قاسم محمد داود
الانعتاق من تقديس الأشخاص يأتي في مقدمة الشروط الأساسية للنمو والتقدم
تقديس الأشخاص ظاهرة تتصف بها المجتمعات المتخلفة المغلوبة على أمرها، والتقديس يعني ان ينظر لشخص ما انه منزه من الخطأ، وأن نقده من المحرمات ولا يجوز محاسبته على ما يقترف من أخطاء وأن ما يقوله ويعمله هو عين الصواب، فهو القائد الملهم والزعيم الأوحد، وكل ما يصدر منه هو حكم ووصايا واجبة التنفيذ. ويحصل هذا الافراط في التعظيم في ثقافات مغلقة وذات رؤية أحادية، حيث أن المتحمسين لهذا الفرد لا يرون سوى مزاياه ويضخمونها حتى يتجاوزوا بها كل حد مقبول ويحيلوه إلى رمز باهر وشاهق لا يحق لأحد التحديق به! بل يوجبون على المجتمع.. الإصغاء له والدوران حول أقواله وكأنه ليس من طينة البشر، غير مدركين ان السيرة الحياتية لأي شخصية مهما علت شأنها هي عبارة عن موضوع يخضع للدراسة والنقد والتحليل، وان تلك الشخصيات ماهي الا بشر مثلنا لها غرائز كما سائر البشر. تحب وتكره وتأكل وتشرب وتخطئ وتصيب. وظاهرة التقديس في المجتمعات البشرية لها جذورها التاريخية، فالنصوص المسمارية المكتشفة أبرزت معلومات وافية عن مسألة تأليه وتقديس بعض الملوك في حضارة وادي الرافدين ومنذ عهود مبكرة، فقد بقي الملك دائماً شخصاً مقدساً تربطه رابطة حميمة بالآلة، ففي الالف الثالث ق.م تم تأليه كالكامش ملك اوروك، والسمات الأسطورية في هذه الشخصية جعلته كائن يجمع بين الانسان والآلة. ومن اساطير تقديس ملوك وادي الرافدين، صعود ملك كيش أيتانا الذي حكم في حدود 2750ق.م الى السماء على ظهر نسر للحصول على نبات الولادة. اما في مصر الفرعونية فقد كانت عبادة الملك من أهم الملامح الحضارية فقد كان الفرعون ابن الشمس مقدساً في حياته وبعد مماته. ويظهر ذلك جلياً في الآثار الملكية القديمة العظيمة والعديدة مثل الاهرام والمعابد الجنائزية والمدافن على الشاطئ الغربي لنهر النيل بمدينة الأقصر. لذلك نرى ان ظاهرة تقديس الافراد وخصوصاً الحكام ليست بالغريبة عن المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً وهي حالة اعتيادية بالنسبة للشرقيين. حيث لم يقتصر التقديس على الحكام والقادة الذين عرفوا بالدكتاتورية والتسلط، ولكنها تشمل قطاعات وفئات مجتمعية مختلفة ومتعددة الأنماط والأفكار ويدخل في هذا السياق العام الزعماء والقادة السياسيين والمثقفين ورجال الدين وغيرهم. والذي أعاد انتاج وصناعة هذه الظاهرة المرضية في العصر الحديث هم الاتباع والانصار الموالين والتابعين لتلك الجماعات والفئات واصبغوا عليها هالة من القداسة والعبادة ورفضوا النقد والنقد الذاتي وصار هؤلاء الأتباع يرفضون بأن توجه لهم الانتقادات أو الملاحظات حتى على أخطائهم الفادحة والخطيرة، وقد يقومون بقتل من يتجرأ على توجيه مثل هذه الانتقادات. واصحاب هذا التعصب الاعمى لا يدركون أن النقد الهادف والبناء أداة تساعد على تصحيح أخطاء المُنتقد إن كانت له أخطاء، وهذا لا يغض من مقامه أصلاً، وقد آن الأوان أن يفهم الجميع، خصوصاً الشباب أن لا أحد فوق النقد مهما كان، فبميزان النقد يمكن تقويم الخلل والخطأ. والمشكلة هي ان هؤلاء يعتبرون أنفسهم فوق المساءلة وفوق الشبهات واحياناً فوق القانون، وبالتالي فأنهم من يحيطون أنفسهم بهالة مقدسة يمارسون من خلالها ما يشاءون سواء كانت أفعالهم صواباً أم خطأ. أن المبالغة في رفع شأن مثل هذه الشخصيات له جانب آخر ينعكس بالسلب عليها فأننا حين نرفع هؤلاء الى عنان السماء ونجعل منهم رموزاً مقدسة نثير حفيظة الآخرين عليهم، فيدفعهم هذا إلى محاولة الحط من قدرهم؛ فأنت أنشأت جبهات معادية لمن أغدقت عليهم المدح ومنحتهم عظيم الصفات.
ان أي مجتمع يبالغ في تعظيم الافراد وحصر فهم الحقيقة ببضعة من الافراد صار لهم لسبب وآخر نصيب من التميز والشهرة يعلن انه مجتمع يحكم على نفسه بالجمود وعدم الخروج نحو آفاق جديدة حيث يحقق المجتمع البشري الاوسع خطوات كبيرة نحو التقدم لأن تقديس الأشخاص مصنعاً لإنتاج وتوزيع الجهل والتخلف وتعطيل مسيرة الحياة الطبيعية. كذلك المجتمع الذي يبالغ في تعظيم فرد او افراد ويحصر فهم الحقيقة بهم وحدهم بسبب ما لهم من شهرة او تميز فأنه بذلك يعلن تجاهله لحقيقة ان العظمة والأبداع والمعرفة الإنسانية هي عملية تراكمية بدأت منذ ان وجد الانسان على هذه الأرض وان نموها مستمر وان هذا التراكم المعرفي يجعل من اللاحقين أقدر على الإنجاز والإبداع، والتقدم الهائل في عصرنا الحالي خير دليل على ذلك. وبهذا الجهل للطبيعة البشرية وتجاهل حقائق التاريخ والواقع يحكم المجتمع على نفسه بالتخلف. ونبرع نحن في تقديس الأشخاص ورفع هالات القداسة حولهم جاعلين منهم رموزاً وطنية، سواء كانوا من شخصيات دينية او سياسية او اجتماعية ونجعل من نقدهم بقول او فعل من أكبر الكبائر، أن المجتمعات البشرية حين سلمت أمرها وأرادتها لشخص واحد يفعل بها ما يشاء، يتناقض مع أسس الدولة المدنية القائمة على العدل والمساواة والتعددية الديمقراطية، حيث أن معايير الدولة المدنية لا مكان فيها لتقديس فرد أو جماعة، فهي أرادة المجتمع لنظام مدني يضمن الحريات ويقبل التعددية وقبول الآخر، وقيامها على اعتبار المواطنة أساساً في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين فيها، والتزامها بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
إن تعظيم الافراد وحصر الحقيقة فيما يقولون ويكتبون من أسباب تخلف الامة وواحدة من الطرق المؤدية إلى السقوط "لأن أصالة النقص البشري أرسخ من احتكار المعرفة المطلقة التي تنتج عن تقديس الأشخاص مهما كانت مستوياتهم العلمية والفكرية "، كما إن المبالغة في تعظيم المتميزين من الأشخاص هي أغزر منابع الجهل والظلم وتفسد الاذواق وتخرب قدرات التقييم وتحيل الناس إلى إمعات مأسورين لأقوال فرد او بضعة افراد ممن كان لهم حظ من الذيوع والشهرة او المكانة الاجتماعية او السياسية. ومن تجارب الأمم التي كانت متمسكة بعقيدة الفرد الواحد، القائد الملهم، العالم المبجل، وهذه ثقافة خطيرة أدت الى تخلف أوربا لقرون من الظلامية والتخبط وأدت في دول العالم الثالث الى الشقاء والحروب والخراب وأصابتها بالأمراض الاجتماعية الخطيرة التي توطنت في تربتها ولم تستطع منها فكاكاً إلى اليوم، حيث إن تاريخ العلوم وواقع المجتمعات وسجل الحضارة كلها تشهد بأن تقديس الأشخاص يوقف نمو المعرفة ويعرقل ازدهار المجتمعات ويعطل مسيرة الحضارة وقد أثبتت التجارب الإنسانية الظافرة بأن الانعتاق من تقديس الأشخاص يأتي في مقدمة الشروط الأساسية للنمو والتقدم في كافة المجالات. ومن الملاحظ ان المجتمعات التي تنتشر فيها ظاهرة التقديس، يغيب عنها ما يعرف بـ (القيم الكمّية) التي تقبل القياس، كالحريات المتوافرة ونسب التعليم والوضع الصحي، والنمو الاقتصادي... ويحل محلها (القيم النوعية) غير القابلة للقياس، كالمصير والمجد والكرامة والتحدي ... ولأنها غير قابلة للقياس، فإنها تبدو قابلة لتصنيع واستثمار كاذبين ومتواصلين من أصحاب الشأن والمصلحة.
يتلازم تقديس وتأليه الفرد ووضعه في مكانة تخرجه عن الطبيعة البشرية، مع الجهل والظلم والتخلف، الامر الذي يخنق عقل المجتمع ويلغي فردية الانسان ويوقف حركة التاريخ " ويعطل مسيرة الحضارة فمع استمرار جهل المجتمع بما له وما عليه يحصل الظلم ومع الظلم تسوء الاخلاق وتضيع القيم وتتدهور الضمائر" ويتفاقم الجهل، وباجتماع الظلم والجهل وسوء الاخلاق وفساد الضمائر تسود الانانية وتغليب المصلحة الشخصية ويتوطد التخلف، انها شبكة من الآفات والمعوقات تغذي بعضها البعض ومنها تتوالد عناصر الانحطاط " وتترسخ أركان الإفلاس الحضاري وتنغلق العقول على مفاهيم محددة ويشتد التعصب ويسود اجترار الماضي ويختفي الابداع بسبب خوف الناس من أي أفكار جديدة يحتمون بما ألفوه ويبالغون في تعظيم الأشخاص وتقديسهم .
في المجتمعات الحديثة المتقدمة لا مكان لتقديس الأشخاص مهما علت مكانتهم أو شهرتهم. لقد تغير العالم كثيراً، انتهت ثقافة تأليه الملوك والحكام كما في العصور الغابرة، مقياس المجتمعات الحديثة هو العمل والابداع والانجاز، لذلك تسير هذه المجتمعات بخطى حثيثة نحو آفاق جديدة، وهي تفاجئنا كل يوم بالاكتشافات والمخترعات التي سهلت حياة البشر، ولم يعد أحد يلتفت الى الاساطير والقوى الخارقة للفرد إلا في المجتمعات المتخلفة التي لازالت تعيش اوهامها وأساطيرها الخاصة التي حولتها الى مجتمعات منغلقة تشعر بالفزع والخوف من الانفتاح على العالم. أنها مجتمعات ميتة لا محالة.
3243 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع