مثنى عبيدة
الماء تلك النعمة الربانية التي لن تستقيم الحياة على وجه هذه البسيطة بدون وجوده وهطول المطر من أسباب نماء وازدهار الأرض وتفتح الزهور وانتشى الطيور وتطهيراً للنفوس وتدفقاً للخير بين الوديان وسط الصحراء القاحلة والجبال الشاهقة لتشكل شلالات منهمر ماءها من الأعلى نحو الأسفل ، فما أروعها من نعمة بها ينعمُ الأحياء بالحياة الكريمة .
في خريف 1990 وبينما أنا جالس بالبيت محبط من حرماني من فرصة السفر والعلاج الذي كنت أنتظره وعائلتي على أحر من الجمر نظر لصعوبة الوضع الصحي وما عانيته طوال أربع سنين ماضية ، وقتها كنت أقضي الوقت بمتابعة الأحداث وتطورات الوضع العام وخطورة ما تحمله تلك الأخبار على العراق والمنطقة بعد دخول الكويت .
الحقيقة كنت أشعر بالخجل والألم من ما أسمعه من عمليات نهب وتخريب تتعرض له الكويت وسرقة محتويات المخازن والبيوت من قبل أشخاص لم يتقوا الله وباعوا ضمائرهم للشيطان سواءً كانوا حكاماً أو محكومين ( والذين قطعاً لا يمثلون العراق والعراقيين الاصلاء ) واستغرب كيف يقبل المرء على نفسه أن يأخذ شيئاً لا يعود له ثم يفتخر بسرقته ويضعه في بيته كأنه قد جلبه بعرق جبينه ، وكانت الحافلات حاملة مجاميع النهب مستمرة وببخس الإثمان وأمست زيارة الكويت تسلية لمن أعد نفسه لهذه المهمة ) وقد رأينا أن وزارت الدولة قد شكلت فرق للاستفادة من موجودات مثيلاتها في الكويت ورأينا أجمل حافلة وأكثرها خدمة ومقاومة لظروفنا وأعدادنا إنها حافلات التاتا الهندية التي كانت للخدم والعمال هناك فأصبحت أفضل أسطول عرفه النقل البري العراقي خلال عقد التسعينيات وما بعده ....
كانت أمي تحدثنا عن ما جرى لليهود في العراق وقتها أما نحن ممن شهدنا قضية الكويت فقد كنا نستغرب كيف نفعل تلك الخطايا وننزل الظلم بأناس يشتركون معنا في معاني كثيرة ( دين ، لغة ) وغيرها من مشتركات كثيرة وأتذكر الإعلان الرسمي عن أن الكويت هي المحافظة التاسعة عشر للعراق وكنت أقول أذا لماذا نسرقها ولماذا نسمح بتخريبها ثم ما ذنب الناس ومن مختلف الجنسيات وبما فيهم العراقيون الاصلاء الذين وجدوا أنفسهم بين فكي كماشة ، ولا زلت أذكر سؤال الممرضة البوذية التي كانت في مستشفى أبن البيطار حيث قالت لي لماذا الكويت ؟ هذا عمل مجنون ؟
كما أود أن أقول بان العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط العائلات العراقية والكويتية قد تضررت بشكل كبير وقد حدثني احد ضباط الجيش العراقي وكانت له أخت متزوجة بالكويت بان أبناء أخته استغربوا وامتعضوا من دخوله بيتهم هناك بملابسه العسكرية وقد عبروا له عن رأيهم بحجم المصيبة ومقدار الخيبة من هذا الدخول للأخ الشقيق الكبير إلى بيت أخته الصغيرة
أنا لا أصدر حكماً على الأمور ولكن أستعرض وقائع جرت وهذا مقدار رؤيتي للأمور على الصعيد الإنساني والشخصي ولا أزيد ...
كان أبي رحمه الله تعالى حينما خرج من وظيفته قد أفتتح محلاً صغيراً في بيتنا يبيع من خلاله المواد الغذائية وقد بارك الله لنا في مصدر الرزق هذا ولكن حينما توفى الوالد وذهابنا إلى خدمة الجيش أغلقنا هذا المحل ولكن مع تصاعد نذر الحرب وفرض الحصار زارنا مختار المحلة ومعه بعض المسئولين المحليين وطلبوا منا فتح المحل من جديد نظراً لما قاله من سمعة طيبة لنا وغيرها من كلمات طيبة فقلت لهم أنتم تعرفون وضعي الصحي وكذلك أخي سعد فهل سوف تساعدوننا في توزيع المواد الغذائية على الناس ؟ قالوا نعم قلنا خير أن شاء الله تعالى وفعلاً باشرنا بفتح المحل وجاءت الشاحنة محملة بالمواد الغذائية وهنا تجمع أهل المنطقة والكل يريد أن يحصل على ما يريد فقد اقتربت الحرب ومع تدافع الناس طلبت المختار بالهاتف وحدثته عن الوضعية وخطورتها فقد تحدث مشاكل بين المتدافعين وذكرته بوعده لنا فقال أبني باشروا بتوزيع المواد والله كريم قلت له مختار يبدو أنكم تفرحون برؤية الناس تتقاتل لتذهب إلى مركز الشرطة وتصبح هناك مشكلة وقضية وأغلقت الخط لحظتها طلبت من شباب المنطقة وعقلائها مساعدتنا بالتوزيع وانتهى الأمر الذي سوف يعتاده الناس على ممر السنين القادمة .
طبعاً أثناء توزيع المواد انتبهنا إلى بعض صناديق الشاي كانت تحمل عبارة مخصصة لدولة الكويت وقد أحزننا جداً هذا الأمر لأنه وببساطة أصبح الجميع مشترك في أكل مالٍ لم يخصص له وهذا لمن يعرف أحد مسببات عدم قبول الدعاء والعمل الصالح لأنه أختلط بعمل غير صالح وأيضاً أؤكد هنا على أن هذا رأي شخصي . كما أن ما حدث بمجمله كان نذير بان الجزاء سيكون من جنس العمل وهو ما حصل فعلاً....
كان لي أخ بالجبهة وكان يأتي بإجازة ليحدثنا عن الأمور وكنا نتألم لما يجري ونطالبه بالسكوت وأن يحذر وأن لا يمد يده على مال حرام أبداءً ( لا نزكي على الله أحد ولكنها الحقيقة هناك الكثير الكثير من أبناء العراق الذين يشتركون معنا بالقيم العراقية الأصيلة رفضوا الأمر جملة وتفصيلاً ولكن ما كان لهم من حيلة إلا أن يحصنوا أنفسهم وأبناءهم من هذا البلاء ) .
بدأت المهلة المحددة لانسحاب العراق من الكويت تقترب من نهايتها والناس تستعد من خلال وضع القماش والبطانيات وغيرها على الشبابيك دراً لمخاطر الضربة النووية أو الكيماوية وزاد الظلام ظلاماً في الغرف والبيوت والبعض حفر خندقاً بالحديقة ليختبئ بالشق الترابي أو ليضع الوقود فيه وأخذت الأمهات بتخزين المواد الغذائية كل هذا والمذياع يبث الأناشيد الحماسية والقادة يهتفون بأننا وإننا وسوف نفعل وسوف ندمر وسوف وسوف وسوف ...
حتى جاءت الليلة التي لن تنسى 16 / 17 كانون الأول وعند الفجر ارتجت الأرض وتوهجت السماء وعصفت القلوب وتحجرت المآقي واختفت الكلمات ولم نسمع إلا القذائف والقنابل تدك أراضينا والحرائق تعصف بوادينا وهدير الطائرات يصم آذاننا والصواريخ تحفر أخاديد تبتلع أهالينا ... ويا لهف الروح على أهالينا العراقيين الذين وجدوا أنفسهم أمام قوات تجمعت من كل حدب وصوب لا يردعها رادع ولا وازع ولا قوة ولا هتاف المداحين والمنافقين ولا وفود الداخل ولا الخارج وأصبح الصباح علينا والدخان الأسود يعلو القامات بفعل الإطارات المحترقة والمباني الملتهبة وهكذا بقي العراقيون يواجهون مصيرهم المحتوم وما لهم إلا الله تعالى ليدفعوا ثمناً باهظاً لفعل ٍ نترك حكمه وتقديره وصوابه أو خطاء ذلك العمل لكل منصف وصاحب عقل وضمير لينظر فيه ..
هنا أذكر بان أخي الكبير أحمد كان يسكن بمنطقة قرب بلد والضلوعية وإذا به يصل بيتنا باكياً حيث لم يتصور أنه سيجدنا أحياء وبعد أن هدأت نفسه قال يجب أن تخرجوا من المنطقة وسوف أخذكم معي طبعاً الكثير من العائلات تركت بغداد إلى بقية المحافظات وقد ضاقت الأرض على العراقيين بما رحبت ، المهم جلب أخي شاحنة حمل كبيرة ( لوري ) ووضعنا بعض البطانيات والأشياء الضرورية وقد حملني وأخي سعد على أكتافه وبمساعدة السائق لكي نصعد على ظهر الشاحنة مع أخواتي الصغيرات وأثناء الطريق كنا نشاهد المباني المدمرة والحرائق المشتعلة من كل مكان وقوافل الخارجين من العاصمة بازدياد والسماء سوداء وكذا الأرض سوداء ورذاذ المطر أسود حتى كأنك تمشي وسط السواد وتطابقت الرؤية فلم نعد نرى إلا السواد ،
بعد هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر والصعاب وصلنا إلى هناك حيث قال أخي سعد أنا سوف ارجع مع السائق إلى بيتنا فقالت أمي وكيف أتركك أنا معك عائدة وهكذا انقسمت العائلة إلى أجزاء أسوة بكل عائلات العراق البعض بالعاصمة أو المدينة والأخر بالقرى والأرياف والأعزاء الأحبة هناك بالجبهات ينتظرون ما سوف يحل بهم وقد تقطعت بهم الأسباب وهم يسمعون بما يجري بالعراق والكل يعتقد انه لن يجد أهل وأحباب فقد تكون العاصفة الهوجاء قد ابتلعت أعز الأهل والأصدقاء ..
يوم زحفت جيوش ثلاثة وثلاثين دولة على جيش العراق الذي تقطعت به الأوصال بعد ضربات جوية قوية جداً من خلال آلاف الطلعات الجوية كان جيشنا قد أنهكتهُ هذه الضربات التي لم ترحم ولم يستطع أن يفعل الشيء الكثير وقد قطعت عنه خيوط الإمدادات العسكرية والغذائية بل وحتى أسلاك الهاتف وهكذا كان الجيش أسوة بكل العراق قد انشطر إلى شطرين أو أكثر كل في جهة لا يعرف الأخ ماذا حل بأخيه ..
بعد مضي قرابة شهر على بدء العمليات العسكرية كان الجيش قد خرج من الكويت مهدود القوى وفي حالة يرثى لها وقد نقلت الفضائيات ووسائل الإعلام صوراً مؤلمة عن واقع الجندي العراقي البسيط والذي تم الزج به في معركة غير متكافئة على كل الصعد ..
رجعت إلى بغداد وقلبي معلق أسوة بعائلتي بأخي الذي بقي هناك بالجبهة والذي نجاه الله تعالى ليعود إلينا بعد مسيرة طويلة على الأقدام حاله حال الكثيرين في ظل هذه الإثناء خرج علينا المذياع ليعلن انتهى الحرب ويختمه بعبارة يا محلى النصر بعون الله ولا أدري عن أي نصر نتحدث وأي حلاوة نتذوق ومر العلقم يملأ الأفواه وعويل الأمهات المفجوعات يضج ويشق أعنان السماء وأيتام ٌ يضافون لأيتام وجراحاً تلتئم مع جراح الثماني سنوات لتشكل نزيفاً مستمر وطريق الموت الرابط بين الكويت والبصرة قد خيم عليه غراب البين ليبتلع خيرة شباب العراق وهياكل الدبابات والآليات شاخصة لكل ذي بصر وبصيرة ، ( اذكر هنا بأن واحداً من كبار الصحفيين العراقيين أخبرني بأنه ومعه حميد سعيد وكان يرأس تحرير صحيفة الثورة لم يستطيعا من نشر خبر توقف الحرب لكون التحذيرات الأمنية والإعلامية قبلها كانت تشير بان أمريكا لديها قدرة إعلامية كبيرة قد تفبرك خبر الانسحاب لذا فلا تصدقوا ذلك أبداً ، ولمن يتذكر المؤتمر الصحفي الذي جرى يوم 13أو 14 /1 على خلفية المبادرة الفرنسية وقتها يعرف بالضبط كيف كان موضوع الانسحاب من المحرمات الكبرى ) .
هكذا ولكي تكتمل المأساة توالت الأحداث داخل العراق نفسه حيث حبلت بإحداث ٍ جسام مزقت الوطن وخلقت خطوط عرض وطول وشهداء من العراقيين قتلوا بيد عراقيين ومشردين في الصحراء وفوق الجبال والروابي يعبرون الوديان السحيقة بحبال ٍ يتعلق فيها الشيخ الكبير ويحتضنه أبنه أو أخيه ليهرب من وطن ٍ كان يفترض به أن يكون حبل الأمان الذي نتمسك به
( شاهدت هذا المنظر من خلال فلم مصور عن نزوح الأكراد إلى خارج العراق حينها يعلم الله كم بكيت وأنا خجل ٌ مما أرى ، طبعاً كان مجرد رؤية هذا الفلم تمثل جريمة قد ندفع حياتنا ثمناً لها )
كل هذا يجري والدماء تجري والجراح تكبر وبدأنا فصل جديد تمثل في انكسار حاجز الخوف وهيبة الدولة وقوتها واحتراق الأخضر واليابس ولم يعد هناك من ثوابت نستطيع أن نلتقي عليها بعد أن تحول أبناء الوطن الواحد إلى فريقين أو أكثر وكل يدعي انه يمثل الوطن والشعب
والحقيقة إن الشعب مغلوب على أمره ضاع بين هذا وذاك ولن نستطيع أن نزيد لكي لا تختلط الأوراق ولكي لا ننساق وراء الإحكام بل ندع هذه الأوراق في سجل التاريخ والوطن ربما هناك نجد الجواب أو نبقى ندور في نفس الإطار .
كنت ُخلال فترة الحرب هذه أجلس قرب البيت ويلتقي أبناء المنطقة طوال النهار حتى يحل المساء ليذهب كل ٌ إلى بيته وهو لا يعرف هل سيحل عليه الصباح وهو حي ٌ يرزق أما محمولاً على الأكتاف إلى مثواه...
أما معاقي الحرب العراقية الإيرانية فقد كنا نستعد لكي نستقبل معاقي حرب الخليج الأولى لكي يضافوا إلى أعداد لا تنتهي من شباب العراق الذين غادرهم الشباب مبكراً.
كما أضيف لنا أطفال صغار ليس لهم من ذنب ٍ سواء إنهم ولدوا في خضم تلك الحروب وما أفرزته ليولد لنا أطفال معاقين لا لذنبٍ ارتكبوه هم وأباهم سوى أنهم عراقيون وقعت عليهم المأساة التي أبكت أهل الأرض وأمطرت السماء بمطر اسود كانت سحبه تأتي محملة لكي تمطر على العراق بالماء الذي تنتظره الأرض لكنه هذه المرة كان مطراً اسوداً نازلاً لا يروي من عطشٍ ولا يسقي زرع ٍ ولا يـُحيي أملا ....
كان المطر الأسود نازلاً .. نازل ليضيف بعداً أخر لمشهد طغى على حياة العراقيين انه السواد السواد بعدما اختفت كل ألوان الفرح وقوس قزح وكل ألوان الحياة وكأنه قد كتب على أهل هذا البلد عشق الموت لا عشق الحياة...
عذراً قد يقول قال أنك ابتعدت عن سرد قصتك وأقول وهل هناك من عراقي يحب العراق أرضاً وسماءً وتراباً يستطيع أن يفصل وقائع ومجريات أيامه عن أيام العراق ويا لها من أيام لا تنسى... وكيف ننساها وقد فتحت الباب على مصراعيه لسنوات وعقود ٍ من الفقر والجوع والذل وانحدار القيم والأخلاق وفقدان البنيان الاجتماعي لتماسكه وحضوره القوي حتى وصلنا إلى سنوات حمامات الدم العراقي المراق....
للحديث بقية أن كان بالعمر بقية بإذن الله تعالى....
2115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع