أ . د . حسين حامد حسين
رقص في حضرة الحزن...
كان اسمها "ندى" ، امرأة بعينين شهلاوين اكثر سحرا حتى من اشراقات صباحات في مروج قصية طافحة بالازدهار. ورموش كثيفة كبستان ، تهطل بدلال فوق وجنتين من بلور. وشفاه وردية مكتنزة كحبة كرم تتربع تحت انف صغير منحوت برقة وصبر. وكان شعرها الكستنائي المتهور يتبعثر بدلال كشلال صغير من ذهب فوق كتفين رقيقين ، كسحابة ربيعية في طريقها الى حقول سعيدة.
كانت ندى رقيقة كباقة من زهور ربيعية ، لم يعرف جسدها الشهي أيا من التمارين الرياضية ، لكنه كان جسدا غضا يصلح كأجمل عنوان لإعلان الموديل . وكان صدرها المكتنز قابعا بأمان كقلعتين مسحورتين تخفيان اسرارا فذة عن الصبا والانوثة. كان اسمها ندى .. وكانت في ذلك الحي الشعبي الفقير من المدينة تمر كالعطر صباح كل يوم خلال ذلك الشارع الضيق واهبة كل شيئ "تفاؤلا" واشراقا "كمتصوف" ، تعبر الى زاوية الشارع لتقف مع الاخريات من بنات المحلة بانتظار "الباص" لنقلهم الى مصنع النسيج في الطرف البعيد من المدينة حيث يعملن .
كانت ندى إمراة حقيقية ، كل شيئ فيها حقيقي وطبيعي ذو نكهة فريدة ، تشمها عيون الرجال أولا فتمتلئ نشوة وانبهارا ، ويتدفق الدم حارا في عروق الرجال ، ويصرخ مجيد البقال الاعزب من دكانه:
"- يا ألله ...يا للخالق العظيم ..لقد فاتك العمر يا "مجيد" ولم تأخذ نصيبك من هذه الدنيا بعد!! ماذا تفعل باقيا في هذه الحياة وأنت المطوق بالغرام والملائكة ...مت كمدا يا "مجيد" ، او مت فدى من اجل الحلوين ... أه ... ياربي ،، انت الجميل وتحب الجمال"
فيطرق المحيا العذب .. وتتبعثر الخطى الخجلى ..ويتدفق الدم للوجنتين ليزيدهما حمرة ... وينفرج الفم الصغير المكتنز عن ابتسامة ...مشدوهة ...سعيدة .. مرتبكة ...ويضحك الجميع ..ويصيح احدهم :
"- مجنون أنت يا "مجيد" ...متى تكف عن مزاحك السمج هذا ؟؟؟
وكم عاتبته (ندى) على ذلك المزاح الثقيل ...وبنقائه المعهود يروح (مجيد) يدافع :
"- ندى .. أنت أغلى من عيوني ...أنا مثل ابوك ...لا تزعلي مني ...كنت احملك على صدري وعمرك سنتين ...لا تزعلى مني ، فجمالك يا (ندى) ...ما شاء الله عليك... شيئ لا تستحقه عيني ...جمالك يصفعني يا (ندى) ... فأذوب ...أموت ...وأتألم ... فلا تزعلي مني ...أرجوك"
وبدلال وغنج ..تضحك (ندى) كنسمة ...كطائر من جنس فريد مغرور.
كان أهل الحي يحبونها لتواضعها ودماثة خلقها وطيبتها ويعتبرونها ابنتهم جميعا. فلقد عانت امها (صفية) في تربيتها يعد موت أبيها ...ذلك الشرطي الطيب ، متأثرا بطلق ناري في حادثة عرس في القرية الصغيرة المجاورة ، حدث ذلك في الثمانينات الماضية . عاشتا على الراتب التقاعدي الضئيل الذي لم يكد يكفي لسد رمق جوع الطفلة والام . اضطرت (صفية) للعمل في بيوت الاخرين كخادمة ..وتحملت الهوان من اجل أن تكبر (ندى) . وندى هذه كانت منذ طفولتها بنت عاقلة وطيبة ، فكانت تهيم بها العيون ، وتتحسر على فتنتها كل الثريات العاقرات في المدينة. وكانت "صفية" توصي ابنتها باستمرار :
- "ندى...بنيتي ، كوني دائما نقية كذهب الليرة... كالبلور ...وتذكري أن شرفك كقطعة الزجاج، إذا انكسرت فلا يمكن اصلاحها أبدا ،"يا ندى".
وقالت احدى الثريات في المدينة لأم ندى يوما:-
-"صفية...أنت امراة فقيرة ومتعبة ..لماذا لا تعطيني "ندى" لكي اتبناها واقوم بتربيتها ...سأدللها ، وسأعمل من اجلها العجائب لكي تكون سعيدة.. وسأعطيك كل ما تطلبينه ...فلدي اموال الدنيا ، وسأمنحكما معا سعادة لا تتصورينها...فماذا تقولين ...يا صفية...؟؟؟
نظرت "صفية" الى ألمرأة البدينة الغارقة باطواق الذهب والمجوهرات ، وأجابتها بصوت حزين:
-" وهل منحنا الله اطفالنا لنبيعهم يا ام (غائب)...؟ وهل يباع الضنى؟؟ أطفالنا هبة الله لنا ..هي هبة الخالق لنا ،،، فهو الكريم الرحيم ."
أختنقت المرأة بالغيظ ...وردت بازدراء :
-"وهل تستحق طفلة جميلة مثل "ندى" أن تعيش في هذه الزريبة التي تعيشينها ، ما ذنب هذه الطفلة ... ؟"
"-ولكنها قسمة الله تعالى يا ام غائب ووعده. أنها امتحان الرب لصبرنا وايماننا به سبحانه. ثم ان ابنتي "ندى" هذه وكما ترينها سعيدة معي ...فأنا امها ..حيث لم يستطع فقرنا أن يشوه جمالها أو يزحزح أيماننا . فجمال "ندى" وفقرنا هما هبة الله ...كل شيئ من عنده "
لم ترد المرأة ، اختنقت مرة اخرى بالغيظ .
وبصعوبة رفعت جسدها الثقيل من فوق السجادة البالية ، وراحت عيناها تتجولان بازدراء في ارجاء الغرفة الوحيدة شبه المظلمة ..وأخيرا جاء ازدرائها من خلال نبرتها المهينة:
-"فكري جيدا بالموضوع يا"صفية" ..أنا اسدي لك معروفا لا تستحقينه أنت ، ولكن من اجل عيون "ندى" ...فزريبتك هذه مكانا ربما يلائمك ...ولكن ..."ندى" ... أوف يا ألهي ... الله يعطي "جوزا لمن لا أسنان له".
تدحرجت المرأة نحو الباب يلفها الحقد وتقرض قلبها الغيرة وهي تمتم بكلمات بذيئة.
وجاء صوت "صفية" الحزين :
-" كلامك صحيح يا ام غائب ... الله احيانا يعطي جوزا لمن لا اسنان له!!".
طارد صوت "صفية" الذبيح خطوات المرأة البدينة ، بينما راحت اطواق الذهب ترتطم مع بعضها بلا اكتراث.
وكبرت "ندى" واصبحت امرأة .. كل شيئ فيها شهي وجميل وثاقب، تمنح الناظر تفاؤلا واشراقا كمتصوفة. وانهك التعب والكدح حياة الام "صفية" ، وداهمها المرض ، واضطرت "ندى" الى ترك المدرسة والعمل في مصنع النسيج ذاك.
في يوم هاديئ جميل ، وقفت سيارة انيقة امام مخزن "مجيد" البقال. وترجل شاب أنيق يرتدي بدلة أنيقة ويخفي عينيه خلف نظارة سوداء.
تحدث الرجلان بنوع من جدية . ذهب الرجل ثم عاد مرة اخرى في اليوم التالي . وتكررت زيارات الشاب الغريب. بعد ذلك ، جاء "مجيد" الى "صفية" يطلب يد ابنتها "ندى" لهذا الرجل الغريب.
-" انه انسان يبدوا طيبا مؤدبا ...انه عربي من مصر، يشتغل بالتجارة ، وهو ثري. انها فرصة العمر من اجل زواج ابنتك الطيبة "ندى" "
-" رجل مصري...؟؟؟سألت "صفية" بحيرتها ودمعة تبرق في العينين الذاويتين ، وما لهم شبابنا العراقيين لكي تتزوج "ندى" من رجل مصري؟"
"صفية انت امرأة عاقلة وتؤمنين بقسمة الله تعالى ، فقد تكون هذه هي قسمة البنت ، ولا يهم ان يكون الرجل مصريا أو عراقيا ، المهم أن يكون ابن حلال ، وهو ثري ، ويمكن ان يكون وفيا لكما. توكلي على الله وسأعطيك اسبوعا لتفكري بالموضوع"
ذهب "مجيد، وتحت وطأت ظروف المرض والحياة القاسية ، انصاعت المرأة ، وراحت تقول لابنتها:
-" من لك بعدي في هذا العالم ، يا "ندى"؟؟ ستضيعين يا حبيبتي ...لقد تعبت من شقائي من اجلك يا بنيتي ...اريد لك الخير ..اريد أن أرى رجلا يحميك ويحبك ويكرمك ...اريد أن اراك سعيدة ، وتذكري أن "الشرف" كقعة الزجاج...يا ندى....".
تم زواج "ندى" من الرجل المصري ، وبعيون دامعة ، ودع الحي ابنتهم "ندى" ، وتلاشت ذكرها بعد موت امها "صفية" بعد فترة من الزواج.
مرت سنوات قليلة مسرعة ، وكانت الحرب العراقية – الايرانية تطحن العراقيين وتمزق الوطن اربا. وفي احدى ليالي البحث عن الخدر والنشوة والاثارات ، كان (مجيد) البقال يسهر مع صديق له في احدى ملاهي بغداد الليلية. وأعلن مقدم برنامج السهرة عن وصلة راقصة للفنانة "نرجس" ... صفق الحاضرون بحماس ، وخرجت الى المسرح إمرأة تتثنى نصف ثملة . تمعن "مجيد" البقال بالوجه الجميل الثمل والجسد الجميل شبه العاري المترنح امامه. وصفعته لحظات حادة من الحيرة والوجوم والغضب المكتوم. راح "مجيد" يمعن بشدة في وجه الراقصة، فهب واقفا على قدميه وجسده ينتفض انفعالا وغضبا ، وصاح كالمسعور:
-" ندى...ندى..أهذه انت يا "ندى"؟؟؟ ...لا ... لا أصدق .. لا يمكن ...مستحيل ...مستحيل ،،، لا يمكن لك يا "ندى" ، بنت "صفية" ...أن تصبحي راقصة في ملهى ليلي؟ ...ابنتنا الطيبة...ابنة الحي الشريف ...سأقتل هذا الرجل القواد زوجها... يجب ان أقتل النذل ألقواد المجرم ...سأقتله ".
توقفت الموسيقى ..وخيم على الحاضرين سكون وحيرة. ومن هناك سادت همهمات وهمسات ولغط . جفلت المرأة ووقفت مسمرة في مكانها ، وراح جسدها ينتفض ...
تدخلت الشرطة، وأمسكت "بمجيد" وراحت تجره الى الخارج وهو لا يزال يصرخ ..."زوجها القواد يجب ان يموت ،سأقتله بنفسي ...انه ذنبي أنا... انا المسؤول عما حصل ..."لندى" .. أنا زوجتها للقواد زوجها بدون علم مني ...سأقتله... يجب ان يموت"
ضحك الحاضرون ببلاهة لهذا الازعاج غير المتوقع ...لم تضحك الراقصة ...بقيت مسمرة مشدوهة في مكانها. ومن جديد ، صفق الحاضرون لها ، وانهالت عليها كلمات التشجيع والاستحسان والغزل. وحاولت المرأة ان تنتزع ابتسامة ، لكنها لم تستطع. استمر جسدها يرتجف. حاولت السيطرة على انفعالاتها ، لكنها لم تستطع أيضا.
علا التصفيق والهتاف من اجلها ، وصدحت الموسيقى ، لكن الراقصة لم تستطع الرقص...وفجأة اجهشت في البكاء...
وبصعوبة جرت قدميها مهرولة لتختفي وراء الستارة.
1989 /تموز
جامعة الموصل
1227 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع