هيفاء زنگنة
هل لمتظاهري العراق برنامج محدد؟
ما هي مطالب المنتفضين في ساحات التحرير في العراق؟ منذ انبثاق انتفاضة الشباب في الأول من تشرين الأول/ اكتوبر، في عديد المدن، ويكاد لا يخلو برنامج تلفزيوني، محلي أو عالمي، أو مقال صحافي من طرح هذا السؤال ومحاولة الإجابة عليه. وإذا كانت الإجابة، في أيام الانتفاضة الأولى، محصورة بأصوات المسؤولين الحكوميين وقادة الأحزاب والميليشيات (يقدمون أنفسهم كساسة)، فإنها لم تعد تقتصر على وجوه النظام أو حتى البرلمانيين الذين كانوا يقدمون أنفسهم باعتبارهم ممثلي الشعب. غاب النواب، اختفوا عن أنظار المشاهدين والجمهور عموما. سقطت أقنعة التجارة بمحنة «المظلومين» من داخل منظومة تجد أن بقاءها في السلطة هو الأولوية وأن الشعب لا يزيد عن كونه « فائض قيمة»، في بلد ريعي، ومن الأفضل التخلص منه، مهما كانت همجية الطرق المستخدمة.
بهذا المنطق، تمت شرعنة شراسة قمع المتظاهرين، المصرين على استعادة وطنهم وملكية شوارعهم بطرق سلمية، وأساليب إبداعية، قلما شهدها العراق سابقا. في المقابل «أبدع» النظام في استهدافه المتظاهرين، بدون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال ما أدى إلى قتل 250 مواطنا وجرح عشرة آلاف، حتى الآن. وحين قام «فريق التحقق الرقمي»، التابع لمنظمة العفو الدولية، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر «بتحديد الموقع الجغرافي وتحليل أدلة في مقاطع فيديو، صورت بالقرب من ساحة التحرير في بغداد، توثّق الوفيات والإصابات بما في ذلك اللحم المتفحم، والجروح التي انبعث منها «الدخان»، تبين أن أنواع قنابل الغاز المسيل للدموع التي أطلقتها شرطة مكافحة الشغب وقوات الأمن الأخرى، على المتظاهرين مباشرة، هي من نوعين مختلفين من بلغاريا وصربيا. ويبلغ وزنها 10 أضعاف ثقل عبوات الغاز المسيل للدموع. وعلى عكس معظم قنابل الغاز المسيل للدموع التي تستخدمها قوات الشرطة في جميع أنحاء العالم يتم تصميم هذين النوعين على غرار القنابل العسكرية الهجومية المصممة للقتال مما أدى إلى إصابات مروعة، وموت متظاهرين بعد أن أغرست القنابل داخل رؤوسهم. كما قال العديد من الشهود إن ما يصل إلى 10 قنابل – والتي يشير إليها المحتجون باسم « الدخانية» – يتم إطلاقها في الوقت نفسه على المناطق المزدحمة، وينبعث منها نوع من الدخان رائحته مختلفة عن أي قنابل غاز مسيل للدموع سبق أن شاهدوها. وقد وجد بحث أجرته المنظمة أنه نظرًا لوزنها وتركيبها، فإنها أكثر خطورة بكثير على المحتجين. وأكد خبير الطب الشرعي للمنظمة أنهم «لم يروا مثل هذه الإصابات الشديدة بسبب هذا من قبل».
يعيدنا استخدام هذه الأسلحة المخيفة والسموم وما تسببه من إصابات مروعة في صفوف المتظاهرين، إلى يوم 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2004، حين بارك رئيس الوزراء، آنذاك، أياد علاوي هجوم قوات الاحتلال الانجلو أمريكي على مدينة المقاومة الفلوجة بحجة تحريرها، مستخدمين اليورانيوم المنضب وجيلا جديدا من الفسفور الأبيض الذي يذيب أجساد الضحايا.
ولايزال أهل الفلوجة، وبقية المدن التي تناثر فيها غبار الموت البطيء، يعانون من الارتفاع الملحوظ في مستويات التشوهات الخلقية عند الولادة، جنبا إلى جنب مع ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة، حسب تقارير علمية معروفة.
ولأن القتلة يتشابهون واصل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي سياسة سلفه فأمر بقصف المدينة بالبراميل المتفجرة، بحجة تخليصها من «الإرهاب»، ولكن مع بعض الاختلاف. لم يعد المحتل الأمريكي هو «السيد» الوحيد، بل بات «آية الله»، الجالس في طهران شريكا يمثله قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، الذي صار وجوده على الأرض العراقية ملحوظا أكثر من دوام النواب في البرلمان العراقي. ولأن سليماني يعرف جيدا أن خونة أوطانهم لايؤتمنون، حضر إلى بغداد، هذه الأيام، ليشرف بنفسه على أداء أتباعه من الميليشيات إلى الوزراء وقادة الأحزاب والنواب، عسكريا ودعائيا.
الملاحظ أن الساسة والمحللين الذين يحاولون الحط من قيمة التظاهرات، وتشويه المطالبة بالسيادة والحرية والكرامة، صاروا يتحدثون عن عدم وجود قيادة واضحة وانعدام البرنامج، بعد أن فشلت اتهاماتهم التي وأدت المظاهرات السابقة، وبعد أن بات للمظاهرات شعار موحد هو «نريد وطن»، يتفيأ في ظله الطلاب والعمال والأكاديميون والمهمشون وعدد من النقابات، وبات الحضور النسائي، ملمحا متميزا، متجاهلين حقيقة أن للانتفاضات ديناميكية تجعل النكوص إلى الوراء مستحيلا وأن التغيير حاصل لامحالة.
إن عدم وجود قيادة واضحة أمام عدسات الكاميرات وفي الاستديوهات ضروري إزاء القمع والإرهاب الرسمي. أما بالنسبة إلى المطالب والبرنامج، فقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي، في الأيام الأخيرة، ما الذي يعنيه المتظاهرون بـ «نريد وطن» ويتضمن برنامجا، من أهم نقاطه: استقالة الحكومة الحالية، تشكيل حكومة انتقاليّة مؤقتة لمدة ثلاثة أشهر فقط، وتتألف من شخصيات تتوفر فيهم أربعة شروط هي: أن يكونوا مستقلين ولم يسبق لهم العمل في أي حزب سياسي سابقاً. لم يسبق لهم العمل في أي حكومة أو مجلس نواب سابق، ولا في أي حكومة محلية أو مجلس محافظة، أن لا يتقدموا للترشيح في الانتخابات المقبلة ولا يشاركوا في الرعاية أو الترويج لانتخاب أي مرشّح، وأن يكونوا من المشهود لهم بالنزاهة والشجاعة والوطنيّة، وأن يتم تعديل قانون الانتخابات وتشكيل مفوضية مستقلة جديدة للانتخابات بنفس شروط أعضاء الحكومة الانتقاليّة، إجراء انتخابات جديدة ويكون موعدها قبل نهاية فترة الحكومة الانتقاليّة، أن يقوم مجلس النوّاب الجديد بتعديل الدستور بفترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، أن تتعهّد الحكومتان الانتقالية والدائمة بإجراء تحقيق عاجل حول الجهات والأشخاص الذين تسببوا بقتل المتظاهرين، وإنزال حكم القضاء العادل بهم، وتعويض أسر الشهداء والتكفل بعلاج الجرحى وتعويضهم، وأن يتعهّد مجلس القضاء الأعلى أن يتم فوراً إطلاق تحقيق «من أين لك هذا؟» بحق المسؤولين الحاليين والسابقين، وسائر موظفي الدولة، واسترداد الأموال من السرّاق مهما كانت الجهة التي تقف خلفهم.
تمنحنا هذه المطالب، ملامح وليس بالضرورة كل ما يمكن أن يعيد البلاد إلى أهلها، ليتمتعوا بكل حقوق المواطنين بلا استثناء، بالإضافة إلى السلام، إقليميا ودوليا. هل هذه أضغاث أحلام ونحن نرى أصبع كل من هب ودب مغروزة في غنيمة العراق؟ لا أظن ذلك. وبإمكان المتظاهرين تحقيقه إذا ما استمروا رافضين لحالة اللا كرامة والإهانة المفروضة عليهم. إنه ليس مشروعا من المستحيل تحقيقه من قبل المتظاهرين الذين نجحوا، خلال شهر واحد، من إسقاط المشروع الاستعماري الطائفي بمحو الهوية الوطنية، ومنظومة التمييز، وهيمنة الأحزاب الفاسدة، والخوف من الميليشيات وأوهام القدسية التي لا تمس.
1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع