السنوات العجاف –٢

                                                   

                           قاسم محمد داود


السنوات العجاف – ٢

حصار العراق 1991- 2003

آثار الحصار على الحياة العامة

عندما سُئلت مادلين أولبرايت، ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، بتأريخ 12 مايس 1996 من قبل محطة ( سي بي اس): " لقد لقى نصف مليون طفل عراقي حتفهم .. وهو عدد أكبر من الأطفال الذين لقوا مصرعهم في هيروشيما.. هل الأمر يستحق ذلك ؟. فردت قائلة " إننا نعتقد أن الامر يستحق ذلك ".

كان للحصار الشامل الذي دمر العراق، كدولة حديثة وقضى على شرائح بكاملها من أبناء الشعب العراقي آثار مدمرة على مختلف نواحي الحياة وكنا قد تناولنا اثر الحصار على الاقتصاد العراقي في مقالة سابقة. ولقد كان للولايات المتحدة وبريطانيا الدور المهم في اصدار قرارات مجلس الامن الدولي والتلاعب بها من اجل استمرار الحصار ومواصلة هذا القتل المعلن للشعب العراقي. ثلاثة عشر عاماً من الحصار الاقتصادي المفروض على العراق، الذي كان يزيد فداحة عن أسلحة الدمار الشامل التي كانت مبرر الحصار، ومن القصف الجوي الذي كان يخلف ورائه وبصورة شبه يومية وكان العالم يغمض عينيه اتجاهها، دماراً هائلاً لم يوفر حتى معامل معالجة القمامة ومحطات تصفية المياه والملاجئ. لقد عانى العراقيون من تدمير البنية التحتية لبلادهم وتجلت هذه المعاناة على الحياة العامة في كافة المجالات بشكل مباشر او غير مباشر:

1- تميز المجتمع العراقي بالتعدد والتنوع منذ القدم، وقابلٌ للتعايش المريح امام دورات العنف وتكريس الكراهية كما انه يمتلك سمات المجتمع المتحضر المتماسك الا ان غزو الكويت وما تلاه من حرب وحصار ثم الغزو الأمريكي واحتلال العراق، عمق مظاهر التردي والترهل ومغادرة ما كان له من الصفات الحميدة، ففي سنوات الحصار لم يعد بمقدور الحكومة تأمين الوظائف الحكومية وفي القطاعات الصناعية التي توقفت نتيجة الحصار، فقد تم تسريح ما يقارب ثلثي القوى العاملة مما ساهم في زيادة معدلات البطالة ( بلغت نسبة البطالة في عام 1999- 21% ) وتمزق الحياة العائلية نتيجة ارتفاع معدلات الجريمة، والعنف الاجتماعي، والرشوة، والانتحار، والسرقة، والبغاء، والتهريب، وجنوح الاحداث، وظواهر اجتماعية أخرى تؤكد الخلل الخطير في بنية المجتمع العراقي. فقد كان من الممكن لأب لديه طفل مريض ثمن دوائهُ ضعف راتبه الشهري، ان يضطر لقبول رشوة، وهكذا فقد زرعت العقوبات بذور الفساد في العراق، ونحن اليوم نعاني من ثماره المتعفنة. وقد ذكر البروفسور جوي جوردون، من جامعة فايرفيلد الامريكية،: " لقد تم تحويل مجتمع معروف بعلمائهِ ومهندسيه وأطبائه من خلال الحصار إلى مجتمع يهيمن عليه الشحاذون والمجرمون وتجار السوق السوداء ". ففي محافظة الموصل على سبيل المثال تشير البيانات الإحصائية الى وقوع ( 3981 ) جريمة احتيال خلال الأعوام ( 1991 – 1999 ) بمعدل مقداره ( 422) جريمة ، وجرائم الاحتيال تعتبر من افرازات الحصار الاقتصادي على المجتمع العراقي حيث لم تكن هذه الجرائم معروفة بشكل واسع قبل عام 1991 فبدأت معدلاتها تتصاعد يوماً بعد يوم نتيجة لزيادة التضخم النقدي الناتج عن استمرار الحصار الاقتصادي والتي ساهمت في تعزيز القيم المادية في المجتمع على حساب القيم الاجتماعية والثقافية والمصلحة العامة.

2- مست هذه العقوبات العراقيين مساً وثيقاً في كل لحظة من حياتهم اليومية، فقد كان التيار الكهربائي يتذبذب في الساعات القليلة التي يتوفر فيها، ولإجراء مكالمة تلفونية محلية يستغرق الوقت 10 دقائق للحصول خط. وتدهور التعليم في كل المراحل وانتشرت ظاهرة التسرب (ترك الدراسة او عدم الالتحاق بالمدارس) وانخفاض مستوى التعليم، فقد كانت نسبة التسرب حسب احصائيات عام 1989 (1.68%) وهي نسبة متدنية جداً، وذلك ناتج وحسب تقرير لليونيسيف ان الحكومة العراقية استثمرت مبالغ ضخمة في قطاع التعليم من أواسط السبعينيات حتى عام 1990، وفي تقرير آخر لليونيسيف ذكر أن السياسة التعليمية للعراق تضمنت توفير المنح الدراسية وتسهيلات البحث والدعم للطلبة. ففي عام 1989 وصل معدل المسجلين بالمرحلتين المتوسطة والثانوية 75% (أعلى قليلاً من معدل الدول النامية والتي تبلغ 70%)، ووفقاً لتقرير التنمية البشرية لعام 1991 انخفض معدل الامية الى 20% عام 1987. وكان نصيب التعليم يزيد على 5% من ميزانية الدولة عام 1989 فوق معدل الدول النامية البالغ 3.8%.

وفي ظل الحصار انخفض معدل المسجلين بالمدارس لجميع الاعمار من (6-23 سنة) الى 53%. وفي المحافظات الوسطى والجنوبية بلغت نسبة مباني المدارس التي بحاجة الى إعادة تأهيل 83%، أي أن 8613 مدرسة من مجموع 10334تضررت بشدة. وبعض المدارس التي كانت سعة الاستيعاب بها 700 تلميذ بلغ عدد المسجلين بها فعلياً 4500 تلميذ مما جعل الدوام فيها على شكل مناوبات بأوقات مختلفة وصلت احياناً الى ثلاثة أوقات في اليوم الواحد. أما عن التقدم الواقعي لمحو امية الكبار والاناث فقد توقف ورجع الى مستويات منتصف عام 1980 .وبلغت معدلات تسرب التلاميذ حدود عليا فقد أوضحت دراسة ان عدد المتسربين بلغ 97783 طالب للعام الدراسي 1997- 1998 .وفي دراسة أقامها المركز الإنمائي للبحوث النفسية والتربوية في محافظة ذي قار ان ( 60% ) من عينة بحث بلغ عدد افرادها ( 288) طفلاً تتراوح أعمارهم بين 7-12 سنة أي سنوات الدراسة الابتدائية تركوا مدارسهم بسبب ما يعانونه من صعوبات تواصلية وتعليمية نتيجة سوء حالتهم المعاشية والصحية والاجتماعية وال (40%) على وشك ترك الدراسة. ولم تقتصر آثار الحصار على الطلاب فقط، ففي إحصائية لنقابة المعلمين في نهاية عام 1997 تشير الى ترك آلاف المعلمين والمدرسين عملهم في المدارس الابتدائية والثانوية بسبب الوضع الاقتصادي المتردي لهؤلاء المعلمين بسبب التضخم وانخفاض مستوى الدخل. ونتيجة للحصار واجه العراق ظاهرة هجرة العقول بأعداد كبيرة بالرغم من القيود المشددة على السفر خارج العراق، حيث قدر رسمياً أن اكثر من 23 الف باحث وعالم واستاذ جامعي وطبيب متخصص ومهندس مرموق تركوا العراق لينظموا الى أكثر من 2.5 مليون آخرين يعيشون في المنافي الطواعية، نسبة كبيرة منهم من حملة الشهادات العليا. واضطر الكثير من المهندسين والعلماء وأساتذة الجامعات الى هجر وظائفهم لبيع السجائر في الشوارع أو قيادة سيارات الأجرة من أجل لقمة العيش.

3- حسب تقارير منظمة اليونيسيف كانت المنطقتان الوسطى والجنوبية التي يقطنها 85% من مجموع سكان العراق أكثر المناطق تأثراً من الحصار، اذ قفز معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة الى الضعف عن معدل الأعوام 1984-1989 حيث كان 56 حالة وفاة لكل 1000 طفل اما في أعوام الحصار فقد ارتفع الى 131حالة وفاة في الفترة 1994-1999. كذلك تزايد معدل وفيات المواليد من 47 لكل الف مولود الى 108 حالة وفاة خلال نفس الفترة. وتضاعفت نسبة سوء التغذية بين الأطفال للفئة العمرية هذه من 12% إلى 23% خلال الفترة بين عام 1991-1996. وارتفعت نسبة سوء التغذية الحادة في الوسط والجنوب من 3% الى 11% لنفس الفئة العمرية. وفي مقال لمجلة تايم نشر في 10 حزيران 1991 تحت عنوان (مشاهدة الأطفال يموتون جوعاً) تقول: " ان المشكلة الأخطر هي التدمير الذي تعرضت له محطات الطاقة الكهربائية فبدون كهرباء لا تستطيع المستشفيات تشغيل حتى الأجهزة الأولية، مثل حاضنات المواليد والثلاجات اللازمة لحفظ الدم والأدوية، فضلاً عن غرف العمليات ووحدات العناية المركزة" وتمضي المجلة في وصف حجم المأساة فتقول: " إن الأطفال في مدينة أربيل الشمالية يموتون بعد ولادتهم لكون الحاضنات لا تعمل. اما الأطفال الذين تكتب لهم النجاة فإنهم يموتون من الجوع وسوء التغذية ". وفي تقرير لمسح ميداني قام به خبراء منظمة الأغذية والزراعة الدولية نشر في (نيويورك تايمس) في 1 كانون الثاني 1995 يقول: " قد يكون 576000 طفل عراقي قد ماتوا منذ نهاية حرب الخليج بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن".

4- تحول العراق في سنوات الحصار العجاف من بلد غني مرفه نسبياً الى بلد يعاني من شظف العيش وتردي الحالة الصحية. وللمقارنة بين قبل وما بعد الحصار، فقد بلغت الرعاية الصحية في العراق قبل فرض العقوبات 97% لسكان المدن و78% لسكان الأرياف والبادية، وفقاَ لمنظمة الصحة العالمية. واعتمد نظام الرعاية الصحية على شبكة كبيرة من المرافق الصحية، فقد كان في كل مركز محافظة مستشفى مركزي لازالت تعمل حتى اليوم ومستشفيات ومراكز صحية في كل المدن والارياف، مرتبطة بشبكة اتصالات واسطول كبير من مركبات الخدمات وسيارات الإسعاف. ويشير تقرير لصندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة اليونيسيف الى وجود نظام جيد في العراق لمساعدة الايتام والأطفال ذوي الحاجات الخاصة ودعم الاسر الفقيرة. اما في ظل الحصار فقد ظلت المستشفيات والمراكز الصحية دون اصلاح وصيانة ولم يحصل العراق الا على 1/30 من احتياجاته الطبية، كما انخفضت القدرة الوظيفية لنظام الرعاية الصحية أكثر بسبب نقص مخزون المياه والطاقة وقلة وسائل النقل وانهيار نظام الاتصالات اللاسلكية، وعادت الامراض المعدية التي تنتقل عبر الماء والملاريا والتي كانت قد انتهت او تحت السيطرة. ونتج عن هذا التردي في نظام الرعاية الصحية بسبب الحصار، تزايد معدل وفيات الأطفال المسجل في المستشفيات العامة الى (ما يزيد على 40 الف حالة وفاة سنوياً مقارنة بعام 1989) ويرجع السبب الى حالات الاسهال الشديد والالتهاب الرئوي وسوء التغذية، اما وفيات الكبار الى (ما يزيد على 50 الف حالة وفاة سنوياً مقارنة بعام 1989) بسبب امراض القلب وفرط ضغط الدم والسكري والسرطان وأمراض الكبد والكلية، اذ كان يموت حوالي 250 شخصاً يومياً في العراق بسبب العقوبات. ولازالت مناطق جنوب العراق وبالأخص محافظة البصرة تعاني من انتشار الامراض السرطانية بسبب القصف الأمريكي اثناء الحرب باليورانيوم المنضب وغيره من الأسلحة الفتاكة التي جُربت لأول مرة في العراق. لقد تسبب الحصار حسب تقديرات البروفسور فرانس بويل، من جامعة إيلينوي الامريكية في أن:" يلقى 1.7 مليون عراقي حتفهم كنتيجة مباشرة لهذه العقوبات الاقتصادية الهادفة إلى الإبادة الجماعية من بينهم 750,000 طفل عراقي ". لكن احداً في الإدارة الامريكية حينذاك لم يكلف نفسهُ عناء التفكير فيمن يتضرر من جراء العقوبات، ولماذا يموت هذا العدد الكبير من الرضع، ولجان تنفيذ برنامج النفط مقابل الغذاء الخاضعة للسيطرة الامريكية أوقفت الكثير من المواد التي كان العراق بحاجة لها تحت ذريعة ان تكون ذات استخدام مزدوج وتسمح للعراق باستئناف أنتاج أسلحة الدمار الشامل، تلك الاكذوبة الكبرى التي تواطئ الغرب المتشدق بحقوق الانسان كذباً في تمريرها والتي لم تكن يوماً موجودة في العراق وان وجدت فهم من انتجها وصدرها وهذا ما ثبت بعد الغزو الأمريكي في 2003، وكانت هذه المواد تشمل آلات طبية للقلب والرئتين، ومضخات وأدوات زراعية وتجهيزات امان إطفاء الحرائق ومساحيق للغسيل بل وحتى عربات اليد المستخدمة في مواقع البناء. في الوقت الذي يعلم العالم كله، ليس هناك دولة في العالم استخدمت أسلحة الدمار الشامل قدر الولايات المتحدة نفسها.

من عاش سنوات الحصار من العراقيين سوف يتذكر كيف كان العديد من الاسر تضطر لبيع ممتلكاتها ولوازمها المنزلية ..تدريجياً من أجل تلبية حاجاتها الأساسية وأصبحت الحياة لا تطاق في ظروف معيشة تشح فيها المواد الغذائية وتندر الادوية الأساسية، وتتلاشى الطاقة الكهربائية، وتُفتَقد المياه النظيفة، وتطفح المجاري، وتتفاقم الديون وتختفي ابتسامة الأطفال، ويصاب الشباب بالإحباط وتختفي الاواصر الاجتماعية الحميمة، لقد حَول الحصار والحرب التي سبقته وما تلاه من غزو واحتلال مجتمعاً كان من المجتمعات النموذجية بين مجتمعات الدول النامية الى مجتمع يرثى لحالهِ.

المصادر :

1- تقارير من اليونيسيف عن أوضاع الأطفال في العراق

2- إحصاءات عن آثار الحصار من مجلة الدستور

3- كتاب " العراق تحت الحصار " / حنان رمضان / مركز البحوث العربية والافريقية

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1721 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع