبر عما هو مثال لدواخله ، أي تعبر عن أمانٍ مفقود يحاول الشاعر امتلاكه من خلال بوحه للنص ؛ لذا يجعله يكتب ؛ ليوائم بين ما هو مفقود وما هو مترع في المخيلة , فحينما ينتج الشاعر نصه يعيش لحظة الامتلاء والشغف بمتعة تكاد يتوازن فيها ما عاش في لحظة الكتابة أمام معاناة الفقد , فالنص وهو يولد يمثل اكتساب الشاعر بقدر ما فقد ، لذا نتلمس الشعر بوصفه لا كما العلم ، فالعلم عند العلماء لا فاصل بينه وبين الأشياء ، وهو ما أكده العالم الفيزيائي ارنست ماخ بقوله : " ليس هناك من فاصل بين القضايا النفسية والقضايا المادية ؛ لأنه ليس هناك شيء اسمه داخلي , وآخر اسمه خارجي كل الأشياء من صنف واحد واللحظة التي نراقب فيها هذه الأشياء هي التي تحدد كونها خارجية أو داخلية " (1) , وباستطاعتنا نقول : أن الشعر والعلم عالمان لهما منهجان متباينان ويعبران بلغتين مختلفتين وبرؤيتين مختلفتين , وإنْ كان كلاهما علمين يبحثان عن الحقيقة ؛ وذلك بقدر نفاذهم في المجهول (2) .
ويبدو أنَّ الشاعرة الجزائرية مونيه لخذاري واحدة من الشاعرات اللاتي حملت إزميلها ؛ لتعبِّر عن معاناتها تجاه قضاياها , فنراها تملأ فراغاتها وتحاول أن تسقط اتراحها عن كاهلها وتزيح همومها وقلقها بنص نثري تجعله في ما اصطلح عليه النقاد معادلاً موضوعياً لتلك الهموم الداخلية بما هو ضدها أو حتى الطموحات غير المتحققة لها ، وهي تعيش متعة إنتاج النص ، فقد نجح خيالها في تحقيق رغباتها بدلاً من تعثرها أو انكسارها أمام طموحاتها , ففي قصيدتها ( أحتاج لأشتاقك ) نستشعرها تحاول أن تتلون داخل النص ؛ لتجد موئلاً للسعادة من خلال بنائها الفني بلذة الرصف والتصوير , فضلا عن ذلك استذكارها للحبيب بدلا من أسى الفقدان وهكذا أغلب الشعراء يعيشون متعة الكتابة التي يمنحها لهم فيض الألم ! فالشاعر لايشتكي بقدر ما يعوض عما يعتمله من تباريح الجوى ؛ فيعيش لحظات جميلة تطرب لها النفوس ويهتز لها الوجدان , فنجدها تقول :
كيف شوقك يتسلق قلبي
والوجع غابات متلاحمة ؟
أحتاج أن أتنفس بعيداً
عن فروعك
أن أعرف لذة جذور غربتي
أحتاج أحدنا أن يكون سماءً والآخر أرضاً
في المسافات
أشتاقك وأركض إليك
أنْ أعرف أنوثتي
وملامح تخصني
مواطن أعرف حدودها
متى تبدأ ومتى تنتهي ص18
فهي تنفي شوقها للحبيب ؛ لما تستشعره من آلآم وأحزان ، فتشبِّه فرط وجعها بالغابات المتلاحمة والحبيب بفروع تلك الأوجاع ، إذ تومئ إلى الأوجاع التي دهمتها هي من فعل الحبيب الذي صار جرمه غابات ممتدة ، ملأت قلبها المنهك الحزين , لكنها مع ذلك ترسم لنا بصورٍ مركبة الابتعاد هنيهات عنه , فهي التائهة المعذبة بحاجة إلى أن تكون بعيدة عن تلك الهموم والأتراح ، فتقول : ( أحتاج أن أتنفس بعيداً عن فروعك ، أن أعرف لذة جذور غربتي , أنْ أعرف أنوثتي ، وملامح تخصني ... ) كل ذلك يمثل جذوة اشتعال ومحطات استراحة ؛ لتتفحص ما ينتابها من لذة وطعم خاص أمام هجران الحبيب ، فالتنفس بعيداً ومعرفة جذور لذتها وأنوثتها والملامح الجميلة التي تخصها ، فهي الباحثة عن مواطن تسكنها وتتربع عرشها بعدما عاشت الحيرة التي ما انفكت تتراكم عليها حسرات ؛ لذلك نجد مناداتها تمثل اسقاطات لأحزانها ؛ من أجل التخلص من تباريح أساها الذي تنثُّه تلك الكلمات .
ثم تقول :
أنْ أعدَّ بدون تلعثم
وأقرأ بدون تأتأة
أحتاج أنْ أناديك باسمك
لنبرة مناداتي
أن أقطع من الوريد ظلاماً
حول بصيرتي
غضب ينخر ولادتي منك
أحتاج أنْ أشتاقك
أناديك باسمك
أن يكون أحدنا سماءً ، والآخر أرضاً ؛
لأتذكر من أنت ,
وأركض كالأطفال إليك . ص19
فهي التي تحتاج إلى أن تناديه باسمه لا لشيء سوى مراجعتها ؛ لتتقصِّى نبرتها : هل ما تزال راجفة ؟ وهل أنها لاتتلعثم ولا تتأتأ حينما لم تكن في حضرته ؟ كأنَّ في ذلك ردود فعل لها , كما أنها بحاجة إلى أن تكون أرضاً والحبيب لها سماء ؛ ليمنحها حباً ودفئاً وحنانا ، ولعل أمانيها هي أحلام تعيشها في مخيلتها حين كتابة النص .
ولفرط ما انتابها من فراق فهي تعيش اغتراباً نفسيا وثقلاً مادياً جعلها لاتتذكر مَن هو ؟ وبالوقت ذاته تتمنى الجري إليه كالأطفال كناية عن شدة تعلقها به . كما أنَّ إحساس الطفولة يمثل النقاء والبراءة ، والإنسان دائما يتوق لتلك العوالم الأخاذة .
وفي قصيدتها تماثيل نائمة تتحدث فيها أيضاً عن ألم جارف أحاطها , فهي تقول :
لم يبق منك سوى ظلٍّ
نام تحت سقف النسيان
وجدران مقبرة مهجورة
قبورها تماثيل نائمة فوق الجثث
تنبت الروح فيها
تفتح عينيها خلسةً ولاتقوم
تتنفس في الظلام
تختبئ خلف الذكرى
وتفتِّش عن يقين الماضي
توزِّع الصمت والاطمئنان
وتقطف ثرثرةً عالقة
طوابع مخبَّأة تتنكر الهجران . ص29
وهنا تزيد من حسراتها حسرات وهي تتأرجح في استعاراتها ( سقف النسيان , تماثيل نائمة ، تنبت الروح فيها , توزع الصمت , تقطف ثرثرة ) ؛ لتلون جسد قصيدتها بصور طريفة , وأنَّ أغلب سطور النص ينبض بالضياع والنسيان والاضطراب الروحي الذي لايمكن دحضه طالما الغائب ليس له من عودة يحيي رميم الساكنين في قبور مهجورة ، لكنها على الرغم من ذلك ( تختبئ خلف الذكرى، تفتش عن يقين الماضي ، كما أنها توزع الصمت والاطمئنان ، وعندها طوابع مخبَّأة تتنكر الهجران ) ؛ ما يجعلها تعيش لحظات الدعة والطمأنينة والهدوء لما تستشعره في لحظات الصدِّ عما يعتملها ؛ لتعيش بما يغيثها من استذكار نوبات الماضي الجميل ، وهي تبوح بمعاناتها .
ومن هذا يمكن القول أنَّ الشاعرة مونية لخذاري قد حققت كما الشاعرات من خلال نصها متعة الموازنة بين ما تفتقده وما تعيشه من متعة روحية أثناء الكتابة ؛ لتعلن انتصارها على واقعها المأزوم , وكلا المتعة والتأزم يمثلان شعورين خارج النص ، لكن فعل الكتابة هو من أضاء ما في داخله من أسىً ولوعة ( تأزُّم ) بينما لحظة الكتابة هي من منحتْ شاعرتنا متعة التغلب على الشعور بالأسى واللوعة .
(1) الوعي الجمالي , د. هيلا شهيد : 111
(2) دراسات في الشعر والفلسفة ، د. سلام الأوسي : 90
767 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع