ثريا الشهري
تقول الممثلة الأميركية سالي فيلد: «نشأْتُ على مبدأ الاستشعار بما يتوقعه الآخرون مني، وعليه فالوصفة جاهزة:
فما عليَّ سوى أن أكون هذا الشخص المتوقَّع. لقد استغرقني زمن طويل كي أصل إلى نقطة ألا أحكم فيها على نفسي من خلال عيون الآخرين عني أو حكمهم عليّ». كلامها مؤلم بصدقه، لأننا أدرى الناس بمدى التصاقه بواقعنا، فتجدنا قبل أن نُقبل على قراراتنا نقلِّبها في رؤوسنا لننظر إليها من خلال نظرة الآخرين، فإن افترضنا أنها تلاقي استحسانهم تَشَجّعنا على اتخاذها، وإن افترضنا استهجانهم ترددنا بالمضي فيها، وربما أحجمنا عنها تماماً، وكم من أمور ومسارات تغيّرت وتبدّلت بسبب كلام الناس، فلو حدث -مثلاً- أن فينا من لبس قناعاً حجب به هويته الحقيقية، وبقناعه هذا كان في حِلٍّ من أي ارتباط اجتماعي أو تقليد وعُرف متّبع، وأصبح في وسعه الكثير مما كان يتمناه. حسناً، ها هي الساحة أمامه، ولكن أتدرون ما خوفي لو نزل بأحلامه الطائرة إلى الأرض؟ ألاّ يفعل شيئاً، وإن فعل فأمرٌ لا يقارَن بحجم رجائه إياه، ولا بمعاناة الصبر عليه.
يروي فيلم قصة رجل بسيط يعمل في محل للجزارة، لا همّ له بعد العمل وتناول صحن العشاء، سوى الاطلاع على تحليلات المراهنات، ليتوجه في اليوم الموعود إلى مكتب المراهنة فيختار الأحصنة الثلاثة التي يتوقع فوزها بالسباق، ثم يقف أمام الشاشة بحذائه المهترئ عاقداً إصبعيه متسمِّراً بعينيه مراقباً مجريات الأشواط، وتلك بقيت حال الرجل مدة 20 عاماً، فإذا به بعد طول انتظار يربح الرهان ويحصل على المال الذي طالما انتظره، فكيف سارت الأمور عندها يا ترى؟ أصبح الرجل عقب فوزه مشغولاً بقائمة طلبات ما إن يكتبها حتى يمزِّقها، إلى أن انتهى إلى حفظ المبلغ في درجه والعودة إلى سابق عهده، منتعلاً حذاءً مهترئاً يقطِّع اللحم ويقدمه للزبائن.
كأن الحلم بالشيء في أحيان كثيرة أجمل من الحصول عليه! أو ربما يكون الحلم قد تجاوز الوقت المعيّن له! فحتى الحلم له عمر يموت فيه، فإذا ما رجع غائب بعد عناء انتظار، إذ بحماستنا تخذلنا، وبفتورنا وارتباكنا يفاجئنا... فهل كنا نتغذى على الحلم فلما حضر فقدنا غذاءنا، أو قُل شهيتنا؟
يستحيل أن ينشأ المرء بلا أهل وبلا ناس هم أصحاب الدائرة المحيطة به، ويبذرون أول بذرة في تشكيل شخصيته بآرائهم واعتقاداتهم. هذا حسنٌ، وفيه نوع من الأمان والضمان للإنسان، شرط ألاّ يصل إلى نوع من الضغط عليه ولَيِّ ذراعه وتشويه عقله. أمّا تحديد تلك النسب، فإنما يخضع لوعي المرء وتقديره لها، ولطبيعة الشخصية أيضاً، لذلك كان قول الممثلة، وهي المرأة الأجنبية في المجتمع الحر (نسبياً)، إن المسألة استغرقتها وقتاً لا بأس به للنضج والتمييز متى يكون الخارج تدخّلاً في صميم حياتها وحريتها الشخصية ومتى لا يكون، وإن تبيَّنَ تدخّلاً فكيف تعالجه؟ هل بردع الآخرين؟ أم بالتغلب عليه من طريق اقتناعها وإصرارها على أن ما تقوله وتفعله ستحكم عليه بعدسة عينيها هي لا بعدسات غيرها على الإطلاق.
نحن مجتمعات وصاية، ومن الصعب أن نقضي أعمارنا تحت حكم الوصاية ثم ذات صباح مختلف نسمع المنادي يصرخ ويعلن أن الوصاية رُفعت عنا، فقد لا ننتهي بأفضل من حال الجزّار الذي لم يعجبه امتلاك المال قدْرَ الحلم بامتلاكه. على أن هذا لا يعني أن الحرية ليست من حقوقنا الأولى الأساسية، ولكن الحرية مبدأ يجب أن تتربى عليه وتَأْلَفَ ممارستَه ضمن بيئة تحكمها القوانين الرادعة للخطأ والتعدِّي، تستمدها من احترامها حقوق الآخرين، بمعنى أن الحرية كتاب تقرأه منذ بدايته، ولا تقفز بالقراءة فوق صفحات منه مفوِّتاً أحداثه، لتأتي عند آخره جاهلاً الحكاية، ثم تخرج في كل مناسبة وفي غير مناسبة لتتنطّع بكلمات محفوظة عن الحرية!! «يا عمي»، وكأنك تعرفها منذ نامت في مهدك! وكأنك لم تكن معنا ونحن تحت ظل الوصاية لم نقرأ من كتاب الحرية سوى عنوانه وشيء من مقدمته! إن أردنا الحرية فلنبدأ بإعطاء الصغير كتابها، ونوصيه «ألا يفوّت» عليه سطراً من صفحاته الشيقة والكثيرة، لأنه إن فعل فلن يفهم مغزى الرواية وإن رواها الراوي.
1616 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع