بقلم د. رحيم الغرباوي
سطوة المحاكاة وسلطة الترفُّع قراءة في قصيدة (إليكَ عنِّي) للشاعرة فاطمة هادي شاكر .
يبدو أنَّ الشاعر يمازج بين عالمين ، هما :عالم المثل وعالم الحس ، ويبدو أنَّ نزعة الشاعر هذه استنبطها من الديانات والفلسفات التي طرحت عالم المثل لدى الفلاسفة ، وعالم الغيب الميتافيزيقي في الديانات ، ولما كان الشاعر يبحر في هذه العوالم عن طريق خياله ، وهو يحاول أنْ يكمل النقص الحاصل في الواقع ، أو أنَّه يحاول أن يعالج قضايا ناقصة ؛ ليكملها ؛ ما جعله يذكِّر بالقيم والمُثل فيملأ النقص الحاصل لذلك الواقع ، ولعل الفن جاء في طروحات أفلاطون بوصفه محاكاة لعالم المحسوس ، وفُسِّرت هذه المحاكاة بأنها حرفية ، أو صورة طبق الأصل لعالم الواقع، بينما خالف أرسطو رأي أستاذه بفهم المحاكاة على نحو آخر ، إذ لم يقصد أرسطو الطبيعة هنا طبيعة الكون الظاهرة ، بل قصد بها القوَّة الخلَّاقة في الوجود ، وعلى هذا المفهوم فالفن عنده لايكون إلا التعبير عن حقائق الطبيعة الظاهرة للموجودات الثابتة المعقولة وعللها ومبادئها التي تفسِّر وجودها ، والفن على هذا التفسير يسمو على الطبيعة الظاهرة ؛ لأنه يتجاوز ما فيها من نقص ، فيصور ما يكون عليه الواقع الملموس ، وليس ما هو كائن حسب وبذلك يكون الفن ليس نسخاً عن الطبيعة ، بل هو أداة مُنقِّحة ، تقوم على تبديل الواقع وتنقيح الحياة (1) ، ولعل الشعر واحد من الفنون الجميلة التي يسعى من خلاله الشاعر أن يكمل النقص في الحياة حين يعبِّر به عن موضوع معين من الموضوعات الوجدانية أو الحياتية ، فيعالج قضية من قضايا الحياة تلامس وجدانه بعدما يخترق الآفاق ويتعالى إلى عوالم الكمال المثالي ، كي يبوح بالحقيقة من طريق المخيلة بوصفها قدحة العقل "التي تلامس توهج القلب ، فترسم من خلالها تآلفاً بين الواقع واللاواقع , والمحسوس واللامحسوس المادي والروحي" حين يقوم الشاعر بينظم نصه الشعري (2) .
وكثيراً ما ينزع الشاعر نزعة وجودية حينما يعيش حالة تجعله يستاء ، فأمَّا أنْ نراه مغترباً يشعر بالضياع ، أو نجده قوياً متحدياً الصعاب ، فنراه يعبِّر عن حال ابناء وطنه في ما يقرؤه عن الواقع الذي يعيشه ، وهناك حالات فردية يمر بها الشاعر ؛ ليعبِّر عن ذاته وتحديه للمعوقات ، أو لربما إزاء ممن أساء له أو استلب منه حقه يوماً ؛ لذا نجد كثيراً من القصائد تبوح بالقيم التي تُجتَلَب من عالم المثل والتي يعمل بها المجتمع ؛ كونها جزءً من تقاليده وقيمه الموروثه ، أو من تعاليم دينه الحنيف ، فيستحضرها ؛ ليردَّ مُذكِّراً بها ومُزدرياً لمن لم يعمل بها أو خان مواثيقها .
والشاعرة فاطمة هادي شاكر من بين الشاعرات اللاتي كتبن عن تلك القيم التي تُعَدُّ من المثال الذي ينبغي تجسيده في حياتنا اليومية ؛ لنعيش في هذا العالم الرحيب بإنسانيتها وفي إكمال وجودنا فيه ، إذ نجد في قصيدتها (إليك عني) التي تقول فيها :
أيُّها الذي لا تأسفُ الأشجارُ المثمراتُ
إلى سلاله ،
ستبقى شامخةً هي ، وإنت من دون سهلٍ حللتَ ،
ومن غير وقاءْ
فهل أغارُ
وليس من حقِّ الناكثين عهودهم
أن يُغارَ عليهم ؟
لعل النص يومئ على خلافٍ بين بين الشاعرة والآخر ، يبدو أنَّها في موقف المتوثِّب إزاء الآخر (الناكث) ، فنراها تشير إلى الأشجار التي تمثِّل رمزاً من رموز العطاء ، وطوداً شامخاً بالعزِّ ، وهي تقف بعلوِّها الباسق بينما من ينتظر الثمر بسلاله لم يكن له حتى سهل يقطن فيه ، إشارة إلى الملاذ المفقود بدلالة لفظة (بلا وقاء). فتصف الشاعرة نفسها بالشجرة التي ترفض أنْ تُظلل ذلك الذي ينتظر منها ثمارها ، فهي تمثل في هذه السطور شدة نفورها منه ؛ كونه ناكثاً للعهد (وليس من حق الناكثين عهودهم أنْ يُغار عليهم ؟) ، ثم تقول :
وهل من جنوني
أنْ يضعك قلبي سوى في دخانِ التلاشي !
فلا أكون بعد الآن قافلة ملاذٍ
أو مُنقذاً لِمَن شغل نفسه بادِّعاء الوفاء .
ثم تتساءل بالاستفهام الإنكاري من أنَّ جنونها بعد الآن لايمكن أنْ يضعه في قلبها بل سيكون في أدخنة التلاشي ، كناية عن نبذه ونسيانه ، كونها لاتحبِّذ بعد ذلك أنْ تكون ملاذاً له ، أو منقذته له ؛ كونه أخلَّ بعهد الوفاء الذي قطعه على نفسه.
في هذا المقطع نرى تفشي الأصوات الرخوة ، فقد ورد صوت (الهاء) تسع مرَّات ، وصوت (الفاء) سبع مرات ، وصوت الغين (أربع مرات) و(الشين) ثلاث مرات ، بينما أصوات الهمس ، إذ ورد صوت (اللام) سبع عشرة مرة ، وصوت النون والتنوين سبع عشرة مرة أيضاً ، وصوت الميم ثمان مرات ، وصوت (التاء) سبع مرات ، و(السين) سبع مرات تدل هذه الأصوات على الهدوء والسكينة ، ما تدلّ على ثقتها بنفسها وتصميمها من أنَّها هي التي تمنح الحياة للآخرين ولاتنالها منهم ، وهي من ترفض أنْ تمنح ذلك لمن لايستحقها ، وعلى الرغم من ورود صوت القاف خمس مرات وهو يدل على القلق ، والكاف مرتين ، والعين ثلاث مرات وكلاهما يدلان على المرارة ، لكن جميعها لاتنهض بالدلالة لمعانيها لورودهما لمرات قليلة ولربما ما فيها من دلالة الألم ؛ لأنَّ مَن منحته الثقة قد عكَّر مزاجها لذا نفسر ذلك هو استياؤها ضعف النفوس تجاه القيم التي تتأملها أن تشيع في المجتمع لا اهتماما به .
ثم تقول :
هو كذبةٌ للكثير ممن ادعوا
بالكلام أنَّهم السموأل
لكن شتان ما بينهم ومابين
النقي الوفاء.
فلا ترتوي القلوب الظمئة
إلَّا من سلسبيل غدرانِها ,
وليس من حق الذي يضع
الحجر؛
ليطمرها
أنْ ينهل منها
قطرة ماء .
فليس مَن ادعى أنَّه كالسوأل في الوفاء غدا وفياً ، فشتان ما بينهم وبينه .وقصة السموأل معروفة في التأريخ ، وهو الذي ضحى بنفسه من دون أن يضحي بالأمانة المودعة لدية، فصار مضرب مثل في الوفاء لدى العرب وإلى يوم الناس . ثم تقول ليس بوسع من يطمر الغدران أنْ يطلب منها شربة ماء ؛ كونه ليس أهلاً لذلك في إشارة منها لناكث الوعد وناكر الجميل .ولعلنا نجد في السطور الثلاثة الأولى ورود صوت الكاف ثلاث مرات ما يؤيد مدى انزعاجها وتكأكِها في الكلام ، وهي تستذكر نقض العهد وغياب الوفاء ، لكنها مازالت على النمط ذاته وهي تقرر ما تريد إقراره مستخفةً بالآخر (الناكث) وممسكةً بمشاعرها دون الاهتمام لأي اعتبار ممن لم يحقق مأمولها ، إذ نجد صوت (الميم) ورد اثنتا عشرة مرة و (اللام) سبع عشرة مرة ، و(النون) ثلاث عشرة مرة مايدل على ثقتها بنفسها ولا نراها قد اهتزَّت لهذا الموقف الذي صار عندها كالتلاشي في أدراج الرياح.
ونراها تذكِّر وتوبِّخ ، فتقول :
فأنت يا كان روساشو
كثيراً ما
تتأمل الحياة
تدَّعي أنَّها من دون ظِلِّي
لا حياة ،
وما صبر الأكرمين إلا النقاء .
آمنتُ بما قيل : إنَّ الفسائل تنوح على
مجتني ثمارها
وليس من حكمٍ سوى المداراة والارتواء... .
تظنَّني من دونك
أنت المُنَجِّي
لكن من دونك صار سجني إمارةً ،
وأنت الذي بتَّ سجيناً !
وهل للناكثين لعهودهم إلا الشقاءْ ؟
كنتَ يوماً تتوسلني بأنْ أزرعك قمحاً
واليوم أنا الشجرة المثمرة ،
وأنت الغويُّ
المهزوم
بهذا الشقاء .
ثم تنتقل في هذا المقطع ؛ لتذكِّره مواقفه التي بنتْ عليه أحلامها قبل أنْ يزيع عمَّا وعدها به ، إذ رمزت له برمز (كان رو ساشو) ويبدو هذا الاسم من الاساطير اليابانية ، ماجعلها تذكره وكأنه من أبطالها وأنَّه إذا وعد نفَّذ . لكنه على العكس من ذلك ، فتكررَ مرةً أخرى أنه ناكث العهد والذي بينها وبينه صار إلى زوال . ثمَّ نراها تشبِّه نفسها بالفسائل التي تنوح على مجتنٍ ثمارها ، أي المستفيد منها لكنها لم تتلق مداراته لها ، وكأنها تذكره بالحتمية التاريخية التي قالت بها الأديان وكذلك الحكمة العربية التي تقول : إنَّ الإنسان يجني ثمار أعماله ؛ لذا تحوَّل سجنها حين كانت معه إلى إمارة ، كونها نالت حريتها ، وبذلك عدَّت زمنها معه بالسجن بدعاوى الحب الصادق لكن بعدما انكشفت لها أضواء الحقيقة وجدت نفسها هي الأميرة الآن ، بينما هو المهزوم الذي لايجد مأوى أو مغيث يستغيثُ به . ولعل النص يتوافق مع عنوانه ( إليكَ عنِّي ) أي ابتعد، ما جعلت النص يسترسل بأسباب الابتعاد والنهاية التي كانت لصالح الشاعرة ، ما يجعلنا أن نقرَّ بالوحدة الموضوعية للنص من خلال تسلسل الأفكار ، فضلاً عن ذلك أومأنا أنَّ النص قد طرزته الشاعرة بهدوء واستكانة ، يدل ذلك تفشي أصوات الهمس والتنغيم ، ومنه صوت (الميم) الذي ورد في المقطع الأخير تسع عشرة مرة, وصوت (النون) أربع وثلاثين مرَّة وهما صوتان تنغيميان جاءت بهما من أجل الترنم؛ لثقتها بنفسها من اجتيازها الصعوبات التي حاولت عرقلة مسيرتها ، لكنها خرجت منتصرة شامخة ... ولعل النص قد تميز بعفوية الأسلوب وصدق العاطفه ، التي صدرت عن تجربة حسية وبمفردات تفيض بالمشاعر الهادئة النبيلة.
نتمنى للشاعرة الواعدة فاطمة هادي شاكر مزيداً من الإبداع والتألق .
_____________
الهوامش :
(1) ينظر في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات ، فائق مصطفى:11- 12
(2) النبوءة في الشعر العربي الحديث ، د. رحيم الغرباوي : 29 .
995 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع