د. سامي محمود ابراهيم
الذات تصف نفسها صوفيا
انسانية التصوف وعالميته جعلت منه منهج للتعبد، والزهد، والنقاء، والصفاء الروحي والجسدي، وهو حصيلة جهد وفهم للفكر الانساني عموما، والاسلامي خصوصا، والذي انطلق من مشروع الكل المتكامل، وهذا ما نجده في القران الكريم كقوله تعالى(( اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دِيِنكُم وَأتممتُ عَلَيكُم نِعمتِي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسلامَ ديناً)) "المائدة:٣" .
كما يستدل التصوف على باطن الآيات، والأحاديث الشريفه، وتأويلها وتفسيرها باطنا وليس ظاهرا، حيث أن ظاهر الآيات والاحاديث هي لعموم الناس الغير متفقهين في الدين والعلم (الناس العاديين)، اما باطن الآيات والاحاديث هي للمتثقفين في الدين والعلم.
ان التصوف هو تقوية الروح إيمانيا ضد خطر الماديات وشيوع المادة، فبالإيمان تستنير الروح، وتصبح نورا يملا سراج الوجود، وهذا من ايات الله تعالى(إن في ذَلكَ لآياتٌ للمتوسمين) سورة الحجر:٧٥. وقوله صلى الله عليه واله وسلم"( أتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) رواه الترمذي. وكذالك قوله صلى الله عليه واله وسلم" ( إنَ لله عز وجل عباداً يَعرفونَ الناس بالتوسم)، وهي استدلال بالعلامات يبدو ظاهرا لكل صوفي ومؤمن.
هذا من جانب، من جانب اخر نجد ان التصوف واجب اخلاقي، يقول الرسول"صلى الله عليه واله وسلم" ( أدبني رَبِّي فأحسنَ تَأديبي)، وقال ايضا( إنما بعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق).
يتحدث علماء النفس والاجتماع عن خطورة العزلة الاجتماعيه، إن عزلة الفرد عن المجتمع لابد لها من سبب، ومن هذه الاسباب حالات الأكتئاب النفسي التي تاتي عن طريق مغريات الحياة الفانيه، فالأنسان بطبعه يحب اكتساب كل متاع الحياة الدنيا، فإذا لم يكسب ذلك الموقف فسيصاب بصدمه وحالة نفسيه، وبالتالي الأنعزال ، لكن التصوف عالج ذلك بالعزله التعبديه وذكر الله سبحانه وتعالى" الابَذكرِ الله تطمَئن القلوُب" وكذلك القناعه الكافيه ورضى النفس، فالأنسان بطبعه ينعزل ليستعيد ويسترد قواه النفسيه، ثم يعود مرة اخرى ويزاول اعماله.
فالتصوف هو تفقه في الدين ومعرفة بالدنيا، قال رسول الله"صلى الله عليه واله وسلم" (مَن يُرد اللهُ بهِ خيراً يفقهُ في الدين).
اذ يعتبر التصوف جانبا من أخص جوانب الحياة الروحية في الاسلام، وهو تجربة وسلوك قبل أن يكون مذهبا وفكرا، ذلك أنه يعد تعميقا لمعاني العقيدة واستبطانا لظواهر الشريعة، وتأملا لاحوال الانسان في الدنيا وتأويلا للرموز. يعطي للشعائر قيما موغلة في الاسرار، كما أن فيه انتصارا للروح على الحرف أو المضمون على الشكل او الباطن على الظاهر.
هكذا تقتضي قراءة التصوف أن تقف عند أبعاد التواصل في هذا المعنى. ومن الأكيد أن بلاغة الذات الصوفية تصنع مقومات جمالها وأسس فنونها الخاصة بها، بطرق مقصورة عليها تتخذ سماتها من الموضوعات التي تشغل الصوفي، ومن الأنواع الكتابية التي يجعلها علة إلى إيصال أحاسيسه ورؤاه وأفكاره .
فالصوفي ينكر انكارا باتا أن الحقيقة هي ذلك الواقع المحسوس، لان الواقع المحسوس الذي يتشبث به العامة ويكادون يقدسونه، لا يشبع نزعته الروحية العالية، والشوق الى معرفة الحقيقة المجردة.
ذلك ان عالم التصوف لا يكف عن إثارة الباحثين في ساحته لاجتراح التساؤلات بناء على الإرث الصوفي المتجدد الذي لم يسجل تاريخ الفكر بعد انقطاعه عن التواصل مع العصر الحديث، لكونه نتاجا إنسانيا بمعنى الكلمة. وكل منتج إنساني هذا حاله لابد أن يستعصي عن الانقطاع، وأن يتعالى عن التحقيب الزمني واثاره، خلافا لما تكون عليه عادة النظريات المؤدلجة أو المشاريع الفكرية المنهجية.
واخيرا التصوف ملكة فطريه وميل طبيعي من غير اكتساب معرفي، وهو الغريزة التي يولد عليها الأنسان. فالأنسان صوفي بفطرته روحيا من ناحيه كينونتة انطولوجيا، فالانسان بفطرته يحب الاعتكاف في الحالات الاعتياديه هربا من صعوبات الحياة وظلمها. وفي خضم هذا الضياع يكتشف الصوفي لكل شيء معنى، ويغدو اللفظ معنى أولا في داخله معان كثيرة هي وليدة معنى المعنى، تلك الطاقة الإيحائية بلا حدود، فقد خلص الصوفيون مفهوم المعنى من جموده، ونبهوا من موقع الفكر الديني والفلسفي إلى ضرورة اكتشاف المناطق المجهولة من المعنى والتحرر من قيد اللفظ.
لهذا نجد ان النص الصوفي، هو نص يقول ولا يقول، لا يمكن أبدا أخذه على محمل الظاهر، ولا قراءته مثلما تقرأ النصوص العادية والمألوفة، ذلك أن مرماه وهدفه أن يبلغ إلى الروح ويخاطب العقل ويتلبس بالحواس ويقرب التجربة الصوفية، التي هي تجربة في العرفان .
وهكذا نجد الصوفي يترحل عبر العالم، ويقرا في كتاب الوجود الكبير. إن رجل المقام لا يقيم في مكان محدد الأعيان، بل إن الترحل الواقعي وتجريب الآفاق الجديدة، والخروج من مكان، والدخول إلى مكان جديد، حتى يصطاد الحقيقة في طريق أو في غابة أو على ظهر سفينة أو في صحراء أو بين مفاصل واد، أو تحت جناحي طائر.
أما الرمز في النثر الصوفي فهو قضية تعبيرية وأسلوب للتعبير الأمثل عند المتصوفة، لأنه مخرج آمن لأفكارهم الجديدة الجريئة، ومن أبرز سماته أنه قد يكون رمزا لنقيضه، فالموت مثلا رمز للحياة لأنه حياة أخرى.
353 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع