هيفاء زنگنة
مئات المنظمات الحقوقية في العراق: الشعب إذن بخير!
قد يتبادر إلى الأذهان عند قراءة تقرير منظمة «هيومان رايتس ووتش»، الصادر بداية الشهر الحالي عن حال المعتقلين والسجناء بعنوان «العراق: آلاف المحتجزين، منهم أطفال في أوضاع مهينة» ـ أن العراق خال من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، ما يمنح السلطات المحلية حرية مطلقة في انتهاك حقوق الإنسان، خاصة المعتقلين، بلا مساءلة، وأن هذه المنظمة هي الوحيدة التي ترصد الانتهاكات والخروقات، فيسهل التشكيك بتقاريرها أو تجاهلها، كما يحدث عادة.
التقرير مزود بصور مهولة لأجساد متراصة بأوضاع مشوهة أكروباتيكية، من الأحداث واليافعين، في سجون الرجال، و كما هي أجساد النساء والأطفال في سجون النساء. وهو ليس بالأمر المستغرب إذا ما علمنا أن الطاقة الاستيعابية القصوى لمراكز الحبس الاحتياطي الثلاثة في شمال العراق، مثلاً، هي 2500 شخص، بينما وصل عدد المحتجزين هناك، بحلول يونيو/حزيران، إلى 4500 سجين ومحتجز تقريباً، من بينهم 1300 شخص حُوكموا وأُدينوا وكان ينبغي نقلهم إلى سجون بغداد منذ ستة أشهر على الأقل. ووصل عدد السجينات بسجن النساء في بغداد 602 امرأة، بينما لا يتسع بناء السجن المتهالك لغير 200.
الحقيقة هي أن العراق لا يعاني من قلة المنظمات الحقوقية على الإطلاق، إذ إن هناك مئات المنظمات المحلية، بالإضافة إلى «المفوضية العليا لحقوق الإنسان»، وهي منظمة حكومية تقدم نفسها كهيئة مستقلة شكلت بموجب قانون عام 2008، لتعمل على «ضمان حماية وتعزيز احترام حقوق الإنسان وحماية الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور وفي القوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية المصادقة عليها من قبل العراق». برلمانياً، هناك «لجنة حقوق الإنسان» المكونة من 12 نائباً (تم تعيينهم وفق نظام المحاصصة)، وتختص هذه اللجنة -حسب موقعها- بثلاث مهمات، من بينها «متابعة شؤون السجناء والمعتقلين في السجون».
دولياً، لدينا فروع 23 منظمة من منظمات الأمم المتحدة التي تغطي كافة جوانب حقوق الإنسان، وعدة منظمات حقوقية دولية تتابع الشأن العراقي، من بينها: منظمة العفو الدولية، وهيومان رايتس ووتش، ومراسلون بلا حدود، ومركز العدالة الانتقالية الدولي، وأطباء بلا حدود.
وأبرز المكاتب، عملياً، وأكثرها نفوذاً هو «مكتب حقوق الإنسان» في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)- الذي تم تأسيسه وفقاً لولاية قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في حزيران 2018، للعمل على «تعزيز المساءلة وحماية حقوق الإنسان والإصلاح القضائي والقانوني من أجل توطيد سيادة القانون»، من خلال العمل «مع حكومتي العراق وإقليم كردستان والحكومات المحلية ومؤسسات حقوق الإنسان الوطنية والمجتمع المدني لتعزيز حقوق الإنسان بطريقةٍ حيادية»، أي وباختصار شديد، إنه يهدف إلى العمل مع كل من يتلفظ أو يدعي أو يمثل حقوق الإنسان من أعلى سلطة في الدولة الى أصغر مؤسسة، مروراً بمنظمات المجتمع المدني والدولي.
هذا كله غيض من فيض من منظمات المجتمع المدني التي يتخصص العشرات منها بشأن المعتقلين والمسجونين. ومن يراجع مواقع هذه المنظمات ويقارنها بما يعرفه تمام المعرفة عن حال المعتقلين اللاإنساني، في عموم البلد، لا بد وأن يتساءل عن جدوى هذا الكم الهائل من المنظمات المحلية والحكومية والدولية، والمواقع الإلكترونية، والمطبوعات الملونة بجداولها وإحصائياتها، والدعم المادي الكبير للمؤتمرات والورشات، والتغطية الإعلامية للوفود وزيارات التفقد لمراكز التأهيل والسجون، وإصدار البلاغات؟
هناك، بطبيعة الحال، عدد من المنظمات المستقلة، فعلاً، الجادة في عملها، والتي غالباً ما يجد الناشطون فيها أنفسهم عرضة للتهديد والابتزاز والمضايقات وحتى الاختطاف. منظمات تحاول أن تجد لها حيزاً خارج حدود الفساد والاتهامات الجاهزة بالإرهاب. أما بقية المنظمات، وهي كثر، فإنها تتنافس فيما بينها على الدعم المادي الذي لا يصلها منفصلاً عن تبعية الأجندة السياسية – الطائفية – العرقية. أي أنها تمثل -بحكم التمويل الحزبي والحكومي والفساد- أداة لاستمرارية الخروقات والانتهاكات التي تتظاهر بمحاربتها، ولكن تحت غطاء تمويهي زاه يدعى الديمقراطية وحقوق الإنسان.
من يراجع أعمال هذه المنظمات سيجد صوراً عن لقاءات مع مسؤولين يبتسمون أمام عدسات أجهزة الإعلام وهم يقدمون دروع التقدير إلى ممثلي المنظمات الدولية وهم يؤكدون على «اعتماد السبل القانونية في استقبال الشكاوى والمناشدات ومتابعتها إلى حد إقامة دعاوى قضائية في حال عدم استجابة الجهات المعنية». ويتم تداول هذه التصريحات في القنوات التلفزيونية التي يزيد عددها على 200 قناة تابعة لأحزاب تلتحف بحقوق الإنسان، في الوقت ذاته الذي يستمر فيه التعذيب والاعتقال والموت داخل السجون المكتظة.
كيف يتعامل المواطن، ضحية الانتهاكات، وهو محاط بادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان؟
النصيحة التي تسديها هذه المنظمات للمعتقلين هي اللجوء إلى القضاء. وهذا ما فعله الطالب علي حاتم السليمان ( 23 عاماً) الذي كان في طريقه من الفلوجة إلى بغداد، عام 2005، لإجراء الامتحانات، وتم اعتقاله في نقطة تفتيش بسبب تشابه اسمه مع شيخ عشيرة متهم بالإرهاب. تم اقتياده إلى مقر للجيش حيث عذب. يقول علي في شهادته التي كتبها مصطفى سعدون، رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان، بأنه حين تم تسليمه إلى أهله، بعد عشرة أيام من التعذيب، كانت كفاه قد أصيبتا بالغنغرينا، وعظام أصابعه مكسورة ولا يقوى على تحريك يديه، فكان الحل الوحيد هو بتر الكفين. نفد علي النصيحة، فأقام دعوى قضائية في المحاكم. حقق القضاء بما حصل معه، ثم ذهب إلى وزارة الدفاع أكثر من مرة لمقابلة قيادات عسكرية هناك على أمل نيل تعويض. ولا يزال بعد خمسة أعوام من المراجعات بلا تعويض وبلا مستقبل وبلا عقاب للجلادين.
إن وضع حد لهذه الممارسات الوحشية يعتمد، بالأساس، على وجود حكومة تسعى فعلاً لوضع حد لها، قانوناً وممارسة، وبدونها كما بينت تجاربنا وتجارب كل الشعوب، تتراكم المظالم كما حدث في الماضي القريب والبعيد، وتنتقل إلى روح الانتقام، ويختلط العنف مع اللجوء إلى أي داعم خارجي أو إرهابي داخلي مهما كانت أهدافه، فتعود الدورة من جديد، وتسيل الدماء، ويتهدم البلد على رؤوس أهله كلهم مرة أخرى. لن يتم تجنب دورة الانتقام والتخريب إلا بقيام حكومة يرى مسؤولوها أبعد من مصلحتهم الآنية المعجونة بالطائفية والفساد. إلى أن يتحقق ذلك، لعل الضغط على الأمم المتحدة لتعيين مقرر عام لحقوق الإنسان، وإرسال خبراء دوليين مستقلين للقيام بزيارات منتظمة لمواقع الاحتجاز، وإنشاء فريق من مفتشي السجون المستقلين لمراقبة الأوضاع ـ قد يكون خطوة بالاتجاه الصحيح.
516 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع