تأملات في سَفر المفكر علاء الدين الأعـرجـي بحثا عن التغييبات الثلاثة

                                                    

                          بقلم : صبحة بغورة
                       كاتبة أكاديمية مغربية

        

تأملات في سَفر المفكر علاء الدين الأعـرجـي بحثا عن التغييبات الثلاثة

مقالة من الجزء الثاني من كتاب "الأعرجي بين نقده ورفده" تحرير نزهة الحاج عمرٍ

يشرئب المفكرالكبير علاء الدين الأعرجي في كتابه " الأمة العربية ، بين الثورة والانقراض " نحو حزمة نورمن الأمل في أبهة المفكر ليعبر عن ذات باحثة عن وجودها، ذات ترصد ما حولها من مشاهد تراجيدية وتلم بتفاصيلها الدقيقة حتى تمتزج ذاته المتعبة مع تشظيات المحيط ليقدم ما يلهم الناس للتوقف والشعوروالتفكير والعمل من خلال بحثه المخلص في" نظرية العقل المجتمعي"، التي يتخذها خلفية تبدو داكنة تفسرماضي التخلف الحضاري العربي ثم يجعل منها في ذات الإطارمنطلقا للحديث عن خيارين أمام الأمة العربية إما الثورة أو الإنقراض ، إنه يستنطق باقتدارالواقع بكل مايحمله من تناقضات ليغوص في وجدانيات أسلوبه الواقعي الذي يصف كل مقاييس العمل الجمعي المؤسسي الناجحة

لقد جعلته حاجته إلى واقعية سياسية في التعامل مع متغيرات المشهد السياسي فريسة لمصدوم في واقعه في خضم رحلة استعراضه الطويلة للوجع العربي القاسم للظهر أمام قرابين الألم في تتابعها على مسرح الحياة العربية ، وفي اجتهاده في توصيف الأحداث بدقة حتى أخرج الحقيقة من صمتها ، لقد سافر بنا في مسار متسلسل إلى نهاية صادمة بعد معاناة، ولكن دون أن يتخلى عن حمل بعض أفكاره احلاما يافعة لم تتحقق بعد، ولكنه يسلمها بكل حذر لمن يقدرعلى حمل المشعل، وفي نفسه شئ من التوجس تجاه جدلية العلاقة بين نظام الأفكار الذي تجاوز مجرد التباين المعبر عن التعددية والاختلاف المعبر التنوع إلى ملامسة حدود التناقض ثم التضارب وبين شروط النهضة إذ يخشى أن ينحرف دور بعض الأطراف فتخرج مساهمتها عن كونها جزء من الحل إلى جزء من الأزمة .

صاغ المفكر الأعرجي أفكارا قلقة على الراهن العربي هي عصارة تأملاته لواقع بنية سياسية واجتماعية عميقة تسودها ثقافة لا تقبل على الإطلاق النقد في مسطح تفكيرها، صاغها بأسلوبه الخاص في الكتابة المتعدد الأبعاد والمتنوع الجوانب والذي يدور في كل الاتجاهات الفكرية ويتجاوز الحدود المتشابهة، وبين خيبة الأمل والقلق ساقنا إلى فراغ رهيب فوضعنا بين حقيقة الموت الفكري والاندثار العقيدي والمذهبي الجاثمة وبين أمل الحياة الباقي وهو يدرك جيدا أنه لم يعد الوقت مناسبا للحديث عن الخطاب الجنائزي نحتفل فيه بجلد الذات .

يمكن أن نقرأ الكتاب كوثيقة تاريخية تضعنا أمام إشكالية الوعي بالوجود وسؤال الكينونة الملح في هذا الوعي، ومع ذلك يشعرنا بالإشراقات الأولية حتى قبل أن ندخل في نطاق وعينا ، وعندما نقرأ الكلمات وهي تتناسخ وتنسخ الزمن تستيقظ حواسه فينا فندرك حجم القوة التعبيرية المصحوبة بطاقة غامرة تبلغ

2

ذروتها في تأكيد مطلق يمكن اعتباره البصيرة، لقد تمكن ببراعة الواثق أن يتحول في محاور الكتاب المتميزة إلى فضاء يحتوي بدفء كل العناصر وما بينها من علاقات، وأن يمنحها المناخ الذي تفعل فيه ليكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء المشروع الجمعي الذي سبق أن جمدت الأحداث المؤلمة نشاطه وشلت المؤامرات الداخلية والخارجية حركته حتى لم يعد له ذلك الوجود الفاعل في الحياة والمؤثر في سيرورة المجتمع ، بل وتمكن الأعراجي باقتدار من رسم الملامح الرئيسية للمشروع المؤسسي في نفس الفضاء الذي صنعته الأحداث بعدما لم يعد له وزن وفقد الكثير من قوة الجاذبية ، وان يواجه بروح الواثق أيضا من سمو الهدف ونبل المقصد وشرف الوسيلة تحديات وسائل إعلام غدت مؤسسات اسطورية مهيمنة على الفضاء العام ولها القدرة المطلقة في صياغة الواقع وصناعته وتوجيه حركته نحو أهداف تصنع في غرف السياسيين حتى قد يتساءل المرء إن كان الأعرجي كمن ينشد التوافق المستحيل بين التغييبات الثلاثة عن النضج العربي، الغيبوبة السياسية التي أدت إلى التصحر السياسي ،والسبات الإعلامي بعد ان صار الإعلام موجها اكثر من شارحا وموضحا ،وما بينهما من تيه ثقافي أدى إلى تناسل الأخطاء يعاني فيه مثقف السلطة ومثقف المعارضة على السواء من قلق الوجود ووجع الهوية والهم الإنساني إذ حيث لا توجد إيديولوجيا مسبقة على الواقع فلا واقع بلا إيديولوجيا ، والمثقف المستقل هو ناقد وصاحب فكر نقدي حر.

يؤمن المفكر علاء الدين الأعرجي من خلال رؤيته الشاملة والواضحة وانطلاقا من نهجه الموضوعي السليم بحتمية التطور لتجنب فوضى التغييرالذي يشابه في واقعه عملية عبور سفينة مضيق الانتقال بالسلطة إلى بحر الاستقرار السياسي، تراه في وسط ظلمة التخلف تتسع عيناه ليرى عكس ما يراه الآخرون أو ما يراد لهم أن يروه فيغرق في أفكاره ليرسم خارطة طريق، وبأنه في حاجة لوضع معالم تحددهذا الطريق، تبين بدايته ونهايته، وتميزه وتدل عليه فتشير إلى اتجاه السبيل الصحيح إليه ، فألمس أمامي حكمة التطور السلمي عبر المراحل والحوار والمشاورة والحضور الجليل الذي ينمو فيه مثل طوفان الرغبة للفكرة بالحضورفي الكلمات وروحها المليئة بالمعاني والصور لفجر البدايات و لعوالم أخرى من الحقول الواسعة للأحلام ، لقد زرع الوعد ولم يضيع الطريق برغم تعرضه لأحداث تدور باللونين بين التشاؤم والإستبشار بين الخيبة والرجاء منحت الكتاب بعدا إنسانيا وروحا من التعايش ، ثم أكسب أفكاره غناء بالدلالات والإيحاءات فاستفزت فينا قوة التمسك بالحياة،والغيرة الحميدة على الوجود، لقد تصدى بشجاعة لمؤامرات مواجه المستقبل بالماضي المقدس لتفجيرالصراع الثقافي ولتقويض تحديث العقل بإثارة الحديث عن تلك المعضلة المفتعلة بين دعوات التمسك بالتراث ودواعي التطلع للحداثة ، إنه يعيش الحاضر مثقلا بتراكمات الماضي وبهموم المستقبل، ولكنه يعي تماما ثقافة عصره ويتحرك بواسطتها مرشدا ومعلما ، لقد أسس الأعرجي لسياسة أن ترى التباينات في كل جهة حتى تتمكن من بناء تقدير موقف صحيح وجعلها من روافد النجاح ومنبع القوة ومصدر النصر، فتحدث عن التراث بكل ما يحمله من دلالة تاريخية وحضارية وإستراتيجية قوية في ماضي الأمة وحاضرها، ومنها وجد انطلاقته المحمومة نحو التشديد على ضرورة إحياء تغييبات ثلاثة عن الوعي العربي ، العلم وقوة سلاح المعرفة والثقافة باعتبارها آلية بحث واستقصاء ونقد ، التراث كحافظ على الهوية والأصالة، والتضامن كشرط أساسي للمشروع الجمعي المؤسسي، وكحائط الصد القوي أمام محاولات تقسيم الدول العربية سواء على أساس عرقي أو طائفي ، وكم تم إخراج صراع من طبيعته السياسية ليعد حربا طائفية ، ويمكن ملاحظة مهارته في تناول لغة المواقف ولغة السياسة، الموقف، كعلامة فارقة في الزمن لا تحتكم إلا للمبادئ السياسة حيث الممكن أصبح فنا يبررالنفاق كما يبررالإيمان، وكذلك استغراقه في تحليل معضلة تحقيق الانتقال الديمقراطي والتحول الاقتصادي على نحو يقي من الأزمات والفتن المتماحلة الناتجة عن تأثيرات الظروف الخارجية على الأوضاع الداخلية متخذا.الربيع العربي مثالا عندما أخذ اتجاها إسلاميا في ظل قراءة خاطئة للديمقراطية .


3

تناول المفكر علاء الدين الأعرجي باقتدار مكانة العلوم الإسلامية، وتناول باسهاب دورها في تفعيل التكامل المعرفي والانطلاق الحضاري للتأكيد على أن العلوم الإسلامية التي تكابد المعوقات وتتجاوب في نفس الوقت مع المفعلات تبقى ملمح للتطويرالحضاري ومعين للبحوث الاستقرائية للمسار المتأرجح بين التألق والتقلص والتشديد على دورها في ترسيخ الهوية ومواجهة التحديات المعاصرة المتمثلة في مجموعة تغييبات ثلاثة عن الوجدان العربي، الحفاظ على المناعة الوطنية لمواجهة أسباب انهيارها بعد تدمير الحاضر باسم الماضي بدعوى الأصولية القميئة والعلمانية المفرطة والتغريب المقيت ، والخروج من قوقعة الإحباط واليأس واحتواء مفهوم الاصطدام التسلسلي للأحداث الذي أربك قرارات أعتى الأنظمة ، ومظاهر الفساد المالي والإداري المدمرة لأركان الدولة والهادمة لمقومات البلاد وتماسك شعبها، وبمواهجته هذه التغييبات الثلاثة يمثل المفكر العراجي في حد ذاته حدث لأنه يسبق الأحداث يحددها بنظرة ثاقبة ، يكشفها دون مواربة أو تمويه، يكشف تأثيراتها مهما كانت طبيعتها دون تعتيم، لا يأبه لحرج الموقف ، شجاعته في وضع الأمور في نصابها تدعمها قوة الحجة وسداد الرأي والثقافة الواسعة والدراية العميقة بطبيعة واقع وقضايا أمته مستندا إلى مسار مفكر مليئ بالتجارب التي أكسبته خبرة الحياة من أجل الحياة .

يمكننا أن ننظرإلى مضمون الكتاب على أنه وقفة تأملية أمام تاريخ الأمة العربية في استعراض سلبيات ماضيها وتقييم إمكانيات حاضرها واستشراف آفاق مستقبلها ، وتقدير حجم ما استفادت منه أو ما يمكنها أن تحققه لنفسها وفق مبدأ الأخذ بأسباب القوة والمنعة ، إنها وقفة تستنبط من وجاهة الفكرة عمق المعنى وسرالمغزى وعموم العبرة ودلالة الدرس لاستفزاز الإرادة وتحفيز الهمم وشحذ العزم لأنها ليست مجرد كلمات يواجه بها المفكر الامتحان الأزلي في رحلة البحث الدائم عن الخلود ، بل من أجل البحث عن الحياة الحقيقية بكل أبعادها الحيوية، لذلك تضمن الكتاب الكثير من التقاطعات في سياق السعي من أجل التدقيق في الوقائع الممزوجة بإشباع القيم الإنسانية في المتعة الفكرية الراقية مع الاستفادة من التجارب ، وفي ذلك يطرح الأعرجي في كتابه بعض النظريات التي انفرد بها ولعل من أهمها نظرية " العقل المجتمعي"الذي يتشكل من خليط يمثل منظومة واسعة من القيم والمبادىء والأعراف والتقاليد والعقائد... التي تحكم سلوك المجتمع كوحدة واحدة وبالتالي تحدد حجم وطبيعة ردود فعلهم من مختلف القضايا الإنسانية والحضارية بين الجمود والتغيير، بين التخلف والتطور، ونظرية " العقل الفاعل والعقل المنفعل " والمقصود بها جملة القدرات العقلية التي يتمتع بها الفرد من خلال "العقل الفاعل" وتمثل حجم مهاراته الشخصية في الملاحظة والتأمل ومقدار تطلعه للأحسن وفضوله العلمي وشغفه بالتجديد والتحديث وحب الاستطلاع لديه وميله نحوالمعرفة ، أو طبيعة رد فعل الفرد من خلال " العقل المنفعل " الذي يتجلى في جملة القرارات التي يتخذها بشكل منفرد وهو ينمو لديه تدريجيا على حساب العقل الفاعل متأثرا بقوة وقع العقل المجتمعيعلى الفرد، وفي ذلك يبدع المفكر الأعرجي في توضيح العلاقة المفصلية بين كلا من العقل الفاعل والعقل المنفعل من جهة وبين العقل المجتمعي من جهة أخرى ، كما يوضح التاثيرات المتبادلة بينهما في تشكيل كيان المجتمع العربي، وبرغم إنها إطروحات منطقية إلا أن مهارة بلورتها كفكرة وجودة صياغتها، ودقة تعريفها ومناسبة طرحها لمعطيات الواقع واعتبارها جرس إنذار شديد الرنين لارتباطها بمظاهر تراجع أمة ووقوفها على خط التخلف أمام حافة هاوية السقوط والانقراض الحضاري كل هذا هو ما أكسبها وجاهة الطرح وعقلانية المبرر إلى جانب الظروف التي جعلت منها سببا ملحا للتعرض لها بهذا الشكل المتميز للمفكر الكبير علاء الدين الأعرجي .

يقال أن الكتاب أو أي نص بعد صدوره يعد ملكا للناقد، والحقيقة أن المفكر الكبير علاء الدين الأعرجي كان ناجحا في ما كتبه وصادقا في تفاعله معه ، دقيقا في تدوين الأحداث التي طرأت ومازالت تفعل فعلها

4

السلبي في الواقع العربي، أمينا وصادقا مع نفسه في التحليل الموضوعي والمنهجي السليم للظروف الملابسات التي أحاطت بالأمة العربية وجعلتها خاضعة ،مستسلمة لتخلفها وغير مبالية بتراجعها الحضاري فاقدة الوعي بما يتهدد مستقبلها.
ولكن حتى وإن تضمن الكتاب شجاعة المكاشفة في تشخيص الواقع العربي والمصارحة بما ألم بها من نواكب ومؤامرات بعدما نبه على نحو قد يسوء النفوس الوطنية الطيبة التي تعاني من حاضر يحتضر، والغيورة على مستقبل يسوده الغموض إلى مؤشرات السقوط ثم الانزلاق إلى الإنقراض ككيان عربي وليس وجودا على الأرض، إلا أنه مع ذلك ساق إلينا بكل منطقية جملة المعالجات الموضوعية والعملية لتدارك الوضع العربي وتجاوز حالته المتردية صاغها بدفء المعنى فأعطت بصيصا من أمل في أن هذه الأمة تزخر بالعقول النيرة والواعية بقضايا أمتها والمتحفزة دوما لبذل الجهد والعرق من أجل خيرها ورفعتها وأن فيها من هو متوثب ليضع خارطة طريق لعملية إنقاذ دقيقة تتطلب نوايا حسنة وإرادات صلبة لرفع تحديات التخلف الحضاري، فكان المفكر الأعرجي بذلك حدثا في حد ذاته لأنه يسبق الأحداث ونموذج المثقف الغارق في لحظته التاريخية، لأنه لا وجود حقا للمثقف خارج التاريخ وخارج الوجود الاجتماعي ـ السياسي أو بمعزل عن المصالح التي يرتفع بها إلى مستوى القيم النبيلة والرموز الهادفة، فبلغ بذلك درجة رفيعة من الوعي والثقافة والعلم حتى تمكن من أن يجد الصلة بين السياق الاجتماعي لحياة الفرد من جهة والتطورات الأشمل في المجتمع من جهة أخرى، إنه كمثقف يظل على المستوى الفكري حارسا لنظام العالم كما هو أو كما يجب أن يكون لأنه يأتي من جهة العقل ، فأثبت بالتالي أن المثقف بإمكانه أن يكون كونيا ، يبين التطور التاريخي برؤية حقيقية مكتملة البنية من الناحية المنهجية والشكلية ومن ناحية الموضوع والفكرة .

تطرق مفكرنا الكبير إلى أكثر المسائل حساسية التي أصبحت تنخر مجتعاتنا العربية وتستهلك قواها الحية وتصرف طاقاتها عن التنمية بحديثه عن طلوع شجرة الأصولية الدينية على أرض خيباتنا بأوجهها الاقتصادية والاجتماعية ، وخص هنا بالذكر خطورة تهديدات تنظيم " داعش" وأثرها في تقويض أركان الدولة وتعطيل عملية الإبداع في شتى المجالات ووأد كل مبادرة للحبو الحثيث على طريق ولوج عوالم التطور التي بقيت خافية على إدراكنا، مخفية عن وعينا ، لذلك انطلقت دعوته بملء الصدق من قلبه العامر بكم هائل من مشاعر الرفض والاستنكار لهذه الظاهرة التي شكلها وعيه البصري في فترة معينة انطلقت دعوته من أجل تحصين المجتمع من خطب التحريض على العنف وكل أشكال المغالاة والتطرف، بمعنى توفير العوامل الكافية لتحقيق الأمن الفكري كشرط ضروري وملازم للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ، انطلقت دعوته للأمة العربية من أجل عدم الانقراض الحضاري على الأقل.

يظل مفكرنا الكبير وفيا في تجسيد قناعته بمفهوم القومية كإطار حيوي وبوتقة جامعة للأمة العربية، فيها تنصهر قواسمها التاريخية لتتشكل ملامح المصير المشترك كحتمية لا مفر منها ولا سبيل لنكرانها، وهو ما تضعنا أمامها وفي مواجهة مباشرة معها جملة المعالجات العملية التي اقترحها المفكر الكبير في كتابه والتي بقدرما تنير الطريق بمصابيح الرجاء وبمشاعل الأمل، بقدرما تلقي مسؤوليات جسام هي أقرب إلى الأمانة في حسم الأمرالذي يقع بين خيارين، كلاهما سيحدد المصير سواء بالعمل على التعريف بها أو التجهيل بطبيعتها ، وسواء باكتساب فضل المبادرة بتحقيقها ، أو بالتقصير وتحمل جرم الجهل بها أو تجاهلها.

تلكم كانت تأملات في المحطات الرئيسية التي توقف عندها الأعرجي في رحلة سفره ممتطيا قلمه بحثا عن ما يمكن توظيفه لترميم الخراب العربي وإعادة الإصلاح البنيوي العربي عبر ترسيخ مفاهيم تدعو لاستخدام العقل لا إغفاله.

5

وفيما يلي نرجو أن يتسع الصدر لجملة من الملاحظات نسوقها بكل تواضع لمجرد إثراء الأفكار،وتبادل الرأي
في حديث الكاتب المحترم عن التنظيمات المسلحة كداعش والقاعدة وأخواتهما جرى الحديث عن ارتباطهما في العقل المجتمعي بما يعرف " بظاهرة الإرهاب" والحقيقة أن الإرهاب من حيث تصنيفه متعدد الأوجه فهناك الإرهاب المسلح المرادف للإجرام ، والإرهاب الفكري المرادف للرقابة الأمنية على كل ما يكتب وينشر، وإرهاب الطرقات المرادف لحوادث سيارات يقودها متهورون ومخمورون وهواة السرعة داخل المدن.. وإرهاب الإدارة المرادف للبيروقراطية المقيتة والتعقيدات الإداراية وارتباطها بالمحسوبية والرشوة أي الفساد الإداري ، أما من حيث الهدف فإننا نكون بصدد العنف والخطاب المتطرف ، وإذا رافق ذلك حمل السلاح فإننا نميز هنا ما بين العنف الإرهابي لفرض الخوف والسيطرة، والعنف الاننتقامي المتعلق بالثأر، والعنف العقابي الذي ينصرف معناه إلى تلقين المخالفين ما يحقق الردع وفي هذا يمكن أن نقول ان الأعرجي في حديثه عن هذه المسألة كان بوسعه أن يبين علاقتها بالعقل المجتمعي انطلاقا من خصوصية كل تصنيف عل حده.
عندما تحدث الكاتب عن العقل الفاعل والعقل المنفعل إنما تحدث عنهما و كلاهما يدخل في نطاق العقل الواعي الذي لا يمثل سوى 10 بالمائة من القيمة الفعلية للعقل البشري استخداما وفعالية ، بينما العقل اللاواعي المسؤول عن الحركات و الأنشطة اللاإرادية يمثل 90 بالمائة من القيمة الفعلية للعقل البشري استخداما وفعالية ، فأفعال الإنسان حين نحاول تصنيفها نجد أن هناك أفعالا وسلوكيات نحتاج فيها إلى مهارة لاواعية وفعلا آليا لأننا ببساطة نزيد من جودة أدائنا فيها وخبرتنا بها ولا نحتاج في نفس الوقت إلى مجرد استمتاع بفعلها كفتح الأبواب ورفع سماعة التليفون.. مثلا ، بالرغم من أن غياب الحضوريشير إلى حلول العقل اللاواعي لأن من مسميات العقل الواعي هي "العقل الحاضر" وغياب الحضور هو غياب للعقل الواعي، لذلك فإن الاستمتاع المرافق في أي مستوى من هرم التعلم خاصة إذا كان ضروريا في الأمورالتي لا تتطلب أصلا عدم التركيز لأنها تدخل ضمن التكوين والنمو الطبيعي للخبرات عند الإنسان ، فإنه يبقى قرارا شخصيا و واعيا لا يتحقق إلا عندما نشعر به ونعبر عنه بوعي ، إلا أن تكبرعدو للاستمتاع هو التعود، حينها ينتقل الفرد بل والمجتمع من خانة "مهارة ــ وعي" ليدخل في خانة أخرى من هرم التعلم وهي " مهارة ــ لا وعي " بمعنى أن العقل الفاعل يبقى يحدث أثره، ولا يستقبل العقل المنفعل رسائله إلا بتلقائية مملة ، أي أن العقل المنفعل يصبح في هذه الحالة يعمل بلا وعي ..
هذا على خلاف ما تناول الكاتب من المسائل المتعلقة بالتراث والحداثة التي خصص لها الفصل الخامس من الكتاب حيث يمكننا التأكيد بأن ما كان في التراث العربي من مصادر اعتزاز وفخر قد تعرض إلى عمليات تأويلات تاريخية متباينة في المنطلقات ومتباعدة في الأهداف زجت بالتراث في خانتي التسويف العمدي بخلفية سياسية أو الغرور الحضاري في الخطاب الرسمي، وفي الخطاب الديني، وفي الخطاب الإعلامي، وحتى في علاقات العمل، من هنا ثارت أوجاع الهوية بعدما أصاب الجمود جهود التأصيل وشابت الحداثة روائح المؤامرات على المقومات الأساسية للشخصية العربية مما ساهم في عملية المسخ الحضاري للأمة العربية وفقدان الذاكرة الشعبية لماضيها فأصبح ما لديها من تراث محدود التأثير أو منعدم الوجود أو موجه المواقف وهذا نتيجة عدم ترشيد التحول الثقافي لحماية التراث من طفيليات الأساطير والخرافات والإسرائيليات... وللحفاظ عليه من جهة أخرى كمرآة عاكسة وصادقة لواقع المجتمعات وصدى لوقع خطواتها ووثيقة تاريخية تؤصل لمسارها الحضاري، وقد يمكن أن نضيف بعدا آخر يتعلق بالموروث اللامادي وكيفية حمايته، فإدراكا من المجتمع الدولي بأهميته البالغة تم إنشاء سبعة مراكز عالمية تحت رعاية منظمة "اليونسكو " في كل من الصين، اليابان، كوريا الجنوبية ، إيران، البيرو، بلغاريا والجزائر حديثا التي تحتضن المركز الإقليمي لصون التراث الثقافي اللامادي في إفريقيا

من الفئة 2 منذ 2015 ويرأسه الباحث سليمان حاشي ، والملاحظة التي قد تبدو مؤسفة أنه لا يوجد مركز مشابه يعنى بالموروث الثقافي العربي الذي يتميز عن باقي دول الشرق الأوسط وبالطبع عن إفريقيا وعن
6

آسيا بخصوصيات راسخة منذ قديم الأزل، وهو الذي لا يزال الرباط الوثيق بين الشعوب العربية، ولا شك أن دورمثل هذه المراكز بالغ الأهمية في تطوير مهارات تسيير الموروث اللامادي وتبادل الخبرات وتقديم التجارب والسماح بالتبادل الحر في الميدان حول قضية حماية وحفظ التراث اللامادي ،بالإضافة إلى إمكانية إسهامه في وضع خريطة لحماية الموروث الثقافي ووضع مخططات لكيفية تحصين الموروث الثقافي الذي يكون في خطر.. ووضع عمليات جرد للموروث الثقافي لكل دولة ومكتسباته اللامادية ، والعمل على تثمين البحث العلمي في العلوم الإنسانية والأنثروبولوجيا حول الموروث اللامادي ، وكل هذه المهم تعد جهدا مطلوبا لأنه يعتبرفي حد ذاته بمثابة استرجاع الثقافة التي تمثل جزء من الهوية .

إن الحديث عن علاقة " العقل المجتمعي" بفكرة العولمة كما ورد في الفصل السادس من الكتاب هو حديث عن علاقة مستحيلة في الواقع ، فالدعوة إلى العالمية في الآداب والفنون مثلا هي دعوة مشبوهة لأنها غير
قابلة للتطبيق كنموذج لعلاقات دولية جديدة، ولأنها تعني عمليا محو مقومات شخصية الشعوب وخصوصياتها الراسخة ثم الذوبان في الآخر على غير هدى من طبيعته ، وكل محاولة لتطبيق هذا المفهوم نجحت من وجهة نظر الطرف الأقوى وهو الغرب في احتواء الطرف الضعيف والمتخلف حضاريا ، وعلى هذا فالعلاقة تسير في اتجاه واحد فقط، طرف متخلف يحتاج لمعرفة الطرف المتقدم بما تعنيه هذه الحاجة من استعداد لتقبل تأثيراته السلبية على الحياة السياسية والثقافية والعقائدية أيضا ، وهذا لايعني تفضيل الإنكفاء والميل للإنعزالية ، بل للتأكيد على أن العولمة تبقى في وجهها الإيجابي فضاء عالميا مفتوحا لتقارب الشعوب وتفاعل الحضارات في إطارالاحترام المتبادل لمقومات شخصية كل طرف فتفتح بذلك آفاقا واسعة للتعاون الدولي المثمر .

في الفصل الأخير من الكتاب ارتبط الحديث عن القضاء والقدر باستعداد العقل المنفعل العربي لقبول التسلط والقهروالاستسلام للظلم إلى حين ميسرة ، ونرى أن هذا الربط غير منطقي وليس له محل في العقيدة الصحيحة ، كما نتحفظ كثيرا على وصف الايمان بالقضاء والقدر بكونه " ظاهرة " أي يمكن أن تدوم في العقل المجتمعي زمنا محددا أو تتلاشى سريعا ، بل نرى ان هذه المسألة مرتبطة بالسؤال الحائر وهو " هل الإنسان مسير أم مخير ؟" والحقيقة أن الأمر الإلهي الأول وهو " إقــرأ.." ثم الأمر الإلهي الثاني وهو" وقل إعملوا .." يجعل العقل الفاعل يستنبط حقيقة وجوده فيغتصب من حياته معنى لوجوده وهو الإلتزام علما ، ويجعل العقل المنفعل ممتثلا للضوابط عملا ، وبمعني آخرأن الأمر برمته يتعلق بكون الإنسان مخير فيما يعلمه ، وهو مسير فيما لا يعلمه ، إنه مخيرفي التصرفات ، ومسير في الوقائع
مخير في ما يملك تجاهه إرادة ، ومسير في كل شأن ليس له إزاءه إرادة كواقعة الميلاد والوفاة ..

إننا بحق نمتن للقدر في ابتسامته لنا بالكرم المعرفي الذي تمتعنا به من مطالعة كتاب " الأمة العربية بين الثورة والانقراض" فهو يمثل تجسيدا حقيقيا للمواقف الاستثنائية في التاريخ التي تتطلب حكمة وشجاعة للإقدام عليها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

449 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع