د. محمد عيّاش الكبيسي
السنّة هم وجه العراق الحضاري والسياسي، فهم الذين فتحوه وهم الذين حكموه وهم الذين بنوا مدنه الكبرى كبغداد والبصرة والكوفة وسامراء وواسط، وشيعة العراق لا ينكرون هذه الحقيقة خاصة عندما يتحدثون عن مظلوميتهم التاريخية. يقول النائب الصدري بهاء الأعرجي: «المؤامرة من يوم أبي بكر إلى حزب أحمد حسن البكر»، وهذا اعتراف -رغم ما فيه من وقاحة بحق الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه- بأن العراق كان سنيّا طيلة هذا التاريخ منذ أن دخلته جيوش أبي بكر إلى الغزو الأميركي للعراق.
عدم مشاركة الشيعة في الحكم لم يكن بسبب إقصاء السنّة لهم، فهذه مجرد دعاية سياسية معاصرة فيها قدر من التضليل والابتزاز، بل كان ذلك جزءا من ثوابتهم الدينية، حيث تنص عقيدتهم على أن لا إمامة إلا بالنص، ولا نصّ إلا في اثني عشر إماما آخرهم المهدي، وهو عندهم حي يرزق، وقد اختفى لأسباب معيّنة، والواجب في عقيدتهم العمل على إزالة هذه الأسباب، وليس تولية البديل مهما كان هذا البديل.
جاء الخميني بنظريته التجديدية «ولاية الفقيه» ليفتح المجال لشيعته لتولي الحكم، وقد استند إلى مقدّمات أغلبها يدور حول جواز نيابة الفقيه المجتهد عن الإمام المعصوم، وقد استدل على هذا بحديث (العلماء ورثة الأنبياء). وبغض الطرف عن التفاصيل فإن نظرية الخميني هذه تعدّ اعترافا بفشل النظرية الشيعية في الحكم ورجوعا إلى النظرية السنّية، فمبدأ النيابة عن المعصوم لا يختلف في جوهره عن مبدأ الخلافة، ولذلك تعرضت نظرية الخميني هذه للنقد الحاد من أغلب المراجع والمفكرين الشيعة.
للخميني أن يفكر ويجتهد، لكن الذي يثير الشك والقلق حقيقة أن نظرية الخميني هذه لم تعد نظرية علمية اجتهادية كباقي النظريات، بل تحولت بسرعة إلى مشروع فعّال، وفتحت أمامها الأبواب لتتحكم في أكبر وأهم بلدين في المنطقة (إيران والعراق)، إضافة إلى الاختراقات الكبيرة في البلدان الأخرى كسوريا ولبنان واليمن والبحرين!
انتبه سنّة العراق إلى أنفسهم فاصطدموا بواقع جديد أكبر بكثير من إمكاناتهم الملموسة، لكنه ليس بأكبر من نفوسهم العامرة بكل ما في تاريخ العراق من هيبة وشموخ، فانطلقوا في مقاومة لم يعرف لها التاريخ مثيلا حتى اضطر الغزاة الأميركان لإعلان انسحابهم من العراق، وطيلة هذه المنازلة لم يفكر السنة إلا باسترجاع هيبة العراق وطرد الغزاة الذين دنّسوا أرض بغداد في 9/4/2003، بينما كان الآخرون يتنافسون لجمع الغنائم وتحقيق المكاسب.
نعم، كان القليل من السنّة يفكرون بطريقة مختلفة، فالدولة العراقية بدأت تتشكل: الدستور والبرلمان والحكومة والجيش والأمن.. إلخ، وكانت الكفّة الغالبة للأحزاب الشيعية الموالية لإيران، فلم يجدوا طريقا لتخفيف حجم الاستئثار أو الهيمنة الإيرانية إلا بالمشاركة السياسية، وقد كانت هذه مجازفة سياسية لأسباب كثيرة، منها عزوف الشارع السنّي عن كل هذه الترتيبات التي صنعت على عين المحتل الأميركي، إضافة إلى ضعف فرص المنافسة مع التيارات الشيعية المدعومة أميركيا وإيرانيا وطائفيا.
بمرور الوقت ونتيجة للظلم الذي بدأ السنة يتعرضون له في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها السيادية والتربوية والخدمية، ازدادت قناعة السنّة في المشاركة، ولم تعد مقتصرة على الحزب الإسلامي الذي تحمل في البداية عبئها الأكبر، بل ازدحمت الساحة بعدد من اللافتات السياسية المختلفة ثقافيا ومجتمعيا ومناطقيا.
اكتشف أهل السنّة أيضا أن الأسس المبدئية للمقاطعة لم تكن مبنية بطريقة منهجية، ولذلك تركت كثيرا من الثغرات والتساؤلات العملية والميدانية دون حل أو جواب، فمثلا: ما حكم العمل في دوائر الدولة ومؤسساتها المختلفة؟ الجيش والأمن والتعليم والأوقاف والصحة والنفط والماء والكهرباء.. إلخ، إذا قلنا بجواز العمل فيها فهذا يستلزم جواز العمل في وزاراتها الطبيعية، وإذا قلنا بالتحريم فكيف ستستمر حياة الناس؟
حقيقة أن الفتاوى التي حرّمت عليهم المشاركة منعتهم فقط من المشاركة في الخط الأول لإدارة هذه المؤسسات، فالسني مثلا يجوز له أن يكون معلما في مدرسة أو مديرا لها أو مشرفا أعلى.. إلخ، لكنه محرّم عليه أن يتسنم منصب وزير التعليم! وهكذا في كل الوزارات، فالفتاوى لا يمكن أن تطالب المعلم السنّي أو الطالب السنّي بترك الجامعة والمدرسة لا في ظل الاحتلال ولا في ظل حكومة الاحتلال، وهذا يعني أن أهل السنّة في كل الوزارات سيكونون موظفين تنفيذيين تحت سلطة الوزراء الشيعة، دون أية مزاحمة أو مراقبة، فالسنّي عليه أن يتلقى الأوامر فقط، هذه هي النتيجة العملية لفتاوى المقاطعة، ولهذا السبب اندفع أهل السنّة في أكثر من دورة انتخابية للمشاركة متجاوزين هذه الفتاوى أو النظريات.
أذكر بهذا الصدد أن أول مشكلة عملية واجهت هذه الفتاوى هي مسألة إدارة المساجد والمدارس الدينية، حيث كانت تخضع قبل الاحتلال لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وطرحت في حينها فكرة المطالبة بأن تسلّم هذه الوزارة للسنّة، لكن بعض علماء السنّة قالوا: هذه مشاركة سياسيّة!! وبعد نقاش طويل وافق الجميع على المطالبة بحل الوزارة وتشكيل الوقف السنّي إلى جانب الوقف الشيعي، ولكن الحقيقة لم تختلف كثيرا، فرئيس ديوان الوقف السنّي مضطر للتعامل مع حكومة الاحتلال وربما الاحتلال نفسه، وبغض النظر عن هذه الإشكالات فقد تمكّن السنّة من الحفاظ على مساجدهم ومدارسهم الدينية وأوقافهم بنسبة كبيرة، واستمرت الحياة في المساجد بصيانتها وحمايتها وتعيين الأئمة والخطباء والموظفين الآخرين. تجدر الإشارة هنا إلى أن عدد مساجد السنّة الخاضعة اليوم للوقف السنّي تزيد على العشرة آلاف مسجد، ناهيك عن المدارس والأوقاف التي لا حصر لها.
وإذا كانت الذهنية السنّية قد تفتّقت عن مثل هذا الحل بالنسبة للمساجد والأوقاف المختلفة، فما الحل بالنسبة للمدارس والجامعات ومؤسسات المجتمع الأخرى؟
من هنا يتبيّن أنّ العملية السياسية بأية صيغة كانت وبأي وجه تشكلت وسواء كانت خاضعة لأسس شرعية أو غير شرعية فإنها تعني نظام الحياة بكل مجالاتها وتعقيداتها، وإذا فكرت بمقاطعة هذا النظام فإنك في الحقيقة تفكر بمقاطعة الحياة كلها، إلا إذا فكرت بالهجرة إلى أرض أخرى ونظام آخر، لكن إلى أين سيمضي مجتمع أو شعب بأكمله؟
نعم، ربما تكون المقاطعة وسيلة فعّالة لإسقاط الأنظمة الفاسدة في كثير من دول العالم إذا اشتملت على حزمة من الفعاليات والشروط اللازمة، أما في الحالة العراقية فإن الكلام عن مقاطعة السنّة العرب دون المكونات الأخرى فهم الذين يتأثرون بفتاوى المقاطعة فقط، وهذا لن يؤدّي إلا إلى تمكّن المكونات الأخرى من بسط هيمنتها بالكامل وتقاسم الحصّة السنّية بطريقة مريحة ودون متاعب، أما الذين يفكرون بأن مقاطعة السنّة ستنزع الشرعية عن هذا النظام ومن ثم سيكون هناك تغيير في المواقف الدولية، فهذا لا شك ناتج عن قصور في فهم قواعد اللعبة العالمية ومعنى الشرعية واللاشرعية فيها.
لكل هذا، حسم السنّة ترددهم وقرروا المشاركة في الانتخابات، وقد فازوا عبر قائمتهم «العراقية» بالمركز الأول، لكن الرياح أيضا لم تتجه بما تشتهيه مراكبهم، فالمشاركة السياسية ليست لعبة سهلة، وليست هي العصا السحرية القادرة على استرجاع الحقوق واستعادة التوازن المطلوب
1198 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع