د. سعد ناجي جواد
(عراقيون) ولكن …
عندما كنا نعيش في العراق أيام الحرب العراقية- الإيرانية ومن بعدها أيام الحصار الظالم الذي استمر لمدة 13 سنةً تقريبًا، كان ما يؤلمنا ويحز في نفوسنا اكثر من حرماننا وأطفالنا من متطلبات الحياة الأساسية كالغذاء والدواء، هو التصريحات والدعوات التي كانت تصدر من قبل من كانت تطلق على نفسها (معارضة الخارج)، تطالب بتشديد الحصار على العراق والعراقيين، او التي تهاجم بضراوة و قساوة كل جهة تحاول ان تكسر هذا الحصار او تحاول إيصال بعض الحاجات الأساسية للعراقيين في الداخل. وكان عراقيو الداخل يتساءلون كيف يمكن لمن يعتبر نفسه عراقيا ان يتصرف هكذا مع ابناء جلدته وهو يراهم عرضة للجوع والمرض؟ وحتى عندما كانت الحكومة آنذاك تفتح حوارا او تستقبل بعض ممثلي هذه المعارضة (سرًا او علنًا) كنا نحن المستقلون نشعر بالغضب ونرفض تبريرات المنتمين لحزب البعث لمثل هكذا خطوات ونقول لهم كيف يمكن لنا ان نقبل أولئك الذين تركوا البلاد في ساعة عسرتها و ارتموا في احضان اعدائها، وخاصة أولئك الذين كانت لهم حضوة لدى النظام وتمتعوا بامتيازات كبيرة في كنفه، حتى اذا ضاقت الأحوال الاقتصادية تركوا المركب واختاروا ان يقفوا ضد بلدهم وشعبهم. (طبعًا كنا نعذر بل و نفرق بين هؤلاء وأولئك البعض الذين تركوا البلاد بحثا عن لقمة العيش او خوفا على حياتهم لكنهم ظلوا ملتصقين بالعراق ولم يعملوا ضده). وكان الغضب يتصاعد اكثر اذا ما تسرب خبر عن إمكانية ان يتسنم احد من هؤلاء (المعارضين) منصبا رفيعا ثمن عودته. نعم كان الشعور السائد داخل العراق وبين غالبية العراقيين ان هؤلاء لا يمكن ان يكون لهم اي دور في إدارة العراق، أما أولئك الذين وصل بهم الامر الى ان يقاتلوا ضد بلدهم او ان يقتلوا ابناء جلدتهم خدمة لاوامر اجنبية فان النظرة لهم كانت لا تتعدى الاستصغار والمطالبة بمحاكمتهم، وعندما كان بعض الإخوة العرب يطلبون منا خلال سفراتنا الخارجية القليلة ان نستمع لوجهات نظر بعض هذه النماذج كنا نرفض و نرد عليهم ان الخيانة هي ليست وجهة نظر.
فجاءة تغيرت الأمور في العراق بعد الاحتلال، ووجد العراقيون أنفسهم ليس فقط مضطرين لقبول هذه النماذج بين ظهرانيهم، بل القبول بهم كولاة أمور سلطهم الاحتلال على رقابهم. ولكن الغالبية من العراقيين لم يشعروا للحظة واحدة بالندم على الطريقة التي كانوا ينظرون فيها الى هؤلاء، ولم يتغير تفكيرهم عنهم، خاصة بعد ان اثبتوا من خلال القتل والتصفيات الطائفية والعرقية والدينية، ومن ثم فسادهم الكبير الذي افلس العراق، بانهم لم يكونوا يستحقون غير الشعور الذي خصهم به العراقيون. نعم ظهر هناك ضعاف نفوس كثيرون التفوا حولهم لمنافع شخصية و اثروا من ورائهم، ولكن وبعد مرور ستة عشر عاما أضاف العراقيون ضعاف النفوس هؤلاء الى النماذج التي تحالفت معها.
رب سائل يسال وما الذي اثار هذ الشجن اليوم وبعد كل هذه السنين العجاف؟ والرد على هذا السؤال هو ان هذا الشعور لم يغادر العراقيين الذين عانوا وعوائلهم من الحصار لحظة واحدة، وانتقل الى الى أولئك الذين عانوا من ويلات الاحتلال وما تلاه، وهو شعور يطغى دائما في ظروف و احداث معينة. فمثلا يستطيع العراقيون ان يتداولوا همومهم ومصائبهم التي تحدث في داخل العراق فيما بينهم ويتحملوا أوجاعها، ولكنهم يشعرون ان كرامتهم تجرح كثيرا عندما يجدون ان هناك من يهين بلدهم وكرامتهم الوطنية في الخارج او في الأوساط الدولية، مثل ان يقوم سفير او موظف دبلوماسي رفيع برفع علم دولة غاصبة عنصرية معتدية، او يصافح ممثل دولة عدوة، او ان يتهافت بعضهم للحصول على مباركة ودعم دولة خارجية، او ان يصرح مسؤول رفيع اخر تصريحات طائفية او عرقية مقيتة وبدون اي احترام لمشاعر اطياف الشعب العراقي، او عندما يطلب (مسؤول) من العراق ان يدفع مئات المليارات تعويضات لبلد اخر، او يسرق اخر مئات الملايين من الدولارات ويضعها في حسابه في دولة أوربية، ولا تحاسبه الدولة على ذلك بل تسمح له ان يطلق تصريحات ممزقة للوحدة الوطنية بدعوى انه، وهو السارق، يمثل الشعور الوطني العراقي. ولعل اخر نموذج هو الكلمة التي القاها في مجلس الأمن من يسمى بمندوب العراق الدائم في الأمم المتحدة. (مندوب العراق) هذا، الذي كان يفترض به ان ينقل للمجلس معاناة ابناء البلد الذي يمثله، انهال عليهم بالاتهامات والتعنيف متهما اياهم بكل ما اوصله اليه اولي نعمته من اكاذيب وتلفيقات، ولم يقل كلمة حق منصفة واحدة بحق ابناء البلد الذي أوصله لهذا المنصب الرفيع. ولكن وبما ان المبدأ الكوني الإلهي القائم على مقولة (لا يصح الا الصحيح) فلقد يسر الله للعراقيين شخصان مسيحيان كشفا تزوير و تدليس (مندوبهم الدائم المسلم!!!). حيث تحدثت ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق وتلاها رجل الدين المسيحي العراقي بما أعطى المجلس فكرة واضحة عما يجري في العراق. طبعًا موقف المندوب هذا قد لا يكون مستغربًا اذ ما تذكرنا ان المرحوم والده قد سبقه عندما ظهر بعد أسابيع من الاحتلال على شاشات التلفاز مع ممثل الاحتلال سيء الصيت بول بريمر ليعلن وببهجة وفرحة كبيرتين يوم 9 نيسان، يوم احتلال بغداد، (العيد الوطني للعراق!!!) وبموافقة مجلس الحكم الذي شكله بريمر من نماذج من نفس النمط، ثم اجبرهم العراقيون بشعورهم الوطني على ان يتراجعوا عن هذا القرار فيما بعد. هذه الحادثة وحوادث اخرى لا تعد و لاتحصى رسخت لدى العراقيين افكارهم السابقة عن الوجوه الكالحة التي كانت تدعي المعارضة وحرصها على العراق و العراقيين، لا بل وزادت عندهم من شعور الكراهية لهذه النماذج بعد ان شاهدوا الطريقة التي مزقوا فيها البلاد وسرقوا ثرواتها وطعنوا وحدتها الوطنية، ولم تكتف بذلك بل وصلت الى مرحلة قتل ابناءها وشبابها يوميا وبدم بارد و بدون حياء و خجل. فهل بقي هناك من يلوم العراقيين على موقفهم وشعورهم هذا؟
وتبقى هناك كلمة اخيرة يجب ان تقال وتكرر وهي انه من المؤسف وبعد كل ما جرى يبقى هناك من يعتقد ان الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت ولا تزال السبب الرئيس في ما وصل اليه العراق، يمكن ان تكون المنقذ، وهولاء شانهم شان من كان يقول لنا قبل عام 2003، ان (لا منقذ للعراق سوى امريكا). ان من ينقذ العراق من محنته هو شعبه وأبناءه المخلصين الأوفياء لتربة وطنهم وعكس هؤلاء سوف لن يكون مصيرهم سوى مزبلة التاريخ والمحاكم العادلة التي سوف تقام بحقهم عاجلا او آجلا.
1406 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع