غانم العـنّـاز
الغاز الطبيعي وبعض المعتقدات
لقد عرفت تسربات الغاز المعروف بالغاز الطبيعي من باطن الارض والذي يتكون بصورة رئيسية من غاز الميثان منذ آلاف السنين في بلاد كثيرة من العالم. فقد شكلت تلك التسربات لغزا غامضا للانسان عبر العصور خصوصا عندما تشتعل عن طريق البرق اوغيره لتصبح لهيبا غريبا مستمرا يخرج من باطن الارض.
لقد اصبحت مثل تلك الظواهر بالنسبة للحضارت القديمة شيئا يغلفه الغموض وفي بعض الاحيان الخوف والرهبة لتصبح مع مرور الزمن عرضة للتكهنات واساسا لكثير من الخرافات اضافة الى اضفاء القدسية عليها لتشكل جزءا من بعض المعتقدات الدينية.
ما هو الغاز الطبيعي
يتالف الجزء الاعظم من الغاز الطبيعي من غاز الميثان ( 75% _ 90% )
( CH4 )
مع بعض الغازات الاخرى كغاز الايثان والبروبان البيوتان ( 1% - 20% )مع كميات قليلة من غازات ثاني اوكسيد الكاربون والنتروجين وكبريتيد الهيدروجين وغيرها. والغاز الطبيعي يعرف كذلك بغاز المستنقعات وهو اخف من الهواء وعديم اللون والرائحة وغير سام.
معبد اودلفي في اليونان
فقد اكتشف احد الرعاة في اليونان في حوالي 1000 قبل الميلاد (نافورة من النار) خارجة من الارض لتضفى عليها القدسية مع مرور الزمن ويبنى فوقها معبد ادولفي الشهير الذي سكنته احدى العرافات التي اخذت تقوم بالتنبؤ بما سيحدث في المستقبل مستمدة علمها بذلك من تلك النار.
"استشارة الأوراكل" لوحة لجون وليام ووترهاوس والتي تبين ثمانية عرافات في معبد التنبؤ
الديانة الزردشتية
ومع مرور الزمن اصبحت مثل هذه النيران في الهند وبلاد فارس من مبادئ الديانة الزردشتية التي يطلق عليها في بعض الاحيان عبادة النار والتي تعتبر النار كضياء ممثلا للخير والظلام ممثلا للشر. لقد كانت هذه الديانة منتشرة بصورة واسعة في تلك المناطق لفترة تقارب الالف سنة اي من 700 قبل الميلاد الى 700 بعد الميلاد حين قضى عليها انتشار الدين الاسلامي ومع ذلك لازالت هناك اقليات تؤمن بتلك الديانة حتى يومنا هذا.
وبالرغم من القضاء على تلك الديانة الا ان اثارها لازالت ماثلة للعيان حيت يقوم بعض الناس من المسلمين وغيرهم في ايامنا هذه باشعال النار فوق سطوح منازلهم او في الطرقات احتفاءأ برأس السنة الزردشتية اي بعيد النوروز في 21 آذار من كل عام خصوصا في بعض المناطق من ايران والهند وشمال العراق
النار الأزلية في بابا كركر – كركوك
تقع النار الازلية بالقرب من مجمع تركيز النفط والبئر الاولى التي اكتشفت النفط في حقل كركوك لذا فهي ناتجة عن التسربات الغازية عبر التشققات في صخور هذا الحقل. واني لأذكر جيدا احدى الحوادث المتعلقة بالنار الازلية خلال الحرب العراقية الايرانية وذلك عندما كنت رئيسا لحماية المنشآت النفطية ومنسقا بين الجيش والقوة الجوية والشرطة وفرقة الاطفاء لذلك. فقد طلب ممثل القوة الجوية اطفاء النار الازلية قائلا بان الطيارين الايرانيين قد يستعينون بها للاستدلال على موقع مجمع تركيز النفط القريب منها والمنشآت النفطية الاخرى منها لقصفها.
النار الازلية في منطقة بابا كركر - كركوك
وعبثا حاولت ان اقنعه بان تحديد الاهداف عن طريق المشاهدة العينية بعيد الاحتمال في ايامنا هذه لتقدم العلوم في مجال الطيران الى ان اصبح الموضوع شبه مستعصيا على الحل مع اصرار ممثل القوة الجوية على اطفائها تماما بالرغم من قيامي وقيام رئيس فرقة الاطفاء والسلامة بعدم الموافقة على ذلك موضحين ان اطفاء النار سوف ينتج عنه تسرب الغازات التي تحتوي على غاز كبريتيد الهادروجين السام الى المنطقة المحيطة بها والتي قد تؤدي الى تسمم او موت بعض المتواجدين في المنطقة من العاملين او الرعاة وغيرهم.
كما انه قد تتجمع كميات من الغازات الثقيلة منه عند ركود الرياح لتحدث انفجارا كبير في حالة تعرضها لاي مصدر من مصادر النار. استمر الجدل حول الموضوع الى ان وافق ممثل القوة الجوية اخير على تغطية النار والتمويه حولها قدر الامكان.
ومن الجدير بالذكر ان البعض من نساء مدينة كركوك والمناطق المحيطة بها كن يزرن النار الازلية منذ زمن بعيد وحتى اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين للتوسل بها لانجاب البنين.
نبوخذ نصر والسبي اليهودي
كما يعتقد البعض بان هذه النار الازلية هي (الفرن الناري) المذكور في كتاب دانيال من الكتاب المقدس القديم الذي استعمله ملك بابل نبوخذ نصر (630 – 562 قبل الميلاد) لرمي وحرق بعض سبايا اليهود الذين اسرهم بعد ان فتح مدينتهم اوشليم ودمر هيكلها في عام 586 قبل الميلاد وذلك في طريق عودته من هناك الى بابل لرفضهم اعتناق ديانته.
أول استعمال صناعي للغاز الطبيعي
هذا ويعتقد بان الصينيون هم اول من استغل الغاز الطبيعي في القرن الثالث قبل الميلاد للاغراض الصناعية. حيث انهم قاموا بنقل الغاز المتسرب من الارض في بعض المناطق القريبة من البحر الى الشواطئ بواسطة خطوط انابيب بسيطة من الخيزران ليتم حرقه لتبخير مياه البحر للحصول على الملح تلك المادة الثمينة في ذلك الزمان.
استعمالات الغاز الطبيعي في الوقت الحاضر
غير ان استعمال الغاز الطبيعي للتدفئة والطبخ وغير ذلك لم ينتشر الا بعد ان تم اكتشاف مشعل او موقد بنزن الشهير من قبل الكيمياوي البريطاني روبرت بنزن في عام 1885 الذي استطاع الحصول على اللهب الازرق الناتج عن حرق غاز الفحم الحجري بصورة سليمة ليباشر باستعمال الغاز الطبيعي بصرورة واسعة حتى يومنا هذا.
يستعمل الغاز الطبيعي في الوقت الحاضر في الكثير من بلدان العالم عبر شبكة من خطوط الانابيب لتزويد المدن لاستخدامه في المنازل للطهي والتدفئة. كما انه يستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية وفي بعض الصناعات الثقيلة كانتاج المعادن المختلفة. كما يستعمل في بعض البلدان في تشغيل السيارات والحفلات عوضا عن البنزين كما هو في الحال في تركيا وغيرها.
كما يستعمل الغاز الطبيعي بصورة كبيرة في الصناعات الكيمياوية وفي انتاج الاسمدة وصناعة الادوية والاواني البلاستيكية والانابيب والاقمشة وفي صناعة البناء لانتاج الابواب الشابيك والسقوف وغيرها من الاستعمالات الكثيرة التي يصعب حصرها.
نقل الغاز الطبيعي
لقد جرت اول محاولة لنقل الغاز بصورة تجارية في عام 1891 عندما تم مد خط انابيب بطول 192 كلم لنقل الغاز الطبيعي الى مدينة شيكاغو في الولايات المتحة الامريكية. غير ان ذلك الخط المكون من ربط قطع الانابيب الحديدية ببعضها كان بيب الحين والآخر معرضا لتسرب الغاز منه. لذلك لم يتم انتشار نقل الغاز بخطوط الانابيب واسعة الاقطار وبصورة تجارية ناجحة الا في العقد الثالث من القرن العشرين بعد ان تم ربط الانابيب ببعضها بنجاح بطريقة اللحام مما فتح المجال امام نقله من حقول النفط والغاز النائية الى مراكز استهلاكه في البلدان الصناعية عبر القارات والبحار كخط انبوب الغاز الروسي الذي يزود العديد من البلدان الاوربية بحاجتها منه وخط نابيب الغاز الطبيعي الجزائري الذي يصدره الى اوربا وخط انابيب الغاز الطبيعي الذي ينقل غاز كركوك الى مجمع المنتجات النفطية في التاجي في بغداد وغيرها من الخطوط.
ومع مرور الزمن لم يقتصر نقل الغاز الطبيعي في خطوط الانابيب فقط بل اصبح بالامكان نقله كسائل عبر البحار والمحيطات بواسطة ناقلات الغاز الخاصة بذلك حيث ان تلك الناقلات مجهزة بمعدات التبريد اللازمة لادامة الغاز في حالته السائلة بتبريده عند 164 درجة مئوية تحت الصفر.
اما اهم مصادر الغاز الطبيعي في العالم فهي :
- حقول الغاز الطبيعي التي تحتوي على الغاز بنسب عالية جدا مع القليل جدا من بعض السوائل الهروكابونية الخفيفة كحقول المنصورية وعكاز وجمجمال وغيرها في العراق وحقول قطر وروسيا العملاقة.
- حقول النفط الخفيف التي تحتوي على نسبة لا بأس بها من النفط وكميات كبيرة من الغاز كحقل جمبوروخور مور في العراق.
- حقول النفط الاعتيادية التي تحتوي علي قليل من الغاز الحر فوق النفط ونسب متفاوتة من الغاز المذاب في النفط في مكامنه والذي يتحرر عند انتاج النفط والذي يطلق عليه اسم الغاز المصاحب الذي يحتوي على نسب مختلفة من الغاز الطبيعي الذي يمكن فصله في معامل معالجة الغازات المصاحبة كحقول كركوك والرميلة والزبير في العراق وغيرها من الحقول العالمية.
إحتياطي الغاز الطبيعي في حقول الغاز العراقية
لقد اعلنت وزارة النفط في ايلول 2018 في تصريح لها بان احتياطي الغاز العراقي من حقوله الغازية يصل الى 132 تريليون قدم مكعب قياسي.
وقد كانت وزارة النفط قد قامت ضمن خطتها لمنح التراخيص باجراء مناقصة علنية لعقد خدمة لتطوير حقل المنصورية الغازي الواقع في محافظة ديالى ليتم على اثرها توقيع العقد الخاص بذلك في سنة 2010 مع مجموعة شركات تباو التركية وكويت إنيرجي وكوجاس الكورية الجنوبية بطاقة انتاجية تقدر بحوالي 320 مليون قدم مكعب باليوم.
كما ان وزارة النفط قد قامت بعد ذلك ضمن خطتها لمنح التراخيص باجراء مناقصة علنية لعقد خدمة لحقل عكاز الغازي الواقع في محافظة الانبار ليتم على اثر ذلك توقيع العقد اللازم في تشرين الاول 2011 مع شركة الغاز الكورية لتطويرالحقل بطاقة انتاجية تقدر بحوالي 400 مليون قدم مكعب من الغاز باليوم.
بيد ان الاوضاع الامنية الصعبة التي مرت بها محافظتي ديالى والانبار قد ادت الى توقف عملية الاستثمار والتطوير في هذين الحقلين.
هذا وقد صرح وكيل الوزارة لشؤون الغاز حامد يونس صالح في ايلول 2018 كذلك بان استتباب الاوضاع الامنية مؤخرا، قد حدا بالوزارة الى اعداد خطة مع الشركات التي اختيرت سابقا لاستثمار الحقلين من اجل القيام بعمليات تطويرهما خلال المدة القليلة المقبلة.
لا زالت عمليات حرق الغازات المصاحبة مستمرة
لقد تم انتقاد خطة وزارة النفط لتطوير حقلي المنصورية وعكاز في حينها من قبلنا ومن قبل العديد من خبراء النفط العراقيين لانتاج 720 مليون قدم مكعب باليوم في الوقت الذي يتم فيه حرق مئات الملايين من الاقدام المكعبة يوميا من الغازات المصاحبة الغنية من حقول النفط العراقية لتهدر تلك الثروة الثمينة بدلا من الاستفادة منها.
وهنا لا بد ان نسأل وزارة النفط اليس من الاجدر التركيز على انشاء مصانع لمعالجة الغازات المصاحبة الغنية بالمكثفات النفطية كالغاز السائل وغيره لتوفير احتياجات المواطن الملحة والتي يتم حرقها الآن عوضا عن تطوير حقلي المنصورية وعكاز اللذان يحتاجان الى مبالغ طائلة وسنوات عديدة لحفر عشرات الآبار اضافة الى انشاء مصانع معالجة تلك الغازات ؟؟
غانم العـنّـاز
واتفورد - ضواحي لندن
المصدر - كتابى العراق وصناعة النفط والغاز في القرن العشرين الصادر باللغة الانكليزية عن دار نشر جامعة نوتنكهام البريطانية في ايار 2012.
755 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع