خالد القشطيني
من التراث الفولكلوري السياسي
مما ذكره شكسبير في مسرحية «يوليوس قيصر» أن حسنات الإنسان تُدفن معه ولكن سيئاته تظل تذكر بعد موته. هذا ما قيل عن يوليوس قيصر، ولكن هذا القول الحكيم لم ينطبق على الزعيم العراقي نوري السعيد. فطوال حياته ظل الناس يهاجمونه ويذكرون سيئاته، ولكنه بعد موته أخذوا يذكرون أفضاله. حيثما تذهب في هذه الأيام تسمع الناس يروون الكثير من مآثره.
كان في 1948 قد سلم إدارة البلاد لصالح جبر الذي قدر له أن يتحمل مسؤولية المفاوضات مع بريطانيا بشأن تجديد المعاهدة العراقية البريطانية. غير أن العراقيين لم يرتاحوا لهذه المعاهدة وتفاقمت المعارضة ضدها. ثم تدفقت الجماهير في مظاهرات صاخبة تهتف بإلغائها وبسقوط الحكومة التي أبرمتها. وكما نتوقع، أوحت بالكثير من الهوسات (الأهازيج) والهتافات والأشعار. كان صالح بحر العلوم من الشخصيات الأدبية التي راحت تطوف بين المتظاهرين، كنا نحمله راكباً على أكتافنا وهو ينشد مخاطباً صالح جبر:
بعهد بورتسموث قد جاوزت حدك يا شقي
أحرقت بغداد وعمان ولم تحترق
أما المتظاهرون فقد راحوا على طريقتهم ينسجون الهوسات الشعبية وكان منها هوسة شاعت بسخريتها وشتيمتها!
جرت مصادمات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين فيما عرف بعد ذلك باسم «الوثبة». اضطر الوصي على العرش للتدخل وإقالة رئيس الوزراء صالح جبر. كانت فرحة عارمة عبر عنها الجواهري بقصيدة يثني فيها على موقف وحكمة البلاط:
حف بالتاج بنوه فتعالى
وتعالى صاحب التاج جلالا
وتعالت أمة لم تنحرف
عن مدى الحق ولا زاغت ضلالا
ماتت وقبرت المعاهدة ولكن هوساتها الشعبية ظلت عالقة في الأذهان كجزء من التراث الفولكلوري السياسي للعراقيين. كانت كلمات الهوسات تؤكد أن نوري السعيد كان الحاكم الفعلي ولم يكن صالح جبر غير صنيعة بيده. راح القوم صغاراً وكباراً يرددون تلك الكلمات.
اعتاد الشيخ فرحان العرس، على إقامة حفلات دورية في بيته. كان من بينهم نوري السعيد. سمع طفل صغير من أحفاد فرحان العرس بأن نوري السعيد المذكور في الأهزوجة كان بين الحاضرين. فهزه الموقف. وببراءة الأطفال راح ينشد تلك الكلمات.
فمسكه نوري السعيد وقال له: قل لي من هو نوري السعيد القندرة هذا؟ فارتبك الطفل وحاول الهروب ولكن نوري السعيد شدد القبض عليه: قل لنا من هو القندرة؟ أدرك الطفل حراجة الموقف وكاد ينفجر بالبكاء، غير أن جده الشيخ فرحان، النائب في البرلمان العراقي، شجعه وقال له: لا تخف. قل من هو القندرة. مد الصبي إصبعه الصغير وهو يرتجف، مده في وجه الزعيم العراقي وقال: «أنت!»، فضمه نوري السعيد إلى صدره واحتضنه ضاحكاً.
وضج الحاضرون بالضحك والتصفيق للطفل الصغير الذي نطق في الواقع بما كان في ضمائر الشعب العراقي.
777 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع