د. خضر (ديفيد) بصون
ذكريات وخواطر طفل وتأملاتي على قيام الجمهورية العراقية – (١)
يصادف اليوم الذكرى الثانية والستين للانقلاب العسكري الذي أطاح بالنظام الملكي في العراق في 14 تموز 1958. أتذكر ان في هذا اليوم استيقظت مبكراً وغادرت البيت في الساعة السادسة صباحاً لشراء الخضروات والفواكه من سوق البتاوين والذي كان يبعد عن دارنا حوالي عشرين دقيقة مشياً. كان هذا اليوم حدثاً مهماً في حياتي كطفل لم يتجاوز التاسعة من العمر حيث وافقت والدتي بعد الحاح شديد، لعدة ايام، بان تسمح لي ان اذهب للسوق بدون أن يرافقني أحد.
حين وصلت لسوق البتاوين شعرت بجو غريب فالناس كانت تستمع للمذياع بصورة ملفتة للنظر وكأنها تترقب أخبار مهمة. لفت سماعي الاغاني الحماسية من الراديو- الله أكبر فوق كيد المعتدي، لاحت رؤوس الحراب، وبغداد يا قلعة الأسود وكذلك بيان "رقم واحد".
حينها اسرعت الى البيت بعد شرائي بعض الفواكه وحين وصلت اليه رأيت والدي ووالدتي قلقين جدا لكنهما كانا مبتهجين. أخبروني بحصول انقلاب عسكري بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وسقوط النظام الملكي واعلان الجمهورية. ثم سمعت خلال اليوم بمقتل الملك الشاب فيصل الثاني وخاله الوصي عبد الاله وهروب نوري السعيد ثم القبض عليه بعد يوم متخفياً بعباءة نسائية. لم افهم لماذا ملكنا "المحبوب" ابن الثالثة والعشرين، والذي كنا ننشد له "عاش الملك" قبل أسابيع قتل مع عائلته بصورة همجية ولماذا تم التمثيل بجثتي عبد الاله ونوري السعيد.
اكتشفت وبمضي الأيام أن والدي كان ضد النظام الملكي ومن معارضي نوري السعيد والحكومات التي ترأسها او كان من ورائها. كان والدي من ضحايا هذا النظام حيث سجن في 1943 وهو ابن السادسة عشر وابعد لمدة سنة الى بدرة في 1948-1949 وحورب مرات عديدة في عمله الصحافي. كان متفائلاً بقيام نظام ديمقراطي يستند على انتخابات نزيهة ولكن كان هذا وهم كبير.
انتهت العطلة الصيفية بإعلان كان له صداه وتبعاته لسنين – احتفالاً بالثورة، قررت الحكومة العراقية أن تسمح لكل من رسب في الامتحانات أن "يصعد" للصف التالي أو يتخرج وينضم إلى صفوف الناجحين. طبعاً كان هذا يوم عيد لمن رسب، وتفاوتاً بين الفرح والذهول لبقية الطلاب الذين كرسوا جهودهم في الدراسة لاجتياز الامتحانات، كما قوبل في اعتقادي بامتعاض وعض شفاف لدى معظم المدرسين ومدراء المدارس، خوفا من تدهور المستوى التعليمي. كنت أود أن أكون طيراً لأرى تعابير مدير مدرستنا المرحوم الأستاذ عبد الله عوبديا عندما سمع هذا النبأ. كان لمديرنا ونائبيه - ست سمحة نسيم والمرحوم أستاذ اسحق كوهين، وبقية الهيأة التعليمية في مدرستي فرنك عيني وشماش الفضل في أن ننهي الدراسة بأعلى المستويات. عرفت هذه السنة الدراسية بعام الزحف. لم يتكرر هذا الحدث ثانيةً بالرغم أن العديد من الطلاب خرجوا في الصيف الذي أعقبه بمظاهرات مطالبين بتنجيحهم ومرددين شعار "يا زعيم للأمام نريد الزحف مثل العام".
بعد شهر ونصف من قيام "ثورة 14 تموز". احتفلت بعيد ميلادي التاسع. كانت هذه مناسبة خاصة، فهو أول عيد ميلاد لي في العهد الجمهوري.
طالبت كأي "رجل حر" في بالحصول على "حقوقي المهضومة" كحق ركوب باص الأمانة الأحمر بدون مرافقة، تخصيص مصرف جيب، واحضار تلفزيون متى سمحت ميزانية البيت. طبعا لم انس أن اذكّر والدتي بأنني "ثوري" وكنت في سوق البتاوين صبيحة 14 تموز. وللتأكيد رددت قولها لوالدي بعد ان عدت الى البيت " دتشوف أول مرة اخلي الولد يروح للسوق وهو يسويلنا ثورة".
بدأنا السنة الدراسية 1958-1959 وصور الزعيم عبد الكريم قاسم "قائد الثورة" على حيطان الصفوف. تعلمنا أن نحفظ غيباً الفقرات الأولى من البيان الأول للثورة. وبعد أشهر، عندما تم تصميم شعار جديد للجمهورية العراقية، تعلمنا رسمه وتفسير رموزه وألوانه. صمم الشعار من قبل الفنان جواد سليم على غرار الشعار الأكدي المكون من الشمس الذهبية ذات الثمانية إشعاعات والنجم المثمن الأحمر وكانت فيه رموز أخرى - السيف العربي، الخنجر الكردي، السنبلة الذهبية رمز الزراعة والعجلة المسننة رمز الصناعة.
من منجزات الثورة، إننا اقتينا تلفازاً لأول مرة في نهاية 1958، أتاح التلفاز لي ولأختاي إن نرى أفلام الكرتون والكاو بوي وكرة القدم ولوالدي متابعة جلسات المحكمة العسكرية الخاصة التي عرفت بمحكمة الشعب (محكمة المهداوي).
هذه المحكمة العسكرية التي كان يرأسها العقيد فاضل المهداوي (ابن خالة عبد الكريم قاسم) شكلت لمحاكمة أقطاب الحكم الملكي (العهد البائد) مثل فاضل الجمالي، غازي الداغستاني، بهجت العطية، سعيد قزاز وغيرهم من الساسة والعسكريين. ثم تحولت بعد فترة قصيرة لمحاكمة عبد السلام عارف بتهمة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وبعد أشهر في محاكمة الذين اشتركوا في المحاولة الانقلابية الفاشلة مع عبد الوهاب الشواف في أذار 1959. كانت وقائع الجلسات، بعد تسجيلها في الصباح، تعرض مساءا على شاشة التلفزيون. وكان لهذه المحكمة جمهورها الواسع في المقاهي والكازينوهات اذ اتسمت بطابع ترفيهي، فقد كان رئيسها المهداوي يلقي النكات والاشعار ويعلق على الأحداث وكان المتهمون يتعرضون لإهاناته وسخرية الجمهور والهتافات المعادية
في 1959، ولا اتذكر بالضبط، أي مناسبة كانت، أمّا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة للشواف في آذار أو على الأكثر في مسيرة يوم العمال في 1 أيار، خرجت مظاهرات حاشدة مؤيدة للزعيم عبد الكريم قاسم. أخذني والدي معه وكان شارع الرشيد مكتظاً، لا أحد يستطيع التحرك في هذا الليل. رفعني والدي علي كتفيه لكي لا يدوسني احد ولكي استطيع الرؤية. أتذكر اني نظرت إلى ساعتي وكانت الساعة الثانية صباحا. ناس تهتف "كرد وعرب فد حزام ... عاش الزعيم المقدام" و "لا بعثية ولا قومية ... جبهة حرة وطنية" و "هربجي ...هربجي كرد وعرب رمز النضال"، "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" وهناك آخرون يرددون ماذا تريدون؟ والآلاف تجيب – إعدام كل الخونة. لم افهم ماذا، أنا ابن التاسعة وشوية ماذا يعني إعدام ولكن كأي مناضل كنت اصرخ ماذا تريدون ؟ بالله، قولوا لي ماذا كنا نريد؟
بالرغم من البداية الدموية لثورة 14تموز، آمن والدي أن القوى والأحزاب السياسية التي شاركت في أول حكومة ستتجه نحو تقصير الفترة الانتقالية والتمهيد لإجراء انتخابات حرة لبرلمان يمثل الشعب. رأى والدي في القوى "التقدمية والديمقراطية" التي ينتمي إليها وفي عبد الكريم قاسم الأمل في تحقيق المساواة لأبناء الشعب ومن ضمنهم يهود العراق. لكن منذ الأسابيع الأولى للثورة، بدأ الشرخ بين مفاهيم وطموحات القوى السياسية يتسع. التف حول عبد السلام عارف الرجل الثاني كل القوميين والناصريين والبعثيين وكانوا يدفعون باتجاه الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا). وساند عبد الكريم قاسم الشيوعيون والأحزاب الديمقراطية والأكراد الذين كانوا يفضلون بناء "عراق ديمقراطي مستقل" كل هسب مفهومه . تحول الصراع سريعاً بعد بضعة أشهر من سقوط الحكم الملكي، من صراع أفكار ومبادئ إلى عنف سياسي ثم عنف دموي.
هكذا بدأت مصطلحات جديدة تدخل إلى قاموسي السياسي! – العهد البائد، الطغمة الفاسدة، الفلول، التقدميون، الديمقراطيون، الشيوعيون، القوميون، الناصريون، البعثيون، الفوضوية، الشعوبية، الاستعمار، الإقطاع، الرجعية، أنصار السلام، الحكم الفردي...... بالرغم من أن والدي كان مرشدي السياسي وكان "قاسميا" حتى النخاع، سأحاول قدر الإمكان، في هذه الذكريات، أن أتجنب الدخول في المتاهات السياسية وان أكون متفرجاً.
عند كتابتي لهذه المذكرات بدأت افكر هل كان الشعب العراقي يوما ما موحداً وهل العنف داء مستأصل. متى احترمت الفئات السياسية، أيّن كانت، تناقضاتها في الرأي؟ كل أراد إن يمحو الآخر من الخارطة السياسية. كل معسكر له أجندته التي لا تشمل الآخر. كانت هناك فرصة لولادة عراق ديمقراطي في 1958 وثانية في 2003 بعد سقوط صدام. وفي العقد والنصف الماضي يتصدر المشهد العراقي الإسلام السياسي بأقبح صوره والنعرات الطائفية التي ادت الى هجرة الاقليات. اليهود العراقيون الذين هاجروا من العراق واسقطت الجنسية عنهم كانوا اوفر حظا من بقية الشعب العراقي الذي يعاني من حكم الاحزاب الدينية الفاسدة والهيمنة الايرانية. اتساءل بين الحين والآخر، هل اتفق القط والفار على خراب الديار؟
4042 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع