أ . د . حسين حامد حسين
التكنوقراط والتكنوقراطية... مقارنة سريعة لما سيتم فرضه على العراق من مغالطات ...!!
ببساطة يعرف "قاموس مريام - ويبستر " مصطلح التكنوقراط والتكنوقراطية ،على انه :
"إدارة المجتمع من قبل خبراء فنيين".
في عام 1919 ابتكر "دبليو اتش سميث" مصطلح تكنوقراطية ونمت التكنوقراطية خلال فترة الكساد الكبير في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين ، عندما تم إلقاء اللوم على السياسيين والمؤسسات المالية بسبب الكارثة الاقتصادية ، وادعى محبو التقنية أن السماح للخبراء الفنيين بإدارة البلاد من شأنه ان يقدم تحسنا كبيرا. ولا يزال التكنوقراط والتكنوقراطيون الخبراء اليوم يتداولون مصطلح شائع ممن يتبعون نهجًا علميًا وعقلانيًا كبيرًا لقضايا السياسة العامة. لكن هؤلاء الخبراء ليسوا دائماً من أفضل السياسيين، وعندما تعترض مجموعة أو فرق صناعة قوية على حل تكنولوجي رائع للمشكلة القائمة، يجد المشرعون أنه من الأسهل "تجاهلها"...
ابتداءا ، اني لم ولن ابادر الى ترشيح نفسي من اجل منصب ما ، مهما كان نوعه وطبيعته التي تم الاعلان عنها من اجل تشكيل الحكومة الجديدة والتي سعى اليها الألاف من العراقيين، ففي تلك الدعوة مؤشرات كثيرة جدا لا تصلح لموضوع التكنوقراطية العراقية، فهناك خلل في الفهم من قبل الجميع . لكننا وعلى كل حال ،نهنؤهم مقدما ، بسبب ان حياتهم الجديدة في العراق ستكون مؤشرا لنوع من "فرج" لهم وللعراقيين برحمة الله العزيز الحكيم ، وفرصة كبرى من اجل الهروب من بيئة شديدة الصرامة والجدية من الناحية العلمية وما يكتنف التكنوقراطي من حذر شديد يلف حياته هناك في حياة "الغرب" وكما سأتحدث عن ذلك بحقيقة عشتها على المستوى الشخصي هناك قبل ان اتقاعد .
الحقائق التي سأتحدث عنها هنا ، هي ان حقيقة وحياة التكنوقراط والتكنوقراطية بالذات والقائمة في الولايات المتحدة ومعظم دول اوربا، سوف لن تحيا وتزدهر في بلد كالعراق أبدا . هؤلاء القادمون لانقاذ العراق سوف تتحول "هممهم العالية وحماسهم " بعد فترة وجيزة من الزمن الى مجرد اعمال ووظائف ومسؤوليات روتينية . فمن بين المشاكل الكبرى المتوقعة هو ان لا حكومة جديدة ولا قديمة ستستطيع القضاء على "الفساد المادي والاداري" في العراق بسبب ان الفساد هذا متورط فيه كبار الشخصيات في حزب الدعوة والمجلس الاعلى والحزب الاسلامي السني وكتل سنية اخرى ، وسوف لن تكون هناك فرصا حقيقية امام التغير الجذري المؤمل من قبل هؤلاء القادمون بهمة عالية من اجل اصلاح المجتمع العراقي المنخور. فهؤلاء اخوتنا سوف تكون امامهم فرصا لتبؤ وزارات ومناصب عليا وتحت واجهات جديدة قد لا يجرأ فيها من لديهم نوايا فاسدة من ممارسة فسادهم (على نفس الطريقة ) العراقية السابقة . كما وسوف لن يكون هناك اي تغيير في الروتين اليومي لمؤسسات الدولة ، وخصوصا ما يتعلق بالحد من ظواهر معالجة شعائر هذه البدع الضالة والتي لا تزال تسيئ الى ديننا الحنيف وأبناء بيت رسول الله الكريم وبطولاتهم وتضحياتهم من اجل نصرة الحق . كما وسوف لن تكون هناك قدرة لأي من هؤلاء التكنوقراط للحد او الغاء أيا من العطل الرسمية التي تربوا على مائة يوم من السنة. وستكون الحكومة "التكنوقراطية"من أبعد ما يمكن ان تكون عليه من تلك الحكومات التي عاشوها في الولايات المتحدة او في اوربا ، في صرامتها ودقتها وانظمتها الحياتية الاعتيادية هناك.
باعتقادي المتواضع ان ما سوف تكون عليه الحال حينئذ ، مجرد "ترقيعات" للاوضاع الجديدة في العراق مع اعلام منظم يذكرنا باعلام المقبور صدام المضاد عند هزائمه الكثيرة . فمن خلال تجربتي وخبرتي الطويلة كاستاذ جامعي وكإداري ، أن اخوتنا الكرام الذين سيشرفون عراقنا ، سوف يضطرون الى اللوذ بمغالطات محرجة للنفس والتي قد تستطيع بشكل او بأخر، ان تهين مشاعر النبل في الذات.
فهؤلاء اخوتنا الكرام ، وعلى الرغم من ان بعضهم ربما كان يتلقى رواتبا مغرية ولهم مواقع مهمة في الجامعات اوالمؤسسات العلمية والمعاهد وغيرها، لكن ما كان يعانيه هؤلاء من صرامة ودقة العمل ، فانها لا تقارن ابدا بما سيواجهونه من عدم توفر أي ضوابط حقيقية في العراق مقارنة لما في الغرب وطريقة التعامل مع الموظف سواءا اكان عالما اواستاذا جامعيا او حتى أبسط انسانا في المدينة ، فالجميع يخضع لمسؤوليات دقيقة تحت سلطة القانون ولا يستثنى منها احد ، ولكن ذلك الحال لايمكن ان نجده في بلد مثل العراق. فهناك في الغرب ، نجد ان الجميع مهدد بالفصل والطرد من الوظيفة بجرة قلم بسيطة، مهما كان موقعه وبغض النظر انه كان مواطنا لتلك الدولة او لا ، فهو يخضع لنفس الظروف والالتزامات وبدون استثناء ، لكن الحال في العراق مختلف تماما ، وسوف لن يلزم من يخطأ في العراق ان يتلقى مثل تلك النتائج ، وهذا من بين الاشياء التي لا استطيع ان اتوقع ان الحكومة التكنوقراطية سوف تقلب تلك الاوضاع رأسا على عقب من خلال المساوات والعدالة الاجتماعية.
فجميع الموظفين والعاملين في الولايات المتحدة وعلى اختلاف اعمالهم ، يحتم عليهم الدوام اليومي لثمان ساعات يوميا تتخللها فترة استراحة 30- 45 دقيقة فقط . كما وان بعض الوظائف في الصيدليات ، فممنوع عليهم الجلوس اثناء ساعات العمل الثمانية. كما وأن الاستاذ الجامعي يخضع لالتزامت صعبة جدا من بينها قيام طلبته بتقييم عمله وادائه العلمي ، ومن لا يرضى عنه طلبته فسيتم الاستغناء عنه. والاستاذ الجامعي الذي ينبغي عليه الحصول على "منحة" من المنشئات والمؤسسات لدعم مشروعه العلمي ، فعليه الالتزام بضوابط كثيرة . كما ويحتم عليه ارساله تقارير دورية تخص المشروع بالمواعيد المحددة وبدون تأخير. واذا ما تأخر عن ذلك الموعد فسيتم رفض المشروع وتقوم الجامعة بتأخير ترقيته العلمية.
وفي ما يلي بعضا من الامثلة على الدقة الوظيفية المطلوب توفرها هناك ، فمن بينها مثلا:
- أن يكون الاستاذ الجامعي او الموظف ذو خبرة واسعة واهداف محددة تخدم المؤسسة التي يعمل بها بشكل عملي .
- يجب توفرالدقة المتناهية من خلال " التفتيش الدوري" للمختبرات والاجهزة العلمية ومعرفة التاريخ المحددة للانجاز من اجل ارسال المشروع " بالتاريخ واليوم والساعة" .
- - الحزم فورا في طرد الموظف او العامل او اي شخص يخل بالتزاماته الوظيفة تلك .
- - يتم التفتيش في الدائرة الواحدة من قبل الموظفين انفسهم على انجازات بعضهم البعض، وكتابة التقارير عن تلكؤ بعضهم البعض.
فالذين سيتم قبولهم من هؤلاء التكنوقراط في الحكومة الجديدة ونحن نتمنى لهم الموفقية والنجاح ، ستكون لهم حظوظ كبيرة في حياة مختلفة وجديدة في العراق من ناحية السكن والحراسات ومن خدم وحشم وخالية من تلك الضغوط النفسية والوظيفية التي كانوا يعانون منها هناك. وسيتذكر هؤلاء دائما ان رجلا اسمه الدكتور عادل عبد المهدي قد قدم لهم هذه الخدمة الكبرى من اجل انقاذ ماء وجهه هو على الرغم من جميع الظروف التي يعانيها العراق . فالدكتور عبد المهدي انما يقوم بمغامرة كبيرة من اجل سمعته ، حيث ربما قد تم زجه في متاهة سيدفع ثمنها باهضا.
حكومة التكنوقراط هذه ستواجه موظفون في الحكومة العراقية ساعات دوامهم اليومي الرسمي حوالي اربع ساعات أو ربما أقل . كما وسيتمتع هؤلاء الموظفون رغما من حكومة التكنوقراط وبدون استثناء، بعطل رسمية لاكثر من مائة يوم في السنة الواحدة ، سواءا رضوا ام أبوا. والادهى من ذلك ، اننا من خلال معرفتنا لما يدور في العراق ، فان هؤلاء التكنوقراط سيصطدمون بموظفين عراقيين يعتقدون ان لهم "أفضالا" على العراقيين بسبب انتمائاتهم لكتل واحزاب سياسية اسلامية وغير اسلامية (تعتقد) أن نضالهم السياسي هو من اطاح بالبعث وليس القوات الامريكية !! وان هذه الاحزاب تواصل العمل على حماية جماهيرهم من كل اساءات الاخرين. وان العراقي الذي يراجع موظف من هؤلاء او من غيرهم من اجل انجاز معاملته ، فعليه أن "يمنحه شيئا" من اجل "اتعابه" " وهم يعلمون انه عمل "حرام" لكنهم يصرون عليه ، مع انهم يتقاضون راتبا شهريا . وأن هؤلاء الموظفون مفروضون فرضا على الحكومة ،
كذلك فالعراقيون يعلمون عما يجري في العراق من مصائب ، وان هناك اساتذة جامعيون و محامون واطباء وصيادلة ومهندسون ومظفون كبار، هؤلاء جميعا قد أغرقهم الكسل والغرور والفساد ، وجعلهم مهيؤون لممارسات سلبية أنستهم شرف مهنتهم واخلاقهم لانها جزء من الحياة العراقية نفسها .
في العراق هناك أيضا سوء فهم كبير وسائد يتعلق بنوع من "الغوغائية" وعدم الدقة العلمية والاستناد الصحيح على نقل الحقائق العلمية ، بل أن السائد هنا ، هو محاولات من اجل توطين "دعايات" وفرضها بالقوة على المجتمع العراقي كتلبية لضغوط كبرى من قبل رغبات قوى خارجية . ولكن في نفس الوقت، هناك من الخيرين العراقيين من له مسعا شريفا يحاول جعله منهجا رياديا لبرامج جديدة تتبناها الدولة من اجل حياة جديدة لاصلاح جبال الفساد المادي والاجتماعي والاخلاقي الذي يسود علاقات تقاسم المحاصصات وسوء السلوك والاخلاق.
نتمنى باخلاص النجاح لاخوتنا هؤلاء التكنوقراط في مهمتهم الصارمة والمعقدة، حيث سيواجهون اوضاعا في المجتمع العراقي ومشاكلا أكبر من ان يتوقعونها . كما ونتمنى مخلصين ان نجد شعبنا العراقي وقد عاد اليه رشده واخلاقه السامية ليحتل موقعه بين امم العالم الشامخة.
حماك الله يا عراقنا السامق...
١٣ - ١٠ - ٢٠١٨
1361 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع