حسين الحلي*
ذكريات عراقية في الغربة لا تنسى –٢- رزمة من القنصل الاسرائيلي في مونتريال..!!
عام 1993 بدأ ت عملي في صحيفة المرأة العربية الصادرة في مونتريال - مقاطعة كيبيك في كندا وهي أول صحيفة تصدر باللغة العربية في كندا حيث أصدرها الاديب والقاص العراقي الصديق سعدي المالح.
كان سعدي أشوريا كما يعرف نفسه من منطقة عينكاوه في أربيل شمال العراق-اقليم كوردستان الحالي. هرب سعدي من العراق في زمن حكم الرئيس صدام حسين خوفا من بطش السلطة ومطاردتها له فقد كان شيوعيا ملتزما وذهب الى الاتحاد السوفيتي السابق حيث أكمل دراسته هناك وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي وكان يجيد اللغة الروسية والعربية اضافة الى السريانية.
تعرفت عليه بعد وقت قصير من وصولي الى مونتريال في عام 1992 وقد أفصح لي انه سبق أن التقى والدي الدبلوماسي والشاعر علي الحلي في بغداد وكان له لقاء حميمي لطيفا معه لا ينساه في اتحاد الادباء. كان سعدي شابا طموحا وفي بداية اهتمامه بالأدب قد قدم من عنكاوا الى بغداد وأخبرني أنه كان يكن كل الاحترام لوالدي ويعتز به كأديب تقدمي وكشخصية مثقفة مسالمة رغم الاختلاف في التوجه السياسي.
بدأت عملي في الصحيفة منتصف عام 1993 كمدير تحرير وعلاقات عامة اضافة الى كتابة عمود أسبوعي في الصفحة الاخيرة.. وفي بداية عام 1994 وفي أحد الأيام وصلت الى المكتب مبكرا وقبل دخولي له وجدت بريدا كثيرا مرسلا لنا ومن ضمنه رزمة موضوعة في ظرف أصفر ولاحظت وجود شعار القنصلية الاسرائيلية في مونتريال على أعلى الظرف!
عند وصول سعدي لمقر الصحيفة قدمت له البريد وكان واقفا وراء مكتبه فأخذ يتطلع الى الظروف واحدا تلو الاخر حتى وصل الى الظرف الاصفر وبمجرد مشاهدته لشعار القنصلية الاسرائيلية في مونتريال على الظرف تبدلت قسمات وجهه وأصابه الغضب ورمي الظرف على سطح مكتبه بقوة وصاح: "اللعنة اللعنة.. هذا أكيد القنصل الاسرائيلي يرسل لنا احتجاجا آخر لنشر شيء ضد اليهود او إسرائيل في الجريدة. حسين ألم اقل لك ان تتابع ما ينشر قبل الطبع؟".
كان سبب غضب سعدي السريع يعود إلى أن الصحيفة سبق أن تعرضت الى شكاوى ودعاوى لنشرها أخباراً أو مقالات فيها شتائم أو تشهير ضد اليهود أو اسرائيل. والمعروف إن القانون الكندي يمنع التشهير والقذف ضد الفئات الدينية المختلفة. هدأت من روع سعدي وطلبت منه أولا فتح الظرف ليرى ما فيه قبل التسرع بالغضب وربما هذه ليست شكوى اذ أن الظرف يبدو مليئاً!
فقال سعدي: "حسين افتحه انت"! فتحت الظرف فإذا به ما يشبه الكتب أو المجلات بالعربية واحدة باسم “أريئيل” وأخرى أصغر باسم “قوس قزح” مع رسالة مطبوعة بالعربية هذا نصها:
يتشرف القنصل الاسرائيلي في مونتريال السيد “ گاد الباز “ بتقديم تحياته واحترامها الى جريدتكم العربية الموقرة ويهديكم عددين من مجلة "أريئيل" الشهرية ومجلة “قوس قزح” الأسبوعية التي تهتم بالثقافة والأدب والفنون في اسرائيل لغرض الاستفادة من موضوعاتهم جريدتكم المحترمة ...!
أخذتني الدهشة وأنا أقرأ رسالة القنصل الاسرائيل وأرى مجله أشبه بمجلة العربي الكويتية بالألوان والصور الجميلة والمواضيع المتنوعة ومن أين؟ من اسرائيل.!! كانت تلك المرة الاولى التي أشاهد مطبوعاً عربياً يصدر في إسرائيل.. والمرة الاولى التي أشاهد صوراً من اسرائيل لا بل أطلع على أسماء شعراء وأدباء من هناك.. من الشعراء الفلسطينيين واليهود وكلهم من إسرائيل!
أخذ سعدي يتطلع مدهوشاً بالمجلات وعلق: " تصور حسين.. هذا يصدر بالعربية وفي اسرائيل؟ اين نحن من هؤلاء؟ اطلع عليها حسين".
فقلت لسعدي: "يستحسن أن نرسل رسالة شكر أو نتصل بالقنصل لنشكره على هذه المبادرة - هذه الأصول".
فقال سعدي ووجهه متجهم: ("حسين لا ترسل رسالة وأنت تعرف موضوع اسرائيل حساس وما يمكن أن يثيره ضدنا من المنافسين وخاصة العرب.. اتصل به وأشكره أنت إذا تريد)". صمت لفترة ثم جلست على الكرسي ونظرت الى سعدي مبتسماً وقلت له: "سعدي عزيزي.. أنا وأنت هربنا من بطش الدكتاتورية التي تجثم على صدر بلدنا العراق. إسرائيل لا تحتل أي جزء من العراق ولا توجد بسببها مشكلة لاجئين عراقيين ولست أنا ولا أنت معنيين بالحرب معها وهذه مجلات ثقافية وأدبية ليست سياسية. نحن هنا في كندا ولسنا في البلاد العربية نتبع من يملى علينا كما يريد نتبعه خوفا وتحاشيا للمخاطر دون تفكير". ابتسم سعدي وقال: ("حسناً اتصل به واشكره لكن اجعل هذا بيننا ولا تخبر أحد من العاملين في الجريدة وخاصة العرب بالموضوع". ضحكت وقلت له: "كما تريد.."
اتصلت بالقنصلية الإسرائيلية وطلبت أن اتحدث مع القنصل. جاءني شخص يتحدث بكل لطف ودماثة أخلاق ويبدو عليه أنه كان شاباً في الاربعينيات او منتصف الثلاثينيات من عمره. أخبرته بهويتي وإسمي وإنني عراقي فعرف نفسه أنه من عائله مغربي’ وفرح كثيرا عندما أخبرته بإعجابي بالمجل’ وسألني عما اذا يريدني أن أستمر بأرسال الاعداد الجديدة منها؟ فأجبته بالإيجاب.
بقي القنصل الإسرائيلي گاد الباز يواظب على إرسال كل عدد من مجلة “اريئيل” ومجلة “قوس قزح” إلينا. حيث حصلنا على مصدر لكنز ثقافي وأدبي يندر وجوده في مونتريال وخاصة ونحن ندير صحيفة عربية تعنى بالأدب والثقافة والفن. هاتين المجلتين احتويتا على أسماء كثيرة لم نعرف بها من قبل في الشعر والادب والروايات، أسماء كتاب وأدباء وشعراء فلسطينيون مثل زكي درويش ومحمد سليمان خضور ومحمد حمزة غنايم ومحمد سعيد وريتا عبده عوده وجورج نجيب خليل واسمهان خلايلة ومينا سعيد عليان وخالد علي وجمانه حداد وغيرهم اما من يهود العراق الكتاب فتعرفت على شمعون بلاص واسحق بار موشيه وسامي ميخائيل و شموئيل موريه وغيرهم.
أكثر ما أثار دهشتي هي الاصدارات الحديثة من الكتب في اسرائيل حيث علمت للمرة الأولى أن وزارة الثقافة والتعليم في إسرائيل اصدرت كتابا بعنوان "الجواهري والمتنبي: شاعران شيعيان"! ثم أصدرت كتابا أخر عن الشاعرة نازك الملائكة. مما لفت انتباهي من الاسماء أن المشرف ومحرر هاتين المجلتين اسمه “اسحق بار موشيه” وظهر انه الاديب والكاتب العراقي الاسرائيلي المعروف الذي تعرفت عليه عام 1994 وبقينا أصدقاء نتراسل ونتحدث بالهاتف حتى رحيله في لندن أواخر عام 2003.
توقفت جريدة " المرأة" أواخر عام 1997 بسبب ظروف مالية وانتشار الصحافه الاسبانيه والانترنيت ومن ثم بيعت الى مالك جديد بعد انتقال سعدي الى الإمارات في عمل جديد وبقيت تصدر حتى عام1999 لتنتهي تتوقف نهاْئيا. وقد احتفظت بكل اعداد مجله “اريئيل” التي شكلت وما تزال مصدرا ثقافيا وأدبيا مهما عن الآداب والثقافة والفنون في إسرائيل فلسطينيين ويهود .
في زمن العزل الصحي بسبب كورونا فيروس أخرجت أعدادها من مكتبتي متأملا كل عدد حيث أعاد بي الذاكره الى القنصل الاسرائيلي گاد الباز والى جريده المرأة والصديق سعدي المالح الذي رحل عن عالمنا عام 2015.
*(كاتب واعلامي عراقي مقيم في كندا)
983 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع