اوشرات بركو (سعاد افرايم عباجي)
ذكريات من بغداد - طردوني من بيتي
ولدت في بغداد في باب المعظم لأم ربة بيت ولأب خياط بدلات للرجال. لا أذكر والدي لأنه هاجر الى إسرائيل في أوائل الخمسينيات بدون العائلة.
جميع الاقارب هاجروا ايضا مع اغلبية اليهود بعد السماح لهم مغادرة العراق متزامنا مع اسقاط الجنسية عنهم ولهذا فلم اتعرف على اقاربي. هكذا كبرت وترعرعت كبنت وحيدة لوالدتي الحبيبة.
كانت طفولتي كما اتذكر عادية، لكن لم تكن سهلة فوالدتي اضطرت للخروج الى العمل وانا معها اثناء طفولتي وذلك كان صعبا علينا الاثنتين. في الرابعة او الخامسة من عمري دخلت الروضة في مدرسة فرنك عيني في العلوية (بعد استيلاء الحكومة العراقية في 1973 أطلق عليها مدرسة النظامية).
في البداية شعرت بالوحدة اثناء ساعات الدراسة وانعزلت عن باقي الاطفال وبكيت كثيرا وأردت رؤية امي فكانت المسكينة تترك عملها كي تكون معي وتواسيني.
وهكذا مرت الايام وتعودت ان اكون مع الاطفال والعب معهم وبدأت استمتع أيضا بطفولتي. وهكذا مرت السنين وصار عندي كثيرا من الاصدقاء والصديقات في المدرسة. تبادلنا الزيارات والخروج معا في ايام العطل لملعب مناحيم دانيال (يعد ان استولت الحكومة عليه في 1967 أطلق عليه نادي الجيش الرياضي) ومشاهدة الافلام في السينمات في ايام السبت - سينما النصر، الخيام، السندباد، روكسي وغيرها. أذكر كنا نقف احتراما عند عزف السلام الملكي وبعد ثورة 14 تموز 1958 وقفنا احتراما للسلام الجمهوري قبل عرض الافلام.
تلك السنين التي قضيتها في المدرسة في ساعات الصباح مع رفاقي ورفيقاتي ومع والدتي بعد انتهاء اليوم الدراسي كانت من أجمل أيام حياتي في العراق. والدتي لم تبخل لي بشيء كي لا اشعر بالفرق المادي والاجتماعي عن بقية الطلاب. نشأت وانا اشعر انني عراقية ووطني الحبيب كان العراق.
بعد نهاية السنة الدراسية للصف الثاني الاعدادي في صيف 1962, قررت والدتي ان نسافر الى لندن. تفاجأت بذلك الخبر وتسألت لماذا؟ فنحن على ما يرام وأنا بين رفاقي ورفيقاتي وأدرس في احدى المدارس الجيدة في العراق. لم اتلق جوابا يرضيني ولكن وعدتني ان لم أكن سعيدة فلن نبقى هناك.
بدانا بالاستعدادات والاجراءات للسفر ومن بينها اصدار جوازات سفر. بعد عدة أسابيع استلمت الوالدة موافقة مديرية السفر والجنسية للحصول على جواز سفر أمن انا فلم أحصل عليها في نفس الوقت فانتظرنا!! واخيرا تلقينا رسالة بأن نحضر إلى المديرية لتتم الإجراءات.
لم نفكر بأن هناك اي مشكلة وفكرنا انها مجرد اجراءات عادية فأنا قاصر وممكن أن تكون عدة اسئلة في هذا الموضوع. وصلنا الى الموظف الذي دعينا اليه وإذا به يأخذنا الى مكتب آخر. دعونا للجلوس وكانت علامات الجدية على وجه الموظفين.
السؤال الاول كان أين والدي؟ فأجابت امي بانها لا تعرف إذ هو ترك العراق دون أن يخبرها مع العلم انه لم يطلقها. توجه الموظف الي وحادثني كأني بالغة (كنت في الخامسة عشر من عمري: " أنت لا يمكنك الحصول على جواز سفر عراقي. أنت ليست عراقية." فكرت بأنه يمزح فابتسمت وقلت بأنني يمكن ان اكون انكليزية ولكنه لم يكن يمزح.
وبدأ الموظف يشرح الامر: " أنت قاصر ولذلك فأنت من ناحية قانونية تابعة لوالدك وبما أن والدك سقطت عنه الجنسية العراقية فانت لا تملكين جنسية عراقية. عليك الخروج من العراق فورا.
لم نصدق امي وانا ما سمعناه ولكن الموظف كان في اشد الجدية. ارتبكت أمي ولم تعرف ماذا تقول وبدأت تتوسل اليه وتطلب المساعدة. أخذت يده وقبلتها عدة مرات ودموعها تسيل على خديها وقالت له انها تقع دخيل عليه وأن يطلب اي شيء بقدرتها إعطائه. احتضنت امي بعد لحظة ارتباك وطلبت منها ان تنهض وأنا ابكي ولم أفهم بالضبط ماذا يدور حولي.
بعد أن هدأت والدتي والموظف الكبير ساعد بتهدئتها عرض عليها أن اغادر العراق خلال شهر واحد فقط وإلا سأدخل السجن. شعرت بالذعر من كلمة السجن. السجن؟ أنا؟ ماذا عملت؟ أنا طالبة مجتهدة في مدرسة وأعمل وظائفي باستمرار!! وأخيرا وبعد أن تقبلوا هدايا ثمينة من والدتي، عرضوا عليها أن أترك العراق وبحوزتي وثيقة سفر “laissez-passer“كتب فيها "عدم العودة الى العراق بتاتا ".
حصلنا على الوثيقة واتجهنا نحو السفارة البريطانية وطلبنا تأشيرة دخول الى انجلترا. والدتي حصلت على التأشيرة بعد ان قدمت جواز السفر أما أنا فلم احصل عليها لأنهم في تلك الفترة لم يرحبوا "بمهاجرين". ماذا نفعل؟ اية دولة تأذن بدخولي؟ توضح بأن تركيا، هولندا وبلجيكا فقط يمكن السفر اليها دون تأشيرة.
وبدأ السباق مع الزمن فعلي ترك العراق بأسرع وقت ممكن ومع ذلك قلقت والدتي من أن تلغى تأشيرتها الى بريطانيا بسببي. نصحوها اصدقاؤها أن تسافر الى لندن حالا وأنا أسافر بعدها بعدة اسابيع الى تركيا وهناك من يساعدني أن أستمر بسفري إلى اسرائيل.
تركت والدتي بغداد وانا في المطار اودعها وينتابني الخوف، الذعر والفزع. انا لوحدي في دولة ولدت فيها وأتكلم لغتها وانما هي ليست وطني الذي يحميني . لم أتخيل آنذاك بأنني لن أرى والدتي إلا بعد عدة سنوات.
غادرت العراق الى تركيا وأنا في الخامسة عشر من عمري لوحدي، لا أعرف أحدا لا في الطائرة ولن يكن أحد باستقبالي في تركيا. عندما حلقت الطائرة في السماء نظرت من النافذة وودعت بدموعي بيتي الذي طردوني منه.
أيلات – إسرائيل
تموز 2020
1209 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع