القس لوسيان جميل
تأمل في اسطورة كلكاميش
قرائي الأعزاء! ان ما يجب ان اقوله لكم هو انني لن اسرد لكم كالحكواتي قصة او اسطورة كلكاميش.فمن يريد ان يطلع على هذه الملحمة يمكنه ان يطلبها من محرك البحث كوكل. اما في ما يخصني فسأقدم لكم ما يهمني منها وما يفيدني لكي اتأمل بالموت وبالوسائل الأنثروبولوجية للانتصار الأنثروبولوجي عليه. اي التأمل بالوسائل التي تعطي شعورا انثروبولوجيا للانسان بأنه ينتصر على الموت الجسدي ويتعالى عليه، الأمر الذي يعني وصول الانسان الى الحياة التي يتمناها وهو بعد على قيد الحياة.
علما بأن الخلود ما بعد الموت في الجنة مع الله لا دليل للانسان على وجوده. وعلى وجود الجنة نفسها. ولذلك لم اضع هذه الورقة تحت عنوان اسطورة كلكامش وانما تحت عنوان: تأمل في اسطورة كلكامش.اما هذا التأمل فأريده ان يكون تأمل كاتب هذه الورقة وليس تأمل غيره. غير اني اعتقد ان تأملي هذا لن يكون بعيدا عن تأمل غيري، ولاسيما من المعاصرين، وان كان هذا التأمل بعيدا عن تأمل السلفية الدينية، المسيحية وغير المسيحية، هذا اذا كان للسلفية تأمل حقيقي، وإذا لم يكن كل ما عندها عبارة عن جمل وعبارات محفوظة عن ظهر قلب، ترددها مقرونة بسلطة مزعومة تستخدمها ضد المفكرين المعاصرين العلميين، اذا لم نقل العلمانيين، خوفا من الالتباس ودمج العلمانية بالإلحاد وبالكفر والزندقة.
هذا، في حين ان العلمانية ليست سوى وسيلة للتخلص من سطوة رجال الدين وفكرهم البالي الذي يأبى التغيير.وعليه يقول تأملنا ان كلكامش الوثني المتفلسف كان ملكا قويا بنى مملكته بسواعد من سخرهم للعمل في مشاريعه، ولاسيما في بناء سور عظيم في اوروك العظيمة. غير ان كلكامش، على الرغم من قوته التي استخدمها في النصر على اعدائه الكثيرين، الا انه كانت في قلبه رغبة في ان يبقى خالدا لا يموت. هو الذي كان جزء منه الهيا واجزاء اخرى كانت بشرية، لآن والده كان بشرا اعتياديا وأمه كانت في ثلثيها من مصف الآلهة، كما تقول الملحمة.
هذا ورغبة في القضاء على كلكامش خلقت احدى الالاهات واسمها ارورو شخصية انكيدو القوي لكي يتغلب على كلكامش ويقتله. غير ان كلكامش وبعد صراع مع انكيدو صرعه وكان بإمكانه ان يقتله، غير انه لم يفعل. ولذلك اصبح الملك و انكيدو اصدقاء يعاون انكيدو الملك عند صراعه مع خصومه. ولكن يبدو ان انكيدو طغى وبغى وقطع رزق الصيادين لأنه كان يخلص الحيوانات من الفخاخ. فشكا الأهالي حالهم من انكيدو عند الملك كلكاميش. فآمر كلكامش احدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة اغواء انكيدو ليمارس الجنس معها. وبذا يصبح انكيدو مروضا ومدنيا. حالف النجاح خطة الملك كلكامش وبدأت خادمة المعبد بتعليم انكيدو الحياة المدنية ككيفية الاكل والشرب وشرب النبيذ. بعد ذلك بدأت الخادمة بإخبار انكيدو عن قوة كلكامش وكيف يدخل بالعروسات قبل ان يدخل بهن ازواجهن. لكن انكيدو قرر ان يتحدى كلكاميش في مصارعة ليجبره على ترك تلك العادة. لكن الغلبة كانت ل كلكامش بعد هذه الحادثة اصبح الاثنان صديقين حميمين.اخيرا نصح احد الحكماء كلكامش بأن يكف عن مسعاه في التفتيش عن الخلود،رغم اخفاقاته الكثيرة وصراعاته الكثيرة مع اعدائه وانتصاراته الكثيرة، وان يعمل اعمالا حسنة وينبذ العنف لكي ينال الخلود.غير ان كلكاميش لم يقتنع بما عرض عليه.
وعليه فقد واصل كلكامش سعيه في البحث عن الخلود. هذا وفي هذه الأثناء مات صديقه انكيدو نتيجة مؤامرة عليه. فحزن عليه كثيرا. وهام على وجهه وخلع ملابس الأبهة ولبس ملابس من جلود الحيوانات. ثم نصحه احدهم في ان يفتش عن اوتنابيشتم الذي نجا هو وامرأته من الموت بعد الطوفان، لكن قال له ان الذهاب اليه مملوء بالمخاطر وهو عبر البحار. غير ان كلكامش قرر لقاء اوتنابيشتم مهما كلفه الأمر فوجده اخيرا. وقال له ارجو ان تعلمني سر الخلود.فقال له ان الآلهة منحتني هذا الخلود بعد ان نجتني من الطوفان انا وامرأتي، مما كان يعني ان اوتنابيشتم لم ينفع كلكامش بشيء.غير ان امرأة اوتنابيشتم اشفقت على كلكامش فدلته على عشب سحري تحت البحر بإمكانه ارجاع الشباب الى كلكامش فصدقها. ولذلك غاص كلكامش في اعماق البحر في ارض الخلود دلمون ( البحرين حاليا )، وتمكن من اقتلاع العشب السحري
عودة كلكامش الى اورك: بعد حصول كلكامش على العشب السحري الذي يعيد نظارة الشباب يقرر كلكامش ان يأخذه الى اورك ليجربه هناك على رجل طاعن في السن. ولكن في طريق عودته، وعندما كان يغتسل في النهر، سرقت العشب احدى الأفاعي واكلته. فعاد كلكاميش الى اورك خالي اليدين. وفي طريق العودة يشاهد كلكامش السور العظيم الذي بناه حول اورك فيفكر في قرارة نفسه ان عملا ضخما كهذا السور هو افضل طريقة ليخلد اسمه.في النهاية تتحدث الملحمة عن موت كلكامش وحزن اورك على وفاته.
نحن البشر والموت: مما هو اكيد لدينا نحن البشر، في اية حالة انسانية كنا اننا سنموت يوما. واننا لن نحتاج الى ملحمة كلكامش لكي نتأكد ان لا مفر لنا من الموت. فهل نستسلم للموت بسلبيته المعهودة يا ترى؟ ان الواقع يقول لنا كلا ان البشر لا يستسلمون للموت بكل سلبياته. فماذا يفعل الانسان في الواقع لكي يتفادى سلبية الموت؟ ان ما فعله الانسان منذ اقدم العصور، وبدلالة ملحمة كلكامش، لا يقتصر على طريقة معينة للقضاء على الموت. ولكن هناك طرق كثيرة ومماثلة للقضاء على سلبية الموت، وذلك حسب الحضارة التي يمر بها الانسان ومتطلباتها. علما بأنه توجد في حياة الانسان قدرات كثيرة تساعده على ايجاد الطرق المناسبة للقضاء على سلبيات الموت. اما نحن المتأملين بالموت فلا يجوز لنا ان نستهين بأية طريقة يجدها اي انسان لنفسه للقضاء على سلبيات الموت. ولكن يمكن ان تكون لنا نحن المتأملين بالموت طرقنا الخاصة بنا.
اما الطرق الاعتيادية التي يمكن ان نجدها عند البشر فمنها: لنأكل ونشرب وغدا سوف نموت. ومنها لنعمل ونتعب حتى نكون لنفسنا سبيلا للعيش الرغيد الضامن للسعادة. ومنها قبول التضحيات من اجل الوصول الى اهداف مطمئنة لمعنى الحياة عندنا. ومنها اختيارنا لحياة بسيطة لكن يمكن ان تكون مملوءة بالمعاني الانسانية، هذه المعاني المقبولة تطوعا قد تصل الى الشهادة وفقدان الحياة الجسدية، وقد تكون حرمانا طوعيا من مباهج الحياة الأساسية كالزواج وتكوين العائلة.
هذا، مع العلم ان الحياة المكرسة للروح او للخدمة الانسانية او للعلم او للمبادئ السامية ليست هينة، فكثيرون هم الذين يخفقون في اتباع اراداتهم الصالحة، او ما يسمونه مشيئة الدعوة ومشيئة الله. فيعيشون حياة لا معلق ولا مطلق. وغالبا ما تسود الهموم والعقد النفسية مثل هذه الحياة.
اما الحياة التي تمتلئ فرحا فهي الحياة التي ينجح فيها الانسان في مواصلة طريقه ببساطة سائرا من الألف الى الياء او من الفا الحياة الروحية الى يائها، اي من الألفا الى الأوميجا. فمثل هذه الحياة يموت فيها الانسان موتا بالجسد، لكنه عند قبوله الموت الطوعي، وعلى الرغم من حالة الخوف التي يمكن ان تنتاب اي واحد، يموت هذا الشخص وهو مطمئن الى انه قضى حياته في تكوين نموذج جيد لحياة انسانية تستحق ان يعيشها الانسان ويعيش بموجبها آخرون ايضا.
اما الطريقة العظمى التي استخدمتها الكنيسة خاصة من اجل تجاوز مفعول الموت الشامل، فهي طريقة اعتمدت على الوهم الذي يمكن ان يسمى:بالحيل الدفاعية التي نجدها في علم النفس والتي تنقل الأمور من امور سيئة الى امور حسنة يمكن الركون اليها، ولكن ليس بالسهولة التي يظنها البعض. مثال على ذلك: اسرق مالا من الآخرين او من الدولة بحجة اني سأوزعه على الفقراء, اما هنا في الحالة التي نتكلم عنها ففيها تقول الكنيسة للمؤمن: يا مؤمن لا تخف من الموت لآن الخلود في السماء ينتظرك. اي الخلود في الجنة. وهكذا يستسلم الانسان بسهولة اكبر للقدر ويموت بخوف وحسرة اقل. وهكذا ايضا يستطيع الانسان ان يموت شهيدا املا في الجنة. كما يستطيع الانسان ان يتحمل الضيم والفقر والحرمان املا في الجنة، الأمر الذي استفاد منه كارل ماركس وسمى الأديان ووعودها بالجنة بأفيون الشعوب. ولكن ماذا اقول:ربما يكون افيون الشعوب هذا، في حالة الموت ذي فائدة انسانية لبعض الناس.
2018 كانون الأول
3341 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع