علي محمد فخرو
الهرج والمرج وغياب التركيز
هذا الهرج والمرج الذى تعيشه الحياة السياسية العربية برمتها بسبب الدعوة الأمريكية المشبوهة، المغطاة بألف قناع وقناع، لبحث الجانب الاقتصادى من الموضوع الفلسطينى، يجب أن يتجنب الضياع فى مجادلات ومماحكات هامشية جانبية عن نية أو مسئولية هذه الجهة العربية أو تلك.
فهذا المشروع ليس عربيا، ولن يكون قط عربيا، وإنما هو مشروع صهيونى مطبوخ فى الكيان الصهيونى، تنفذه شخصيات أمريكية فى الإدارة الأمريكية الحالية. فالرئيس الأمريكى وصهره ومجموعة صغيرة من حولهما من الساسة والإداريين الأمريكيين، هؤلاء جميعا يرضعون يوميا، وبنهم ولذة سادية، من ثدى نتنياهو وحزبه اليمينى الإرهابى المتطرف، حليبا صهيونيا مكونا من خليط عجيب من الأكاذيب التاريخية والأساطير التوراتية والتنبؤات المستقبلية المتوهمة. ولن يوقف العجز والتمزق والصراعات البينية العربية الصبيانية، ولا الخلافات العربية المتعاظمة مع دول الجوار الإسلامية، التى هى الأخرى مصابة بالجنون والهلوسات، لن يوقف هذا المشهد التراجيدى عملية الرضاعة تلك ولن يوقف نتائجها الكارثية على أوضاع الشعب العربى الفلسطينى وأوضاع الأمة العربية التى باتت ألعوبة فى اليد الأمريكية ــ الصهيونية.
ذلك المشهد التراجيدى لم يستطع إيقاف القرار الأمريكى بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة، حتى بوجود معارضة دولية كاسحة لتلك الخطوة المجنونة التى لم تعنها مشاعر البلايين من المسلمين والمسيحيين، وهو أيضا لم يستطع إيقاف القرار الأمريكى بتقديم الجولان العربى هدية مجانية من صهيونى أمريكى إلى صهيونى إسرائيلى، وهو عاجز ومشلول أمام التدخلات الأمريكية فى كل شبر من وطن العرب، وفى كل ساحة من ساحات الحياة العربية السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية الاستخباراتية.
إنه مشهد مخجل تقوده قيادات لم تقرأ التاريخ، ولا تعتقد بوجود ضوابط أخلاقية والتزامات وطنية وقومية فى السياسة، ولا تحترم شعوبها ومؤسسات مجتمعاتها المدنية، ولا تستمع إلا لنصائح شركات الغرب ورجالات الغرب، حتى من أمثال الكذاب تونى بلير الذى قاد مع بوش حملة تدمير القطر العراقى العربى وأوصله إلى أسفل الدركات الحضارية، وما عاد يهمها وجود جامعة عربية متماسكة فاعلة، أو وجود مجلس تعاون خليجى متفاهم، أو وجود قرارات عربية مشتركة بشأن أى جانب من الحياة العربية، أو وجود اتحاد مغاربى غير ملىء بألف علة أو علة.
ذاك الهرج والمرج، المضحك المبكى، الذى يراد له أن يقود شعوب الأمة العربية إلى المتاهات والخلافات العبثية، يحتاج أن ينتقل فى الحال إلى التركيز على البلاء الأمريكى فى الحياة العربية. هذا البلاء الذى اشتغل ليل نهار على خلق وتربية وتمويل وتوزيع الجماعات العنيفة الإرهابية المتسترة، زورا وبهتانا وكذبا، بعباءة دين الإسلام العظيم. هذا البلاء الذى يمارس الابتزاز يوميا ليستولى على ثروات العرب البترولية ويقودها إلى شراء الأسلحة والذمم والإنتهازيين والمنافقين بدلا من توجيهها لبناء تنمية حضارية شاملة فى طول وعرض وطن العرب. هذا البلاء الذى يدعى كذبا بأنه مع حرية وكرامة وحقوق الشعوب العربية، بينما يتصرف فى الواقع لترسيخ قدم كل دكتاتور أو فاسد أو خائن طالما أنه يخدم، كعبد ذليل، المصالح الأمريكية الأنانية ومعها المصالح الصهيونية بكل صورها الخبيثة.
نعم، لدينا بلاءات الطبقة السياسية العربية الفاسدة فى أغلب مكوناتها، والاستعمالات الانتهازية للدين، والتخلف الحضارى التاريخى فى كثير من المجالات، والعجز المزمن للمجتمعات المدنية فى وجه تسلط مؤسسات الدول، والموت السريرى الذى تعيشه المؤسسات القومية العربية المشتركة، وضياع التريليونات من الثروة العربية فى مشاريع مظهرية أو فى أسواق أزمات الآخرين، وكثير من مثل ذلك، لكن البلاء الأمريكى أصبح عقبة كأداء أمام كل محاولات إصلاح تلك البلاءات الذاتية، لينقلب فى الحقيقة إلى هجمة امبريالية لم يشهد الوطن العربى لها مثيلا.
اليوم مفاتيح حل قضايا فلسطين وسوريا واليمن والخليج العربى وليبيا والسودان ومصر والعراق والمغرب العربى هى بيد الأمريكيين، يمارسون الشد والارتخاء والمسموح وغير المسموح متى شاءوا وحسب مصالحهم الأنانية ومصالح الثدى الذى منه يرضعون.
ما يوجع القلب هو أن الكثيرين لا يعون ذلك، وبعضهم يرحب بذلك، ومن أجل التغطية على كل ذلك يشغل الناس بتفاهات الصراعات الجانبية والمعارك العنترية التى تمتلئ بها فى كل لحظة وسائل الإعلام العربية ووسائل التواصل الاجتماعى المخترقة من بعض المؤسسات والاستخبارات العربية والأجنبية ومن مراكز التوجيه الصهيونية الساهرة على تحقيق أحلام «إسرائيل» الكبرى.
موضوع الساعة ليس تلك المماحكات الهزلية البليدة، وإنما من يغذيها ليل نهار ويشعل نيرانها ثم يقهقه ضاحكا وهو يرى بلادة أبطال ذلك السيرك وهم يعيشون حياة الأوهام والهلوسات.
560 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع