مسألة الوحي والإلهام

                                             

                        القس لوسيان جميل

مسألة الوحي والإلهام

ان مسألة الوحي والإلهام من المسائل المهمة في اللاهوت المسيحي، واعتقد في اللاهوت غير المسيحي ايضا. لماذا؟ لأن اللاهوت علم، وهو بصفته معرفة انسانية تعود اولا الى اثبات العقل ولا تكتفي بقرارات سلطوية: قرار الدين او قرار المجتمع او قرار الكنيسة او وخاصة قرار الكتب الدينية المقدسة. علما بأن قرار الكتب المقدسة غير كاف لأن كتبنا المقدسة تحتاج هي نفسها الى تفسير وفهم علمي، او على الأقل الى فهم يقول لنا بأن ظاهر الكتب المقدسة ليس كمعناها الباطني الحقيقي. ( بحسب اية نظرة بنيوية علمية ). وان الكتب المقدسة، ولاسيما العهد القديم والجديد كثيرا ما يتبعان اساليب كتابة قصصية يكون فيها ظاهر القصة دليلا على معناها الحقيقي الباطني. اما هذا القول فليس من اكتشافنا الخاص لكنه معروف منذ اكثر من مئة سنة حيث قال علماء الكتاب المقدس بأن الكتب المقدسة مؤلفة بحسب قصص دينية قيل عنها انها شبيهة بالتاريخ Para Historiques وليست من التاريخ بشيء. وقيل ايضا، وبالمعنى ذاته ان الكتب المقدسة مكتوبة بأسلوب انشائي تعليمي وقصصي معبر Genre littéraire. 

هذا، ويقال ايضا ان لجوء مفسرو الكتاب المقدس الى هذه الفتوى العلمية الشرعية كان تفاديا للتصادم مع السلفية التي كانت تعد الكتاب المقدس بتمامه وكماله وحرفه ومعناه من وحي والهام الهي.على اساس ان الكتاب المقدس كلام الله ولا يمكن تبديل كلام الله. اما مفسرو الكتاب المقدس فقد كانوا قد اصطدموا بحقيقة اخرى اكيدة ظهرت بجلاء في سفر التكوين،وهي حقيقة ان هذا السفر يتناقض تناقضا صارخا مع العلم، الأمر الذي جعلهم يتبنون حقيقة التمييز العلمية بين التاريخ وبين القصص الدينية التعليمية التي جاء بها سفر التكوين، لا بل جاءت بها كل اسفار العهد القديم والجديد.
هذا، وعلى الرغم من ان مقولة التمييز بين التاريخ وشبه التاريخ هي مقولة وشاملة الا اننا نضيف ايضا مقولة اخرى مهمة جدا، وان كانت غير بعيدة عن مقولة وجود الأساليب الانشائية المختلفة في الكتب المقدسة، الا وهي مقولة التمييز في الكتب المقدسة بين رؤية كتاب الكتب المقدسة الحضارية والشخصية، هذه الرؤى التي كانت بعيدة كل البعد عن رؤى العلوم المعاصرة. الأمر الذي لا ينفي ان يكون ما كتبوه مفيدا للإيمان في تلك الأزمنة، على الرغم من بعده عن الحقيقة او الحقائق العلمية. فالكتاب يريدون ان يكلموننا عما يشعرون به عن الاله وعن يسوع في العهد الجديد، ولذلك كانت لهم تواريخهم الخاصة بهم والتي كانوا يعتقدون انها تواريخ مصنوعة من اجل الايمان وليس من اجل البشر، حتى ليمكننا ان نقول تبشير عن الله وعن الانسان بحسب تاريخ كاتب سفر التكوين وتبشير آخر بحسب تاريخ من نوع آخر، ولكنه خاص بكاتب انجيل يوحنا مثلا او خاص بكاتب انجيل متى او انجيل مرقس او انجيل لوقا او غير ذلك من الكتب المقدسة وغير المقدسة Profanes ايضا. او تبشير كنيسة الدياميس للشعب الروماني خاصة بحسب تاريخ جديد هو تاريخ يسوع والرسل الأوائل. ثم تبشير العالم المسيحي الروماني وما يحيط به بحسب رؤيا الكنيسة الثيوقراطية القسطنطينية وتاريخها الخاص بها. علما بأن ما كان يجمع جميع هذه الرؤى والتواريخ هو ليس فقط وجود الاله السماوي حسب، ولكن ايضا اعتقاد الجميع ولاسيما على اثر رؤيا العهد القديم بان هذا الاله السماوي وان كان غائبا، فهو يقود التاريخ البشري ويسيره كما يسير عناصر الكون وما موجود على الأرض بحسب مقاصده الخاصة. كما كانوا يعتقدون ان هذا الاله السماوي يفضي ببعض اسراره لجماعات مختارة من البشر يسمونهم انبياء. اما الطريقة التي كان الاله السماوي يعطي اسراره وتعاليمه لبعض البشر فكانت تختلف من زمن الى آخر، ومن ذلك الطريق المباشر مع موسى وإبراهيم ومع يسوع مثلا، والطريق غير المباشر: اي عن طريق ما يسمى الوحي والإلهام.
غير ان الحقيقة هي ان كل ما يتعلق بالمعارف التي كان تأتي بعض الناس يقولون ان اتتهم من الاله السماوي، لم تكن قد اتتهم من الاله السماوي، لكنها كانت قد اتتهم من الاله الرمز الأنثروبولوجي المقدس بعيون الناس لكنهم يجيب الى حاجة انسانية انثروبولوجية مطلقة، وكأن الاله السماوي يصير واحدا من بني البشر ويتكلم معهم. اما قصة حوار الله مع ابراهيم وقصة دعوة موسى النبي لتحرير شعبه وقصة البشارة في انجيل لوقا فكلها ليست تاريخا وانما هي قصص دينية تضع الله في لب القصة وكأنه يتكلم مع البشر او كانه واحد منهم في ظاهرة تسمى المشابهة Anthropomorphisme ثم يقال للناس ان الله السماوي تكلم مع ابراهيم ومع موسى ويقال كلاما مماثلا عن يسوع لأن الملاك الذي بشر مريم في انجيل لوقا كان يمثل الله. فما يسمى ظهور الله بين البشر Théophanie ليس حقيقة مطلقة لكن البشر بحسب ظاهرة المشابهة يقولون ان الله السماوي ظهر لأنبيائهم. اما بعد ذلك فان لاهوتيي كل حقبة حضارية وروحية كنسية يتولون امر التعامل مع هذا الاله الانساني – السماوي المفترض وينسبون كل صعيرة وكبيرة الى هذا الاله. ولهذا نسمع في العهد القديم خاصة كلاما مثل هذا: وقال الله لموسى . ثم تأتي الكنيسة وتجعل من هذا الكلام القصصي الأصل عقيدة لا يجوز انكارها باسم الايمان. ولكن عجبي! كيف نفهم تناحر اللاهوتيين اي تناحر الأساقفة فيما بينهم بخصوص طبيعة يسوع؟ وهنا يجب ان ننهي هذه الورقة بملاحظة جدا مهمة تبين كيف ان الكنيسة، وعن طريق لاهوتي وفلسفي قديم ابتدعت حقائق ايمانية غريبة باستخدام قاعدة منطقية مبهمة تسمى المعرفة عن طريق الاستنتاج Déduction فصنعت لنا الكنيسة عقيدة الله الثالوث وعقيدة التجسد وعقيدة الفداء المشهورة بروحها الاسطورية واستخدمت قصة آدم وحواء لهذا الشأن وجعلت من يسوع ابن الله المتجسد كل ذلك لملء بعض الثغرات المنطقية لحقائق كانت تحتاجها الكنيسة لغايات متعددة درسها مفسروا الكتاب المقدس ومنها غايات اجتماعية وأيضا هناك غاية مهمة جدا وهي غاية ان تكون كلمة الكنيسة مسموعة وبشارتها مقبولة على علاتها. الأمر الذي جعل رؤساء الكنائس يتجاسرون ويقلبون كل شيء انساني في يسوع وفي رسالته العظيمة الى حقيقة روحية غيبية سماوية ينسي الله السماوي حقيقة كل شيء عظيم انقلابي ويجعل منه شيئا جامدا لا يصلح سوى للعبادة وللتذرع فقط، وليس للمطالبة بأية حقوق مهما كانت عظيمة ومقدسة.

                  

                  مسألة الوحي والإلهام ثانية

قرائي الأعزاء! ان مسألة الوحي والإلهام هي مسألة اخرى، او بالأحرى مشكلة اخرى يجب ان تخرج من خانة مشيئة الرؤساء المسيحيين وتدخل خانة الفلسفة او بالأحرى الى خانة علوم الانسان. علما بأن هذا الخروج لا يأتي من مشيئة اخرى معادية للكنيسة، كما حدث ذلك في السابق، ولاسيما في كنيسة الغرب، وانما يأتي من جهات مؤمنة بعمق برسالة يسوع التجديدية الانقلابية الجدلية وبقدسية هذه الرسالة بسبب اهميتها المطلقة الحضارية الأنثروبولوجية للبشر، وكونها كانت ضرورة حضارية – انسانية مطلقة للبشر في فترة حضارية معينة ومكان معين. اما اذا ما وجدنا في ظروفنا الحضارية الخاصة شيئا من النقد لرجال الكنيسة وحتى لروما، فذلك لا يأتي بسبب قلة احترامنا لرجال الكنيسة، ولا يأتي لأغراض سياسية، بل يأتي هذا النقد، وان كان شديدا في بعض الأحيان، من اجل اشعار رجال الكنيسة هؤلاء بأنهم يسيرون بالضد من حقيقة الايمان التي يستغلونها لمصلحتهم وامتيازاتهم. او تأتي بسبب عقليتهم المعقدة ببعض العقد، كما كان حال البابا القديس يوحنا بولس الثاني، الذي كان يعادي التغيير في الكنيسة، بسبب عقدة الشيوعية عنده، لأنه كان ينتمي الى بولونيا التي كانت قاسية على المسيحية في زمانه. ومن هنا نرى ان عقدة يوحنا بولس الثاني هذه لم تكن تتنافى مع قداسته، الا بمقدار. 

اسباب الاختلاف والتبشير الجديد: بالحقيقة ان التبشير الجديد، ليس حالة شاذة تظهر لأول مرة في عالمنا المسيحي. كما ان هذا التبشير ليس نزوة معارضة للكنيسة ولرجالها، ولا هو تبشير بأمور جديدة خاطئة، كما يقول بعض مسئولي الكنيسة السلفيين بشكل تعسفي حاقد ومرتعد، خوفا على مصالحه وامتيازاته. لكننا نجد مثل هذا التبشير في جميع حقب المراحل الحضارية الانتقالية انتقالا جدليا.
في زمن يسوع: فقد حدث التبشير الجديد في زمن يسوع نفسه، حتى انه صلب جراء تبشيره ذاك، وان كانت الكنيسة لا تريد ان تعترف بالخلاص الحضاري الذي حققه يسوع، وذهبت مذهبا آخر اسطوري وغيبي يقول: ان يسوع مات على الصليب تكفيرا عن الخطيئة الأصلية، هذه الخطيئة التي لا توجد الا في العهد القديم. كما ان الكنيسة تحاول التهرب من حقيقة يسوع الانسانية عن طريق تأليه يسوع نفسه، وقبل ذلك عن طريق تبني فكرة العهد القديم وما قبل ذلك العهد، بجعل الله كائنا غيبيا في سمائه غير المنظورة وغير المعروفة، مما سبب ان ينفرد رجال الدين المسيحيين الذين لا نتكلم عن غيرهم هنا، لأسباب معروفة، ويتكلموا عن الله وعن طبيعته وعن علاقته بالعالم كلاما مؤدلجا كانت الغاية منه تدجين الشعب المسيحي وإبقائه تحت سيطرة الاكليروس الى ابد الآبدين، وذلك بناء على قناعة منهم انه لن يكون هناك من يستطيع ان يناقش طروحات رجال الدين الغيبية اولئك، بشكل مطلق، ولن يستطيع احد بالتالي ان يفند ادعاءاتهم، ولاسيما ان رجال الدين يلجئون باستمرار الى براهين موغلة في الغيبية القادمة باسم الاله الغيبي، وباسم يسوع الذي لم يدع فيه رجال الدين كثيرا من سمات بشريته الحقيقية. كما ان رجال الدين هؤلاء، ومن يتبعهم ويخضع لمنطقهم الغيبي، لا تنقصهم وسائل التضليل السفسطائية المبهمة المدعومة بالسلطة الالهية.
لماذا نقول بما جاء اعلاه؟ وإذن نحن بقولنا فيما جاء اعلاه لا نفتري على احد ولا نحاول ان نتنكر لأصحاب السلطة الكنسية المزعومة والتي في الواقع هي سلطة جمع وتعليم وليست سلطة قيادة تعسفية، كما يمارسها رجال الدين الكبار وحتى الصغار منهم، وصولا حتى درجة الشماس الكنسية، المختصة فقط بأداء الطقوس الكنسية بكفاءة مزعومة احيانا كثيرة، فهؤلاء نرى اكثرهم لا يبالون غير بالطقوس التي تمكنوا منها وصاروا قادرين على البروز من خلال معرفتهم بالطقوس، ومن خلال صوتهم الرجراج، كما تقول المزحة، وان يسميهم الناس " شماس " كما يسمى القسس بمصطلح " رابي ".
من يدفع المجددين الى المعارضة: فمن يدفع المجددين الى معارضة سلفية كثير من رجال الدين التقليديين فهو ايمانهم الذي يلهمه الواقع الانساني الحضاري الانقلابي المتجدد، والذي لم يعد يقبل بالانحراف الفكري الذي قادته الكنيسة المؤسسة، التي قلبت من خلاله جميع امورنا الانسانية المهمة لحياتنا في عالمنا الانساني الى امور الهية غيبية لا تخدم سوى الكنيسة المؤسسة التي من خلال تأليه كل امورنا الانسانية، ومنها تأليه يسوع استطاعت ان تنشأ فكرا دينيا تتلاعب به اهواء المؤسسة الكنسية، بسبب غموضه، بحسب حاجاتها وامتيازاتها السلفية، دون ان يستطيع احد ان يناقشها فيما تذهب اليه، لأن اية مناقشة في قضايا الالهيات هي كمن يسعى لعد نجوم السماء او الحرم في ماء البحر,
وعليه، فإننا لا نتعجب ان تٌعد المؤسسة السلفية اية مناقشة في المسائل الغيبية الايمانية كفرا وزندقة، او تعدها في احسن الأحوال افكارا غير مفهومة وغريبة، لا بل منحرفة عن الايمان الصحيح، او ما تراه هي الايمان الصحيح. كما تؤمن السلفية بحصول ما هو ضد العقل بقدرة الله. غير اننا هنا لا نذكر الأمور التي تؤمن بها السلفية على الرغم من انها كثيرة جدا، نجد جلها فيما يسمى قانون الايمان، هذا القانون الصادر عن رؤى فلسفية بائدة، مما جعل اغلب بنود هذا القانون متناقضا مع العقل البشري.
الجدير بالذكر هنا: فالجدير بالذكر هنا، اننا لا نتكلم عن علمية طرحنا التي يبدو ان السلفية رأت لها منفذا لتجاهله هذه العلمية بشكل سفسطائي او محاربتها بشكل غوغائي، لكي لا تعترف بقصور لاهوتها السلفي بمنهجيته القديمة البعيدة عن العلم والمتناقضة احيانا كثيرة معه حتى النخاع. علما اننا هنا نؤكد على تناقض الخيارات اللاهوتية العائدة الى السلفية مع الواقع الانساني المادي والروحي، حيث ان الواقع، او الكتلة ( المادة ) لا تفنى ولا تستحدث، وانما يمكن ان تتغير من حالة الى اخرى، كما يقول لافوازيه. اما بالنسبة للسلفية ذات الفكر الاسطوري، فيمكن للمادة ان تفنى او ان تستحدث قوانينها. غير ان هذه السلفية عندما تجابه ببراهين تفحمها وتسخفها حينئذ تلجأ الى اسلوب الايمان التعسفي، كما تلجأ الى نصوص الكتاب المقدس والى عصمة العقيدة، هذه النصوص التي اذا قُرئت قراءة علمية رافضة لأي تناقض مع العقل، فان هذه النصوص لا تكون مع السلفية بل ضدها تماما، وبالتالي لا يكون المجددون على ضلال، بل خصومهم السلفيون.
التاريخ وشبه التاريخ: وعليه فإننا اذا قرأنا النصوص الكتابية وغير الكتابية قراءة موضوعية حقيقية غير مؤدلجة، سنكتشف حتما ان ما نقرؤه ليس فيه اية سمة من سمات التاريخ الحقيقي الأرشيفي، وحتى التاريخ الشعبي المتناقل بين الناس احيانا ممكن ان يكون فيه شيء من الحقيقة التاريخية. وهكذا، وبحسنا الواقعي الرافض للغيبية الالهية، والرافض لتحويل القصة الدينية شبه التاريخية الى تاريخ سنميز بسهولة بين ما هو شبه تاريخ Para histoire اي قصة دينية مؤلفة لغاية تربوية وبين ما هو تاريخ حقيقي، علينا ان نتعامل معه بحسب طبيعته هذه. وهنا لنأخذ على سبيل المثال، مسلسل تلفزيوني او قصة مسرحية او رواية مكتوبة بأسلوب خاص بالروايات، سنعرف مقدما ان جميع الشخصيات التي سنجدها في الرواية او القصة هي شخصيات ممثلين يمثلون فكرة معينة ( معنى ) يضعها الكاتب ويكمل المخرج اخراجها اخراجا تلفزيونيا او مسرحيا. فهل يحق لنا ان نعاتب الممثل الفلاني او الفلاني ونقول له انك مجرم او انك بخيل او لئيم، لأنك قمت بالعمل الشرير الفلاني؟ وهل يمكننا ان نقول لممثل آخر انك رجل فاضل، بناء على انه اخذ دور الرجل الصالح؟ بالطبع لا نستطيع ان نذم شخص الممثل ونعاتبه على الشر الذي مثله او على الخير الذي قام بتمثيله. فالممثل بالحقيقة هو ممثل فقط، وهو يمثل غالبا شخصية افتراضية غير موجودة غالبا، او انها شخصية كانت موجودة وقد توفيت من زمن بعيد.
ما يمكننا ان نحكم عليه: وعليه فان ما يهمنا بالدرجة الأولى من التمثيل، فهو المعنى الأساسي الذي ينتج عن مجمل الأحداث غير التاريخية التي يؤديها الممثلون. فالممثلون يعرضون لنا نماذج من اخلاق ومن مواقف غير تاريخية لكن يمكن ان يحدث ما يماثلها في اي زمان ومكان. ففي الفلسفة الرومانسية التي نعرضها بشكل غير مباشر، نجد البحث عن حقيقة الانسان عن طريق المشاعر التي لا يظهرها التاريخ الحقيقي، ولكن يظهرها التاريخ كما تفترضه القصة الروائية بكل احداثها الظاهرية والمستترة الباطنية.
وعليه، وعلى ضوء هذا التاريخ الذي لا يستند الى ارشيف مادي، بل على ارشيف عام للمشاعر الانسانية، كما تظهر من خلال تعقبنا لمواقف الانسان الذاتية الباطنية Subjectives. و اذن، وعلى ضوء هذا التاريخ الانساني يمكننا ان نعرف حقيقة علاقة الله وعلاقة يسوع بنا نحن البشر. فنعرف ما يعمله الله لنا وما لا يعمله، وما حققه يسوع لنا وما لم يحققه هو بنفسه، كما نميز حقيقة يسوع كما تأتي على لسان الناطقين باسمه، فضلا عن اننا سنميز بين الكلام الصحيح الذي ينسب الى يسوع من خلال تحليل علمي انساني، وبين الكلام المزيف الذي يعطي ليسوع صفات لم يكن يسوع يقبل ان تكون فيه. كما سنعرف السبب الحقيقي الذي مات يسوع من اجله، ونعرف طبيعة رسالة يسوع الحقيقية، وحقيقة الصليب المقدس، كما سنعرف مفاعيل موت يسوع الحقيقية. هذا، وعلى العموم سنعرف الفارق بين اساطير السلفيين وبين حقيقة حياة يسوع الانسانية العالية القيمة وقدسية تلك الحياة.
بناء على ما جاء اعلاه: واذن، وبناء على ما جاء اعلاه نقول: اننا نستطيع بمنهجيتنا المطهرة من الأساطير Purifiée des mythes ان نعرف بسهولة اين يكمن ضعف السلفية القديمة واين تكمن خطيئة السلفية المعاصرة والحديثة، بحيث نستطيع ايضا ان نعرف صواب المنهج التغييري وصواب المطالبة بالنبذ التدريجي والمدروس لمنهج السلفية الجامد Statique، شرط ان يمس الاصلاح المبادئ وبنى العقائد ولا يكتفي بإصلاح ظاهري يحول المعاني الأساسية الى تطبيقات انسانية مقطوعة من جذورها الايمانية، او يحولها الى مواعظ اخلاقية بعيدة عن الايمان المسيحي، لآن مثل هذه المواعظ غالبا ما تنتمي الى منهجية شريعانية شبيهة بمنهجية العهد القديم الشريعانية.
والآن الى بيت القصيد: اما الكلام عن بيت القصيد هذا، اي عن العنوان الذي يطلب الكلام عن " الوحي والإلهام " يلزمنا ان نقول بداية: بما ان مفردتا الوحي والإلهام تنتميان الى المنجية السلفية التي تضع الله السماوي كمحرك لحياة البشر بكل تفاصيلها، وبما ان السلفية تقول ان الله هو الذي بادر وعرف نفسه عن طريق انبيائه لعالم العهد القديم اولا ثم لعالم العهد الجديد عن طريق يسوع خاصة ( يوحنا )، فهذا يعني ان السلفية هي التي ابتكرت مقولات الوحي والإلهام، من اجل شرح كيفية اتصال الله بالعالم وكيفية ادارة خططه في تدبير العالم، يحث يكون ذلك عن طريق الوحي المسمى بالإلهي. وبحسب الفكر السلفي تقول السلفية ان الله لا يكتفي بتوجيه اخلاق وسلوك البشر عن طريق الوحي، لكنه يلهم بعض الناس عند كتابتهم الكتب المقدسة التي تحكي للبشر قصة الله معهم. وتحفظ هذه القصة في كتب سميت بالكتب المقدسة الملهمة من الله.
الاله السماوي والوحي والإلهام: ولكن هل ان الاله السماوي هو الموحي والملهم للحقائق الالهية وللكتب المسماة بالسماوية وبالمقدسة؟ هنا تكمن كل المشكلة. فالسلفية تقول لنا وتصر على ما تقوله وتطلب الايمان به، من دون ان يكون لها دليل واحد على ما تقول، لأننا نستطيع ان نفند بسهولة كل ادلتها.
الحقيقة عندنا وليس عند السلفية: اما المجددون فلا يؤمنون بما تؤمن به السلفية الفارغة. فمن وجهة نظر المجددين ومن وجهة نظر فكرهم المعاصر وعلومهم التي تضطرهم الى تصديقها اكثر من السلفية، لا يمكن ان يكون الاله السماوي هو الذي يتصل بالعالم ويسير البشر بوصاياه وبشرائعه، لكن من يسير البشر باتجاه التجديد الحضاري والروحي هو رمز انثروبولوجي ونفسي مقدس، وهو احد الأبعاد المهمة العائد الى الحياة المعرفية عند الانسان، كشخص وكجماعة ايضا.اما مهمة هذا الرمز المقدس، فهي ان تبصر الانسان بقيمته وبحقوقه لكي يستطيع هذا الانسان، مع نظرائه، ان يحققوا ما دلهم عليه رمزهم المقدس من مطالب وحقوق وكرامة لا يمكن الاستغناء عنها.
زوال قيمة الوحي والإلهام: وعليه فان قيمة اللاهوت الذي يتكلم عن الوحي والإلهام القادم من عند الله السماوي قد زالت او هي في طريقها الى الزوال، بفعل الحضارة الجديدة، سواء جاء الوحي والإلهام عن طريق الأنبياء، ام جاء عن طريق الكتاب المقدس. فالله السماوي بالحقيقة لا يوحي بشيء ( اوحي يعني بالسريانية اظهر - من فعل حاوي ). اما الالهام فهو يتضمن عين المعنى الذي نجده في كلمة اوحى ولكن هذا الوحي يخص الكتبة المقدسين فقط، كما ذكرنا اعلاه. وعليه، وبناء على ما جاء اعلاه لم يعد بمستطاع احد ان يستخدم كلمة الوحي والإلهام لكي يبرهن من خلالهما على ان ما يقوله الكتاب المقدس موحى من اله سماوي، حتى وان وجدنا في الكتاب المقدس وفي العقائد نفسها كثيرا من الحقائق الايجابية التي نصل اليها من خلال قراءة مختلفة كليا عن القراءة الحرفية السلفية.

ملحوظة: ان ما اكتبته هنا، وما قد كتبته في اوراق سابقة، وما سأكتبه في اوراق لاحقة موجه خاصة للمسيحيين. وليس لغيرهم. غير ان هذا الكلام لا يعني انه لا يحق لغير المسيحي اذا شاء ان يستعين بهذه الاوراق وبما فيها من تحليل علمي، لفهم بعض الأمور الغامضة في الأديان .
2018

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4374 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع