د.علي محمد فخرو
تحطيم التماثيل وتنقيح التاريخ
يقوم الغاضبون على السياسات والتصرفات العنصرية التى تمارسها أجهزة الأمن فى الولايات المتحدة الأمريكية بتحطيم تماثيل من يعتبرونهم من الذين مارسوا فيما مضى تجارة بيع وشراء العبيد أو ممن وقفوا علنا، قولا وفعلا، مؤيدين لتلك الظاهرة اللاإنسانية القبيحة. وبالطبع فإن أولئك الغاضبين يهدفون إلى التأكيد على أنهم لا يعترضون على ممارسات الحاضر فقط وإنما يريدون أيضا تعرية بشاعة الظاهرة عبر التاريخ كله.
من هنا رد فعل الرئيس الأمريكى ومن حوله من مؤيديه المتمثل فى عنف كلامى جارح للمتظاهرين وقراءات للنوايا مشوهة وتباك انتهازى على التاريخ والهيبة. ذلك أن فهمهم للموضوع يتجنب رؤية المعنى الأساسى من وراء نصب تماثيل بعض رجالات الأمم فى الساحات العامة. المعنى الأساسى الحقيقى هو أن التمثال يشير إلى تكريم صاحبه والإعجاب بشخصيته واعتباره شخصا متميزا فى أفكار أو أقوال أو أفعال مارسها أثناء قيامه بمسئوليات حياته العامة.
تحطيم التماثيل فى الواقع اعتراض على رمزية التكريم التى تعنى الموافقة على ما قاله أو فعله ذلك المكرم أثناء حياته. ليس التحطيم محاولة لتغيير التاريخ أو حتى نسيانه، فالتاريخ قد ولى ومضى ولا يمكن تغييره، وإنما هو اعتراض على موقف غير أخلاقى منحاز أو مجمل لممارسات تاريخية قبيحة، سواء بقصد أو بغير قصد، وذلك من خلال تكريم من قاموا بتلك الممارسات غير السوية.
الذين يريدون أن يعتبروا تلك التماثيل قطعا فنية حيادية جمالية لا يجب المساس بها إنما يضحكون على أنفسهم ويخادعون غيرهم. والذين يدعون بأنها من الأملاك العامة يعرفون أن قرار اختيار المكرمين لم يكن قط خيارا عاما وافقت عليه جموع الناس، وإنما كان قرار أقلية لها أهداف خاصة بها، ولها معتقداتها السياسية على الأخص التى تريد تثبيتها فى ذاكرة المجتمعات والشعوب: معتقدات القوة والسطوة.
فى اعتقادى أن هذا الموضوع المطروح على بساط العالم كله بالغ الأهمية، إذ إنه يندرج كخطوة مثيرة للاهتمام فى مراجعة جديدة أخلاقية للتاريخ، فكرا وقيما ورجالا، حتى يكون التاريخ مكونا إيجابيا وساميا من مكونات الوعى الجمعى المستقبلى، وليس من مشوهى ذلك الوعى.
من هنا جدارة الموضوع للحصول على اهتمامات المؤرخين والمثقفين المفكرين العرب الذين كانوا ولا يزالون يطرحون شعار مراجعة التاريخ العربى والإسلامى مراجعة عصرية نقدية جديدة من جهة، والذين أرادوا ويريدون جعل التاريخ مكونا أساسيا من مكونات الهوية العروبية ومن مكونات الوعى الجمعى العربى المستقبلى من جهة أخرى.
هل يبدو ذلك إقحاما لموضوع ظرفى فى إشكاليات التاريخ المعقدة والمختلف كثيرا على طريقة كتابته؟ الجواب هو كلا. لنأخذ مثالا واحدا: إن مراجعة تاريخ العديد من الأمم الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أى فترة زخم تكوين الصورة النهائية لهوياتها ودولها القومية، يبين تنصيبا واسعا مكثفا فى ساحات مدنها وطرقاتها لتماثيل رجالاتها التاريخيين والأحداث الكبرى فى تاريخها، وذلك من أجل ترسيخ معرفة وتذكر المحطات التاريخية فى تكوين الأمة والوطن والهوية الجمعية الجامعة.
إن مؤرخا مرموقا كالمرحوم الدكتور عبدالعزيز الدورى كان يردد فى كتبه أنه إذا أردنا أن يكون لتاريخنا معنى، وأن تكون لدراسته قيمة وأثر، فلابد لنا أن نعيد التفكير فيه، موضوعات وأساليب بحث. ألا يستحق النظر فى مدى صحة وأخلاقية ونزاهة ما ترمز إليه تماثيل الشخصيات والأحداث التاريخية العربية المنصوبة فى مدن الوطن العربى كله أن يكون واحدا من أساليب أو موضوعات مراجعة التاريخ التى أشار إليها الدكتور الدوري؟
التاريخ العربى، مثله مثل غيره من تاريخ الأمم الكبرى، ملىء بالإنجازات الحضارية الرائعة، ولكنه أيضا موبوء بالأخطاء والخطايا المعيبة. الإنجازات الحضارية يجب أن تخلد بأشكال كثيرة، بما فيها إقامة تماثيل لرجالاتها واشعاعاتها. أما الموبوء منه فيجب إزالة تمثيل رجالاته وخطاياه من الساحات.
هذا طريق نحتاج أن نسلكه إذا كنا نريد أن نرسخ فى عقول ونفوس أجيال شباب وشابات المستقبل العربى تعليما تاريخيا موضوعيا وثقافة تاريخية تسمو بحسهم الإنسانى.
قد تشتم وتتهم بعض الجهات المحافظة المتزمتة الأمريكية والأوروبية الشابات والشباب الذين يرغبون فى تنقية تاريخهم من الزيف والكذب وهيمنة أقليات السطوة والجاه عليه وعلى رموزه، أما المجتمعات فيجب أن تقبل جبينهم، عرفانا لهم بأنهم فتحوا أبوابا لفهم العمل السياسى النضالى كانت مغلقة، تارة باسم الوطنية وتارة باسم الحشمة السلوكية الكاذبة.
1270 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع