هيفاء زنگنة
في العراق صرنا كلنا ندفع الجزية!
إذا كان هناك من تفاؤل باقتراب فترة هدوء وأمان بعد التوافق الأمريكي ـ الإيراني على تنصيب رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء بالعراق، فان وقائع الأسابيع الماضية أعادت المتفائلين، الى ارض الواقع المتدهور على كافة المستويات، سواء كانوا من الساسة المتهافتين على النهب والمتمرسين فيه أو أبناء الشعب المنهك الذي بات ينشد الأمان وأساسيات الحياة وحدها، أحيانا، في اية بادرة تمنحه فرصة للتنفس والتفكير، مهما كان مصدرها.
اذ تنشط، حاليا، في تجاذب أطراف البلد الى حد تمزيقه أربع قوى خارجية، وهي وباء كورونا والولايات المتحدة الامريكية وجمهورية إيران الإسلامية بالإضافة الى دخول وجه جديد/ قديم هو تركيا. يتداخل مع هذه القوى، كل على حدة، غالبا، وبشكل من الصعب تفكيكه، ساسة محليون تذوقوا طعم الفريسة، واكتسبوا خبرة لا تضاهى في نهش ثروة البلد، ومد جذورهم في مؤسساته من خلال ثلاثة محاور هي: التخويف من « الآخر»، والاغواء المادي والتعيين الوظيفي، بالإضافة الى التعكز على المرجعية الدينية وما يحيطها من طقوس تمتد على مدى العام.
تكّفل انتشار فايروس كورونا بتكذيب التصريحات الحكومية السابقة حول النجاح في احتواء الوباء ومعاقبة وكالة الأنباء « رويترز» التي اشارت الى ان عدد المصابين أكبر مما يعلن عنه. وصل معدل الإصابات، حاليا، بحدود ألف وخمسمائة يوميا وأبدت الأمم المتحدة قلقها لارتفاع عدد الوفيات، بينما دعت مفوضية حقوق الإنسان الحكومة الى اتخاذ إجراءات سريعة للحد من ارتفاعها المخيف. وفي الوقت الذي تستحق فيه الطواقم الطبية الثناء الا ان تردي وضع المستشفيات واهمالها دفع النائبة وحدة الجميلي الى وصفها بأنها « مقبرة للفقراء». ونرى في فيديو انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وتم التحقق من صحته، جثامين ضحايا الكورونا مرمية خارج احدى المستشفيات. الأمر الذي أكده النائب جاسم البخاتي، قائلا « ان جثث المتوفين بفيروس كورونا تفوق الطاقة الاستيعابية للمستشفيات». مبينا « وصلتنا مناشدات من مؤسسات صحية وخاصة مستشفى الكندي بأن هناك مجموعة من الجثث وهناك تباطؤ في عملية نقلها ودفنها». وجاء الرد الحكومي متمثلا بعرض أفلام في القناة الحكومية الرسمية تبين حشدا من رجال برُتب عسكرية عالية وهم إما يسيرون أو يلتفون حول سيارة رش المعقمات. وتأتي وفاة النجم الرياضي أحمد راضي، وكان قد غادر المستشفى على مسؤوليته، قبل يومين من وفاته، احتجاجا، لتلقي الضوء على الإهمال الذي يعيشه المصابون بالفايروس في نظام صحي منهار.
في هذه الأجواء الكافكوية، المخيفة وغير القابلة للفهم في آن واحد، التي تتطلب أولوية التركيز على انقاذ حياة الناس، وتوفير الرعاية للمصابين وحملات التوعية، واتخاذ الإجراءات الضرورية للحجر الكلي للبلد، واكرام الموتى، وإلغاء كل ما هو غير مُلح، كما فعلت معظم دول العالم، سارعت حكومة الكاظمي، كالسراق تحت جنح الظلام، الى تنفيذ ما أطلق عليه اصطلاحا « اجراء حوار» مع الإدارة الامريكية. أي التباحث حول تعديل «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، المُوقـَّعة مع الولايات المتحدة الأمريكيَّة عام 2008، لغرض تنّظيم «العلاقة طويلة الأمد في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية والأمنية بين البلدين». وهي الاتفاقية الأكثر أهمية منذ احتلال البلد عام 2003، لا من ناحية بقاء القوات الأمريكية، كما يشاع، ولكن من ناحية الهيمنة على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي الجوانب التي قلما يشار اليها علنا. وتنبع أهمية الاتفاقية من رغبة الإدارة الامريكية بتقليص عدد قواتها على الأرض، في أثر إعادة هيكلة الجيش الأمريكي، لتقليل تكلفة الخسائر البشرية والمادية في صفوفه، والاستعاضة عن القوات بزيادة الاعتماد على الطائرات بدون طيار، والقوة الجوية، والعمليات الخاصة بواسطة المرتزقة والشركات الأمنية بالإضافة الى الحكومات المحلية أو « الدول المُضّيفة» بالنيابة.
وموقف الرئيس الأمريكي ترامب واضح من مسألة طلب الحماية الأمريكية. فمن يرغب بالحماية عليه دفع التكلفة. وأكد يوم السبت الفائت، في خطاب له في الأكاديمية العسكرية الأمريكية ما ذكره في خطب سابقة، قائلا: «إننا نستعيد المبدأ الأساسي القائل بأن مهمة الجندي الأمريكي ليست إعادة بناء دول أجنبية ولكن الدفاع عن أمتنا والدفاع عنها بقوة من الأعداء الأجانب»، وتابع قائلا: «نحن ننهي حقبة الحروب التي لا نهاية لها». هذا من الناحية العسكرية، أما «الثقافية» وهي الأعمق والأكثر تأثيرا على بنية المجتمع في المدى البعيد، فيمكن تصنيفها ضمن اساسيات» القوة الناعمة». لتمرير الاتفاقية، أو الهيمنة النيو كولونيالية، تكثر في تصريحات الإدارة الأمريكية، عموما، مفردات تثير الاطمئنان وتساعد على تسويق الاتفاقية باعتبارها بين حليفين متكافئين أو بلدين صديقين. مفردات على غرار «شراكة، اتفاقية، تعاون». اما مضمون الاتفاقية فهو «استشارة، تدريب، مساعدة». وهي ذات التسميات التي تستخدمها إيران لتسويغ جرائم ميليشياتها المسلحة وتسخير الساسة الموالين لها داخل البلد.
وبينما يتواصل قصف المنطقة الخضراء بالصواريخ، والتي تبدو «رمزية» أكثر منها فعلية، شهدنا، في الأسبوع الأخير، سباقا من نوع مختلف نسبيا. اذ قصفت إيران قرى حدودية سببت خسائر مادية، وأضرارا بالممتلكات، علاوة على بث الخوف بين الآمنين من سكان تلك المناطق، حسب تصريح عراقي، في ذات الوقت الذي نفذت فيه تركيا عمليتين ضد «حزب العمال الكردستاني». الأولى جوية باسم «مخلب النسر»، والثانية برية باسم «مخلب النمر»، وتشير مصادر تركية الى رغبة الحكومة بإقامة قاعدة عسكرية لم يحدد موقعها بعد، لتضع حدا «لازدياد هجمات المقاتلين الأكراد على قواعد الجيش التركي على الحدود بين البلدين».
ان سياسة تمزيق العراق كبلد ذو سيادة وتفتيت شعبه الى طوائف وأقليات وعشائر وميليشيات تتصارع فيما بينها مستمر منذ احتلاله عام 2003، وإذا كانت « الرقعة صغيرة والشق كبير» و « صرنا كلنا ندفع جزية»، كما يقول منشدنا الراحل عزيز علي، فان تعيين الكاظمي لم يحد من سياسة القوى المتصارعة على الغنيمة. اذ لم يتخذ، حتى الآن، أية خطوة عملية تطمئن الناس وأولها مساءلة المسؤولين عن قتل 700 متظاهر واختطاف آخرين. والأدهى من ذلك أن عمليات الاغتيال مستمرة، من قبل « مجهولين»، آخرها اغتيال أستاذ جامعي في مدينة الناصرية، والمحامي طارق هلال من شمال بغداد. وإذا كان هناك انجاز للكاظمي يستحق الذكر فإنه مواصلة سياسة من سبقه من رؤساء وزراء، في إطلاق التصريحات بلا تنفيذ. وتبقى مسيرة البلد للتعافي مشروعاً طويل المدى بمراحل متعددة ومتكاملة بدءا من انقاذ وحماية حياة المواطنين وتوفير العيش الكريم الى إنضاج البدائل الوطنية والتنموية لاستعادة النسيج الاجتماعي في البلد. ومن هناك تحقيق التوازنات الإقليمية والعلاقات الدولية المتكافئة.
1199 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع