محمد عبد الرضا شياع
قراءةٌ بِعَينِ القَلب أَلومضةُ الشِعريَّةُ بين المعنَى والدلالة
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
شهد المعهد العالي للصحافة يوم 29 شباط 1996 يوماً دِراسيّاً نظَّمتْه الجمعيَّةُ المغرِبيّةُ لأبحاثِ الاتصالِ، وكان برنامجُ هذا اليومِ مُشتَمِلاً على جلستين:
الأولى خُصِّصَتْ لندوةٍ عِلميّةٍ حَولَ موضوعِ الاتصالِ والتَربية، وقد ساهمَ فيها عددٌ من الأساتذةِ الباحثينَ والمُهتَمِّينَ بِمَحْوَرَي الموضوعِ بِعُروضٍ تَلَتْها تَعقِيباتٌ. ومن بينِ العُروضِ المُقَدَّمَةِ ’’أَزْمَةُ الاتصالِ والتربيةِ في مجتمعٍ نامٍ‘‘ للدكتور زكي الجابر و’’المعلوماتِيَّةُ وإمكانيّةُ الاستفادةِ منها في تَطويرِ العلاقاتِ بين الاتّصالِ والتَربيةِ‘‘ للدكتور أحمد تَفاسگا وغيرهما. وقد تَرأَسَّ الجلسةَ الأستاذُ محمد العَرَبي المْسارِي.
الثانية خُصِّصَتْ لِتَكريمِ الأستاذ زكي الجابر، أستاذِ الإعلامِ السَمِعيِّ البَصَرِيِّ بالمعهدِ العالي للصحافةِ وأحدِ الباحِثينَ المتخصِّصينَ في هذا المجالِ في العالمِ العربيّ. وقد شاركَ في جَلسةِ التكريمِ الأستاذ عبد الله شَقرُون ومحمد عبد الرِضا شياع وأمجد ناصر حسون ومُصطفَى الجَماهْرِي وعبد الفتّاح الحَجْمَرِي ومحمّد طلال وأحمد العاقد. كما شاركَ د. زكي الجابر بقراءاتٍ شعريّةٍ، تَبعهُ عددٌ من الشعراءِ الشَبابِ من طَلَبةِ المعهد. وفيما يلي نَصُّ مُداخَلَةِ الباحثِ العراقيِّ المقيمِ في الرباطِ محمد عبد الرضا شياع، وعنوانُها ’’قراءةٌ بِعينِ القلبِ - الوَمضةُ الشِعريّةُ بين المعنَى والدلالة‘‘.
تَمتَدُّ مَعرِفَتي بِمُبدِعنا الكبيرِ الأستاذ الدكتور زكي الجابر إلى فترةٍ تَأخُذُ من العَودةِ إلى الماضي مَسكناً لها إلى يومٍ كنتُ أحلمُ فيهِ بِوُلوجِ أرضٍ كثيراً ما تصوَّرتُها ترتدي لِباسَ الخُرافةِ البهيجَ لأنّها أرضٌ يتعانقُ فيها الواقعُ بالخيالِ وكلِّ ما لهُ عَلاقةٌ بالعَملِ الفَنّيِ لِيُدرِكَنا الزمنُ ونَحنُ نتربَّصُ في ذلكَ المكانِ الذي عَشِقنا مَعرِفَتَه.
وأنا أَدخُلُ إلى رِواقِ كليّةِ الآدابِ في باب المُعَظَّمِ بالعاصمةِ بغداد كُنتُ أَستَرِقُ السمعَ وأُحاولُ المُجازَفةَ للدخولِ في حواراتٍ مَعرِفيَّةٍ أجهلُ الكثيرَ عن مَنابِعِها وعن الرُموزِ البانِيَةِ لِصَرحِها. ومن بين تلك الرموزِ كانَ يتردَّدُ، بين الحينِ والآخرِ، اسم الدكتور زكي الجابر المعروفُ بمنزلتِهِ العلميّةِ المُتفرِّدَةِ والُمتألِّقةِ بين أقرانِه. وما يخلعُ على هذه المَنزلةِ العلميّةِ الرفيعةِ حُلَّةَ البهاءِ هو ما يتمتَّعُ به مُبدِعُنا المُحتَفَى به من أخلاقٍ ساميةٍ وتَواضُعٍ مَهيب:
مَلْآى السنابلِ تَنحنِي بِتَواضُعٍ
والفارِغاتُ رُؤوسُهُنَّ شَوامِخُ
وَلَعمري هذه هي صفاتُ من كتبَ له القدرُ لِأَنْ يكونَ عَلَماً يُفعِمُ في الناسِ ارتعاشَةَ المَحبَّةِ وأَلَقَها.
وكَمْ وَدِدتُ لقاءَ الأستاذِ الجابرِ آنذاكَ ولَو من بعيدٍ وكم كانت لهفتي كبيرةً لشراءِ مجلّةِ الأقلامِ (العراقية) في عددِها الخاصّ بالشعرِ المُعاصرِ عام 1981 لأنها كانتْ تحتوي على مقالٍ يحملُ عُنواناً يلفتُ الانتباهَ: ’’أَلشعرُ ووسائِلُ الاتصال‘‘ للدكتور زكي الجابر. مقالٌ يَشحنُه الكاتبُ من الصَفحةِ الأولَى بِدُرَرِ التُراثِ العربيِّ والعالميِّ وبِجُمَلٍ مقتَضِبَةٍ ومُكَثَّفَةٍ تُغني عن عَشَراتِ الصَفَحات.
بَيْدَ أَنَّ القَدَرَ كَتَبَ لِحُلُمِ اللقاءِ أن يتحقَّقَ على أرضٍ يأبَى من يَجسُّها بِجَسَدِه إلا أَنْ يُعانِقَها بروحِه، إنّها أرضُ المَغربِ الحبيب. إِلتقيتُه فيها تارةً وَجهاً لوجهٍ وأُخرَى عَبرَ تَحيّةِ العُبور بأَيادٍ مُسافِرَةٍ وبِقَلبٍ يخفقُ من بعيد. وفي كلِّ لقاءٍ مع صَديقِنا وأُستاذِنا تكونُ عِندَهُ النهايةُ مِثلَما هي البداية، لِيمنَحَ ضوضاءَ المكانِ سكينةَ الشعرِ ويَنتَشِلَ صَمتَهُ من أمطارِ أَحزانِه، لِيَدعُوَ مَن حَولَهُ إلى ولوجِ أبوابِ متاهَةٍ يحتفي بكتابِة قصيدةٍ جديدةٍ تُهيِّؤُها دًواخِلُ شاعِرِنا في سَفَرِ ليلٍ طويلٍ، لأن الشاعرَ نَفسَهُ أرادَ لها ذلك، وهو ما قرأناه مُؤَخَّراً في وَمَضاتِه الشِعريّةِ التي وَسَمَتْ وجدانَنا بِميسَمِ حُضورِها المتجدِّدِ مع تحيَّةِ كلِّ صباح.
هكذا هو السَفَرُ في مَلَكوتِ الشاعرِ المُمتَدِّ في الزمانِ من عام 1981 إلى عامِنا هذا، والمتجسِّدِ في تضاريسِ المكانِ من بغدادِ الشعرِ إلى رِباطِ المَحَبَّةِ، وبَينَ ’’الشِعرِ ووسائِلِ الاتّصالِ‘‘ وبينَ ’’الوَمَضاتِ الشعريّةِ‘‘ تتعدَّدُ مُنعَطَفات السفرِ حينَما يَفتحُ لنا الشاعرُ أبوابَ رَهْبتهِ وفضاءَ عالَمِهِ الحافلِ بالدَرسِ والنَقدِ والتَرجَمَةِ والكِتابةِ الشِعريَّةِ القابعةِ تحتَ خيمةِ الإبداعِ، فتستجيبُ الذاتُ طائعةً دَعوةَ السَفَرِ في تلكَ الرهْبةِ وفي هذا الفَضاءِ لِتَغتَسِلَ الروحُ بِرَذاذِ أريجِ إِبداعهِ بعدَ أن ودَّعَتْ أرضَ الخُرافَةِ التي كانت رابضةً على تُخومِ الزمنِ وهي تتهجَّدُ بإيقاعِ القصيدةِ الراجِفِ بِعِشقِها الأليف.
مِن هنا يُتَوَّجُ سِفْرُ صداقتِنا ومحبّتِنا بقراءةِ قصائِدكَ، أيُّها المبدعُ، المُحاطَةِ بِظلالِ التَسْمِيات، فتارةً أسمَيْتُها وَمضةً وتارةً أسمَيْتُها بَرقِيَّةً والآنَ أفتِّشُ لها عن اسمٍ آخرً، فبَقيتُ مُنشَدِهاً بينَ آفاقِ التَسمِياتِ، لِأنّني لا أتفرَّدُ بمحبّتِك وتقديرِكَ، أيّها الشاعرُ، وإنّما هناك الكثيرُ مِمّنْ يُشاطِرُني هذا التقديرَ، لذلكَ كان لِسُؤالِ الآخَرينَ حُجَّتُه عن ماهيّةِ هذه التَسمِيات.
وأنا في حَيْرَتي هاتِهٍ سَمعتُ نِداءً، يا سيّدي الشاعر، ينبعثُ من أَعماقِ روحي ويُطَوِّحُ بِصَمتي وبِقَلَقي، فهو صوتٌ قريبٌ منّي، صوتُ شاعرٍ قرأتُ له الكثيرَ مما كتبَ، فظلَّتْ كتاباتُه تسكنُ كهوفَ ذاكرتي. فقالَ لي: ’’كانتْ لي نفسُ الحَيْرَةِ عندما التقيتُها في جبالِ الثلجِ، عندما التقيتُ بتلكَ الفنّانة ذاتِ الجمالِ المجنونِ، فتعذَّرتْ عَليَّ معرفةُ اسمِها الآسيَوِيِّ المُكوَّنِ من عَشَرةِ حروفٍ غامضةِ الأصول، لذلك أسمَيْتُها ’’مَوْقِدُ النار‘‘ لأنّها أَوقدَتِ النارَ في أحشائي ورحلتْ لحظةَ العناق. رحلتْ لحظةَ رأيتُها تُعلِّقُ ضفائِرَها المَبلولةَ بشجرةِ وردٍ تتَهادَى بجانبي، فَتركتْني أذرفُ الدموعَ كعاشقٍ صغيرٍ يفتِّشُ، بِريبةٍ، عن آخرِ معشوقةٍ له على هذه الأرض. إنّها كائنٌ غريبُ الملامحِ يُوقِظُ العاشقَ من رُقادِه الأبديّ. هذه هيَ قصائِدُك، وَمَضَاتُك، برقِيّاتُك، سيّدي الشاعرَ المُحتَفَى به، فلتَكُنْ قصائدُ الجابرِ ’’مَوقِدَ النار‘‘ الذي يُحيي ما كانَ ميتِّاً من دمٍ وأملٍ وذِكرياتٍ شِعريّةٍ تُعاني لوعةَ الجَفاء‘‘. هكذا قال لي ذلك النِداء. ثم أضافَ: ’’إقرَأْ قصائَدِ الجابرِ بعينِ قلبكَ، وإذا شِئتَ فاقرأْها بعَينٍ مُغمَضَةٍ وانتظِرْ وِلادةً جديدةً لها لأنّها ستكونُ أجملَ امرأةٍ تُحرِقُكَ بنارِ سحرِ أُنوثَتِها في بلادِ الجليد حتّى وإِنْ قذفتْكَ أمواجُ بَهائِها إلى أقاصي أراضٍ بِكْرٍ تجهلُ بداياتِها والنِهايات‘‘.
لِذلكَ، سيّدي الشاعِر، سأُطِلُّ مُجَدَّداً على قصائِدِكَ، وَمَضَاتِكَ، بَرقِيّاتِك، بل علَى ’’مَوقِدِ النارِ‘‘ التي يَهتَدِي عليها الباحِثونَ عن السعادةِ في ليلِ السَفَر. نَعَمْ، سيّدي الشاعِرَ، إنَّها النارُ المتَّقِدَةُ في مَعبَدِ الشِعرِ المُقدَّسِ الذي يَؤُمُّه الشعراءُ والقِدِّيسونَ لِتَرتيلِ صَلَواتِهم الشِعريَّةِ واللاهُوتِيَّةِ في قُدَّاسٍ يأخذُهم إلى الذاتِ الإنسانيّةِ العُليا في عِناقٍ بَهيجٍ وفي سَفَرٍ مألوفٍ يتوحَّدُ فيه الفِعلُ الإِنسانيُّ بِعَناصِرِ الطَبيعةِ الخالِدة.
هكَذا نَجدُ شاعِرَنا في القصيدةِ الأولَى: ’’التُفّاحة‘‘
’’وهذه التُفّاحَةُ الحَمراءْ
أَقسِمُها شَطْرِينْ
بَيني وبَينَ مَنْ أُحبُّها
في ليلةٍ ظَلامُها ضِياءْ
وصَمتُها غِناءْ
خَشْيَةَ أَنْ تعودَ في أَكُفِّنا
حِجارةً صَمّاءْ‘‘
تَستمدُّ هذه القصيدةُ تأثيرَها من خَلَجاتِ النفسِ وأحلامِها السابِحَةِ في فضاءاتِ الخيالِ، على اعتبارِ أَنَّ الخَيالَ هو ’’قُوَّةٌ رئيسيَّةٌ من قُوَى الطبيعةِ الإنسانيّةِ‘‘ وهو في نَفسِ الآنِ ’’مُبدِعُ الصُوَرِ‘‘ مثلما يَرَى ’’گاستون باشلار‘‘ Gaston Bachelard(1). فهذه القصيدةُ ما هي إلا تَدَفُّقٌ شِعرِيٌّ يَتعانَقُ فيه الخيالُ مع الواقعِ، حَيثُ تَقومُ الصورةُ فيه علَى التَلقائِيَّةِ لأنَّها تَخضَعُ لِتَجرِبةِ الشاعرِ ومُعاناتِه المُرتَبِطةِ بالعناصرِ المُكوِّنَة للعملِ الإبداعيّ. كما أَنَّها ومضةٌ شِعريّةٌ تُضئُ خَبايا الذاتِ وتَبوحُ بما يَعتِلُج داخلَ النَفسِ، تَتأسَّسُ الشِعريةُ فيها على الصَفاءِ والأَلَقِ حَيثُ الجَمْعُ بين المَتَضادّات في المَعنَى والتقريبُ بين المتنافِراتِ في الدلالة. فزكي الجابر، هُنا، ليسَ كـ ’’جاك پريڤير‘‘ Jacques Prévert(2) الذي يجعلُ ’’لونَ النورِ ولونَ الظلمةِ تَوأمَين من نفسِ الضوءِ‘‘ وإنما يَخلقُ بينَهُما ’’فَجوةَ مَسافةِ تَوَتُّرٍ‘‘ بتعبيرِ كمال أبو ديب(3) عَبْرَ الألوانِ المُتَضادَّةِ: ’’في ليلةٍ ظلامُها ضِياءْ‘‘ وكذلك عندما يَصيرُ ’’الصَمتُ غناء‘‘. فالشاعرُ يُحَقِّقُ التَحَوُّلَ من حالةِ الثَباتِ إلى حالَةِ الحرَكةِ بِحَسْبِ المفهومِ ’’اللوتماني‘‘ (نسبة إلى ’’يُوري لُوتمان‘‘ Yuri Lotman(4))، أي الانتقالُ من وَضعٍ لآخَر. فَصَمتُ زكي الجابر ليسَ كصمتِ ’’پابلو نيرودا‘‘ Pablo Neruda(5) العاشق: ’’غَيرُ مَعدودٍ قلبُ الريحِ، يَخفِقُ علَى صمتِنا العاشق‘‘، وإنما هو صَمتٌ يُطِلُّ على الحياةِ من نافذةِ الموتِ.
هذا التَضَادُّ يَخلُقُ مِتعَةَ ونَشوةً لدَى المًتلقِّي، يجعلُه يتأمَّلُ البِناءَ الجَديدَ للّغَةِ الشِعريةِ الذي لا يَختلِفُ عن لغةِ النثرِ من حيثُ الدلالةُ، وإنما يَكمُنُ الاختلافُ في السياقِ الجديد، أي السِياقِ الدلالِيِّ الإيمائِيِّ الذي نقلَهُ الشاعرُ إليهِ. وهذه الصورةُ التي رسمها زكي الجابر بِخَيالِ المُبدِعِ تَبوحُ بِصورةِ الإنسانِ الذي يَصهَرُهُ الألَمُ الخَلّاقُ فتتحوَّلُ عندهُ لُغَةُ الحَكْيِ إلى لُغةِ الإِبداع.
فالسِياقُ الذي تَخضَعُ إليهِ الصُورةُ الشِعريَّةُ عَبْرَ العناصِرِ المُتضادَّةِ لم يَكُنْ نتيجةَ وَعْيٍ مَقصودٍ من قِبَلِ الشاعرِ لأَنَّ الشاعرَ لحظةَ كتابةِ القصيدةِ يَكتُبُ بالوَعْيِ الشعريِّ لا بالوَعْيِ العَقلانِيِّ، فيكونُ الاتّحادُ بين الذاتِ والموضوعِ الذي تَذوبُ علَى أَساسِه عَمليّةُ الفَصْلِ بينَ الثُنائِيّاتِ، أي يَنحازُ المَعنَى إلى المَعنَى فَيتِمُّ التَوَحُّدُ بين الأشياءِ رَغمَ تَنافُرِها. فالأشياءُ في الكَونِ تَعيشُ لحظةَ خَفاءٍ لِمَعناها بينَما تَعيشُ الدَلالةُ الشِعريَّةُ لَحظَةَ التَجَلِّي. والشاعرُ، بِطبيعةِ الحالِ، لا يُدركُ ما يُدرِكُهُ المُتلقِّي لأَنَّ المُتلقِّيَ يَستقبلُ العملَ الإبداعِيَّ بعقلِهِ الواعِي فيُحِسُّ بالفَوارِق بينَ الأشياءِ، بَينَما يكتبُ الشاعرُ بِعَقلِه الباطِنِيِّ، لذلكَ فإِنّ استيعابَ العمليَّةِ الإبداعِيَّةِ يِتطلَّبُ من القارئِ وَعْياً إِبداعِيّاً يُمكِّنُهُ من سَبْرِ أَغوارِ النَصِّ والوُصولِ إلى ضَفًّتِه الأُخرَى.
يقولُ الشاعرُ في قصيدةِ ’’السِندِباد‘‘:
’’يا أَيُّها المُغامُر السِندِبادْ
هناكَ شئٌ دونَهُ تَموتْ
وَثَمَّ أشياءٌ لها تَحَيا
وثَمَّ وَجهٌ تافِهٌ
لا يَستحِقُّ حَتَّى بَصقَةَ الإهانَة!
فامكُثْ هُنا!
فَعِندَنا بَقِيَّةٌ مِن زَادْ
حِكايَةٌ لَم تَرْوِها شَهرَزادْ‘‘
تقومُ هذه القصيدةُ على الكشفِ والمُغامرةِ، على الرَغمِ من أّنّها تَبدو خاضَعةً لقَصْدِيَّةِ الشاعرِ، نَظَراً لما تَنطوي عليه من تَوظيفٍ للتُراث. إِلّا أَنَّ تِلقائِيَّةَ البِناءِ وانسِيابِيَّة الإيقاعِ لا تَدُلّانِ على أنّ القصيدةَ قائِمةٌ على الافتِعال. فأَبياتُها القليلةُ المُتماسِكَةُ تَجعَلُها بَعيدةً عن الصَنعَةِ والسَبْكِ الواعي. وتَدَفُّقُ الصُورِ يُوحي بأنَّها بُنِيَتْ على ما تَنطوي عليه كُهوفُ ذاكرةِ الشاعرِ من تَرَسُّباتٍ ثقافيّةٍ، فجاءتْ بَوْحاً في لَحظَةِ تَجَلٍّ جَعلَتْها وِعَاءً تَتَبلورُ فيه الدَلالات. وبِذلكَ تَعثُر القصيدةُ على فِتْنَتِها المُنتَظَرَةِ وفاعِلِيَّتِها في الآخَرِ، لأنّها تَلتَذُّ بِدَفْقِ سَجِيَّتِها الحِكائِيَّةِ وتَرانِيمها الإيقاعيَّةِ الجميلةِ التي تَمنَحُها تَوَتُّراً شِعريّاً به تكونُ كياناً زاخِراً بشِعرِيّتِه.
وأخيراً، يقولُ الشاعرُ في قصيدةِ ’’الوردة‘‘:
’’الوردةُ الحمراءْ
تَرَكْتُها لِقُبلةِ الفَراشَه
فَفِي رَحيقِها شَرابُها
من سُكَّرٍ وماءْ
لكنَّ تلكَ الزهرةَ البَيضاءْ
أَجمَلُ ما في الأرضِ مِن نِساءْ
عانَقتُها... وافَيتُها
بِحُرقَةِ الدِماءْ
فاحتَرَقَتْ
وارتَفعتْ برأسِها
تُضاحِكُ السَماءْ
زاهِيَةً حَمراءْ‘‘
في هذه القصيدةِ قوةٌ للعاطفةِ وتدفُّقٌ وتَكثيفٌ لِلرُؤيا على الرغمِ من أنَّ الشاعرَ لا يُسمِّي الأشياءَ بِمُسَمَّياتِها لأَنَّ تَسمِيَةَ الأشياءِ من طَبيعةِ العِلم، أما استخدامُ الألفاظِ المَجَازِيَّةِ فهو مِن طبيعةِ الشعرِ. وهذا هو الانزِياحُ الذي أكَّدَ عليه ’’جان كوهن‘‘ John Michael Cohen(6) باعتبارِهِ ضرورةً من ضًرورِيّاتِ الشعرِ، يَكشِفُ عن المَعنَى العاطفِيّ والوِجدانيِّ في هذه القصيدة. والحديثُ، هُنا، عَن الوردةِ يَشتَمِلُ في مضمونهِ على صِفاتٍ إنسانيّةٍ خالِصة. فالوردةُ كِنايَةٌ عن المرأةِ، وفي هذا انجِذابٌ وغِوايَةٌ ونِداءٌ للذاتِ في لَحظةِ عِشقٍ دافئةٍ تَتِيهُ فيها الروحُ في صَحراءِ العَدَم.
إِنَّ مواضيعَ القصائدِ الثلاثةِ ما هي إلا صرخةٌ لنِداءِ الذاتِ تتسرَّبُ عَبْرَ وَمَضاتٍ شٍعريّةٍ وصُوَرٍ خاطِفةٍ تَنِمُّ عن قُدرَةٍ عالِيةٍ في الخَلقِ الإبداعيِّ لحالاتٍ إنسانيّةٍ تَجدُ مَلاذَها في الحُبِّ الذي يعيشُ جَنيناً في أحشاءِ الكونِ وفي بَهاءِ نفوسِنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر المعلومات عن الأعلام الوارد ذكرها هو ويكيپيديا.
1- گاستون باشلار Gaston Bachelard، من أهم الفلاسفة الفرنسيين، 1884-1962، تُرجِمَ أغلب مؤلفاته إلى العربية وهي في فلسفة العلوم، ثم تحول إلى التحليل النفسي.
2- جاك پريڤير Jacques Prévert شاعر وكاتب فرنسي شهير، 1900-1977، كتب القصص القصيرة كذلك.
3- كمال أبو ديب، كاتب وناقد سوري، ولد 1942، شغل منصب أستاذ كرسي العربية في جامعة لندن منذ 1992.
4- يُوري لُوتمان Yuri Lotman من أستونيا، الاتحاد السوفيتي سابقاً، 1922-1993، متخصص بارز في الأدب والسيمياء والتأريخ الثقافي، له نتاج غزير يتجاوز 800 عنوان.
5- پابلو نيرودا Pablo Neruda ولد في قرية پارال، تشيلي، 1904-1973، شاعر حائز على نوبل ودبلوماسي، وكان ذا توجه شيوعي.
6- ’’جان كوهن‘‘ John Michael Cohen (1903-1989)، غزير الإنتاج في ترجمة الأدب الأوروپي إلى الإنگليزية.
1123 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع