لطيف عبد سالم
تجليات الحب والجمال في ديوان ترانيم الفتى البغدادي للشاعر غزوان علي ناصر.. قراءة نقدية
من المعلوم أنَّ الحبَ كحالة إنسانية سامية، وما يكتنفه من لواعج العشق وصور الجمال، شكل على مدى العصور حافزاً قوياً لإثارة إبداع الشعراء، فضلاً عن مساهمة إبداعية المنجز الشعري بفاعليةٍ في تميز بعض الشعراء عن نظرائهم. ولا ريب أنَّ إبداعَ الشاعر يرتكز بشكلٍ أساس على الموهبة المقترنة بتنوع مصادر المعرفة التي يوظفها هذا الشاعر أو ذاك لرغبةٍ جامحة في التعبير عما يشعر به، أو قد يوجه بوصلتها نحو بلوغ المجد والإحساس بالتميز حيناً ما، مع العرض أنَّ الشعورَ الخفي الذي يؤرق الشاعر، ويرغب البوح به قصد إيصاله إلى المتلقي، يبقى على الدوام رهين ما يمتلكه من أدواتِ البناء الشعري التي بوسعها ترجمة ما بداخله من رؤى، وما يطرق في ذهنه من هواجس.
أسوق هذه المقدمة الموجزة بعد ما أطلعت على ديوان (ترانيم الفتى البغدادي) للشاعر غزوان علي ناصر الصادر عن مكتبة فضاءات الفن في بغداد، والذي يُعَدّ إصداره البكر. وعلى الرغم من اختلاف معايير المشارب والأذواق، الاّ أنَّ ما أثار انتباهي بدايةً بخصوص الديوان موضوع البحث هو ما تجسد بأمرين، أولهما الانتقائية في اختيار العنوان الذي ضمنه كلمة ترانيم، وهذه المفردة كما هو معروف في معاجم اللغة العربية تستمد خاصيتها المؤثرة في المتلقي مما تحمله في طياتها من معانٍ ترقى بالرؤيا الجمالية، وتستفز بما تحمله من بهاء ذائقته الجمالية، فالتَّرْنِيمُ لغةً: تطريب الصوت. الرَّنِيمُ والتَّرْنيمُ: تَطْرِيبُه، وقد رَنَّمَ الحَمامُ والجُنْدَبُ والقَوْسُ، وما اسْتُلِذَّ صَوْتُهُ، وتَرَنَّمَ. ترنَّمَ يترنَّم، ترنُّمًا، فهو مُترنِّم، ترنَّم المُغنِّي ونحوُه، رَنَّمَ الْمُطْرِبُ: غَنَّى على نَغَماتِ العُودِ غِنَاءً عَذْباً حَسَناً وَرَجَّعَهُ، رنِم: رجَّع صوته وتغنَّى في تطريب وتَحنان ترنَّم الطائرُ في هديره.
أما الأمر الآخر، فقد تمثل باعتمــاد غزوان المواءمــة والتكييــف ما بين الشعر والفن؛ لأجل الوصــول إلــى صياغــةٍ ذات قيمة أدبية وفنية معبرة، إذ أطل علينا في وليده الأدبي هذا بما يعتمل في ذاته من مشاعر وخيالٍ جامح بعد أنْ عودنا على الاندهاش بلوحاته الفنية. فقد ركن غزوان إلى اقتران قصائد الديوان الشعرية بلوحاتٍ فنية غاية في الجمال. وأكثر من ذلك أنَّ جميعَ اللوحات - التي وجدت لها حضوراً في صفحات ترانيم الفتى البغدادي - رسمها الشاعر بريشته من دون الاستعانة بفنانٍ آخر كما هو شائع في أغلب الإصدارات الأدبية. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق، هو تباين الرؤى حيال موضوع المواءمة والتطابق ما بين الرسم والشعر، والتي وصلت إلى قناعة بعضهم إلى أنَّ الشاعرَ ما يزال متخلفا كثيراً عن الرسام في تجسيم الأشياء المادية، إلا أنَّ هناك رأياً آخر للرسام والنحات الإسباني خوان ميرو (1893 - 1983م)، والذي يُعَدّ أحد أشهر فناني المدرسة التجريدية، يقول فيه: (أنا لا أميز أبداً بين الرسم والشعر. أحيانا أوضح لوحاتي بعبارات شعرية وأحيانا العكس). كذلك يشير أعظم الفنانين وأكثرهم تأثيراً في القرن العشرين الرسام العالمي والنحات بابلو بيكاسو (1881 - 1973م) إلى منجزه بوصفه رساماً وشاعراً. وبالاستناد إلى هذه الرؤى، فإنَّ تمسكَ الشاعر غزوان بالمواءمة في ديوانه هذا ما بين البوح والصورة، فضلاً عن الحرص على تفاعلهما، مكنه من النجاح في مهمة جعل الصورة تكيف نفسها مع قريضه، ولم يستثني من ذلك حتى اللوحة التصويرية التي اعتمدها المصمم في تصميم غلاف مجموعته الشعرية. ولعلَّ المذهلُ فِي الأمر أَنَّ اقترانَ الشعر بالرسم في هذا الديوان أضفى عليه مسحة من الجمال والرونق سعياً من الشاعر لتحقيق أعلى درجة من التفاعل ما بينه وبين المتلقي أو القارئ. ويبدو أنَّ هذا الامتزاج والتماهي ما بين الشعر وفن الرسم هو الذي دفع الدكتور إياد الباوي إلى الإشارة للشاعر غزوان بوصفه من رواد قصيدة (القصورة) المعاصرين.
إنَّ القراءةَ المتأنية لقصائد الديوان المذكور، تظهر بشكلٍ جلي أنَّ عاطفةَ الحب الصادق المقرونة بمسحة الجمال تشكل أبرز الينابيع التي أثارت قريحة الشاعر غزوان الإبداعية، وحفزته على البوح شعراً، إلى جانب تجسيد عواطفه رسماً؛ لذا كان الغزل حاضراً بقوة في أروقة الديوان فقد كانت القصيدة الوجدانية تشكل سمته الأساسية، وتعكس ما يخالج نفس الشاعر من مشاعرٍ جياشة ومتدفقة بالوجد والحب، والتحرق عطشاً وشوقاً صوب الجمال. وهذه القصائد كما يصفها الشاعر والناقد الجزائري الأستاذ الدكتور يوسف وغليسي (قصائد تحترف الغزل البغدادي العريق، وتستعيد شيوخ العشق الشعري العراقي القديم) ويلقب الشاعر (بصريع الغواني) تشبيها له بالشاعر العباسي المشهور مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني. وتدعيماً لما ذكر، أرى من المناسب اختيار أبيات عدة من أحد نصوص الشاعر، والتي يقول فيها:
اني صريعُ الغواني والهوى دأبي
عشق الجمال وحبّ البيضِ يصبيني
قد كان أقصى مرامي يامعذبتي
أن بين نهديك ياروحي تضمّيني / من قصيدة (صريعُ الغواني) ص37
فهو شاعر عاشق يتبع الجمال ويلاحقه:
أضعتُ رشدي واني عاشقٌ ولهٌ
يهوى الجمالَ ولا يبغي به ضررا / من قصيدة ( معجزةُ الحسنِ ) ص 68
المتوجب إدراكه أنَّ الجمالَ في تشكيل القصيدة الشعرية بهذا الديوان مغمساً بالصدق والنقاء، ما يعني أنَّ هيامَ عشق غزوان الذي فاض بوحاً وغدا ركيزة لإنجاز لوحاته الفنية لا يخرج عن دائرة الغزل العذري والحسي، فالجمال لا ينبغي أنْ يفسرَ بوصفه قضية حسية ترتهن بالغرائز الجنسية. وتحضرني في هذا الإطار مقولة للشاعر إميل ناصيف ضمنها كتابه الموسوم (أروع ما قيل في الوجدانيات)، والتي يقول فيها: (الشعر الوجداني ينطلق من قلب الشاعر ليتوجه إلى قلبه موحداً بين الذات والموضوع محولاً الشاعر إلى النبع والمصب في آن واحد). ويمكن القول إنَّ السماتَ الجمالية المميزة للقصائد التي ضمها الديوان المذكور، وفي المقدمة منها اللغة الشعرية والصورة الشعرية، تكشف لنا عن شاعر وجداني عميق الإحساس، متمكن من أدواته الشعرية، ضليع باللغة ومحب لجماليتها، ولا غرابة في هذه الميزة ما دام غزوان علي ناصر يدرس اللغة العربية كونه احد طلبة الدكتوراه في اختصاص النقد والأدب. ولعلَّ من المهم الإشارة هنا إلى أنَّ مؤلفَ هذا الديوان يشتغل على القصيدة العمودية الكلاسيكية على الرغم من انفتاحه على أجناس الشعر الأخرى، إذ يبدو بما لا يقبل التأويل أنَّه يجد قصيدة العمود أقرب إلى نفسه.
إنَّ القراءةَ المتأنية المتأملة لقصائد ديوان ترانيم الفتى البغدادي تقود إلى الاحساس بتميز الشاعر غزوان فيما يكتبه وذلك يتجلى بأسلوبه السهل الممتنع، إذ يتصف أسلوبه في تركيب أبياته الشعرية بسلاسة المفردات ووضوح معانيها، وصدق عاطفتها، ما يجعل قصائده أكثر إثارة للمتلقي واقرب إلى نفسه وخلجات وجدانه. ومن وحي القراءةَ المذكورة آنفاً، ندرك أيضاً تميز شاعرية غزوان بلغةٍ شعرية عززت بنية القصيدة وساهمت في المحافظة عليها بفضل امتلاكه إمكانيات شعرية غير محدودة، والتي ساهمت في تدعيم منجزه الشعري الواعد بما أفضت إليه من شعرٍ رقيق، إذ اتسم شعره بقوة التأثير وصدق العاطفة، إلى جانب إجادته التفنن في نسج الصورة الشعرية. وأما الاوزان الشعرية التي استعملها الشاعر في ثنايا هذا الديوان فقد كانت متنوعة كالبحر الوافر، والبحر الكامل، والبحر المتقارب والبحر البسيط الذي كانت له هيمنة واضحة على باقي الأوزان الشعرية.
وفي الوقت الذي أبارك فيه منجز الزميل الشاعر غزوان علي ناصر، أختم حديثي عن ديوانه البكر باختيار أبيات عدة من قصيدته (غادة الفيحاء) ص 159 :
وتلطَّفي في عاشـــــقٍ متســـــوِّلٍ
أبكى السَّمـــا حزناً ومــا أبكـــــاكِ
عندي مِــن الأشـــعارِ ما لـو قلتُهُ
غارتْ نســــاءٌ لــــو بها ألقــــــاكِ
عندي مِن الأشواقِ حبٌّ ســـاحرٌ
باحـــــــتْ بـهِ الشَّفتانِ حينَ أراكِ
دنياي مِنْ غيرِ الوصــالِ مريرةٌ
فكأنَّني أمشـــي على الأشــــــواكِ
لكِ بسمةٌ من لطفِها لو أشـــــرقتْ
لتشعشعتْ من نـورِهـِـــا خــدَّاكِ
هـاتي الشِّفاهَ أهيمُ فيهـــــا لحظـةً
ولتسقني خمـــــرَ الحـــياةِ يـداكِ
.......................
المجموعة الشعرية: ترانيم الفتى البغدادي
المؤلف: الشاعر غزوان علي ناصر
تاريخ الاصدار: الطبعة الأولى 2019م
عدد صفحات الديوان: 207 صفحة
مطبعة تنوير
الناشر: مكتبة فضاءات الفن - بغداد - العراق
3847 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع