د. منار الشوربجي
هل يصمد نظام الحزبين بأمريكا؟
الأهم من مجريات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في تقديري، هو تبعاتها على مستقبل السياسة.
فالحملة الانتخابية الطويلة تمثل لحظة كاشفة تجسد التحولات الجارية بالمجتمع والسياسة، وتكشف عن طبيعة توازنات القوى داخل الحزبين وقدرة كل منهما على تقديم رسالة تعبر عن أغلب قطاعات ناخبيه.
لكن تراكمات العقود القليلة الماضية صارت مؤشراً على غليان كامن تحت السطح بالمجتمع الأمريكي، صار يطل برأسه بدرجة متزايدة في الأعوام العشر الأخيرة.
فالهوة الواسعة في مستويات الدخل صارت مصدر غضب قطاعات واسعة، وعبرت عن نفسها بأشكال شتى من حركة «احتلوا وول ستريت»، ومروراً بانتخاب أوباما، ثم ما تلاه من إحباط واسع بين مؤيديه حين خبروا سياساته، ووصولاً لدعم واسع لترامب من على يمين الساحة ودعم قوي لبيرني ساندرز من يسارها.
وجوهر الأزمة التي تعبر عنها تلك التجليات المختلفة هو شعور قطاعات واسعة من الأمريكيين بأن النخبة السياسية للحزبين الكبيرين لم تعد تعبر عنهم، ولا هي تتناول أصلاً أوجاعهم السياسية. فالغضب الكامن على يمين الساحة السياسية له جذور قوية تضرب بجذورها في عمق التاريخ الأمريكي.
فمنذ الحرب الأهلية وإلغاء العبودية في القرن التاسع عشر، ثم حركة الحقوق المدنية في القرن العشرين، ظل هناك قطاع من البيض يرفض مساواة السود وغيرهم من الأقليات بهم.
ومع الوقت صار الحزب الجمهوري، حزب لينكولن الذي ألغى العبودية، يستخدم لغة شفرية تعبر عن ذلك المكنون وحوّله لأداة لكسب الأصوات بالانتخابات العامة.
لكن ذلك لم يعد كافياً في العقد الأخير. فقد ازدادت المعاناة الاقتصادية لشرائح واسعة من ذلك القطاع ذاته، فصارت تعادي النخبة بالمطلق لشعورها بأنها تعمل ضد مصالحها ولا تهتم بأوجاعها.
ومن هنا، صار الحزب الجمهوري، حزب النخبة الاقتصادية والمالية، والذي صار أيضاً حزب البيض بشكل متزايد، يجد نفسه في مأزق حقيقي.
لذلك، كان دونالد ترامب، الذي رفضه الحزب أول الأمر، بمثابة الإنقاذ. وهنا تكمن المفارقة.
وهي لم تكن فقط أن المرشح الذي رفضه الجمهوريون أنقذ حزبهم من الهزيمة، وإنما أن ترامب الذي ينتمي أصلاً للنخبة الاقتصادية التي تعاديها تلك الشرائح الواسعة من البيض، هو نفسه الذي استطاع إقناعهم بأنه يدعمهم ضد تلك النخبة نفسها.
فخطاب ترامب في انتخابات 2016، لم يكن فقط مؤججاً لمشاعر معاداة الأقليات ومجسداً لها وإنما كان أيضاً مجسداً لمعاناة الطبقة العاملة البيضاء، والتي كانت تقليدياً تمنح أصواتها للديمقراطيين.
ولأن ترامب قدم لهم خطاباً اقتصادياً مغايراً ومعادياً صراحة للأقليات، فقد تركت تلك القطاعات الحزب الديمقراطي، الذي لم يعد يختلف كثيراً في سياساته الاقتصادية عن الحزب الجمهوري.
فبيل كلينتون، الديمقراطي، كان عهده استمراراً لسياسات الجمهوريين التي سعت لتفكيك برامج دولة الرفاهية التي أنشأها رؤساء ديمقراطيون في الثلاثينيات والستينيات، وأدت لدعم قطاعات العمال والأقليات، والأقل حظاً اقتصادياً بوجه عام للحزب. وتجاهل كلينتون قضايا الأقليات، كون الأخيرة لا يمكنها التصويت للجمهوريين.
وهو سعى، بدلاً من ذلك، لاجتذاب قطاعات يمينية كانت دوماً في خانة الحزب الجمهوري. وعمل كل من كلينتون ثم أوباما من بعده على إحداث تحول في السياسات الاقتصادية لاجتذاب تمويل. فكانت السياسات التي تدعم قطاع المال تحديداً، مما جعل الحزب يعبر مثل الجمهوريين عن مصالح الشرائح الأعلى.
ولم تتغير في عهدهما الفجوة الهائلة بين الأثرياء والفقراء. وقد نتج عن ذلك غليان واضح على اليسار، عبر عنه جيل الشباب أكثر من غيرهم.
فكانت المفارقة هي أنهم أيدوا ساندرز السبعيني في 2016. بينما هجر العمال الحزب لصالح الجمهوريين، وانخفضت بشدة نسبة تصويت السود، فكانت الهزيمة.
ومن ثم فإن السؤال الأهم في انتخابات 2020 هو ما إذا كان الحزبان الكبيران سيصمدان عقب ما ستؤول إليه نتائجها أم ستؤدي لانفراط عقد الحزب المهزوم ومن ثم تكون بداية النهاية لنظام الحزبين.
1109 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع