ضرغام الدباغ
طغيان الدولة مقدمة لإرهاب الدولة
تصدير الثورة
لو سلمنا جدلاً بشرعية فكرة تصدير الثورة (وهي نظرية غير علمية)، فلابد له على الأقل من توفير أسس ومرتكزات سليمة لهذه الثورة، رغم أن فكرة تصدير الثورة هي أساساً فكرة رجعية مهما كان الشعار الذي يعلوها، فالثورات لا تُصدّر وليس هناك إمكانية نظرية أو عملية تجيز وتشرعن فكرة أن يُحرّر أي شعب، شعباً آخر. وإن ادّعى ذلك تقدميون من أصحاب الفكر والمنهج السياسي والاجتماعي، ففي هذه الحالة ليسوا سوى ثوريون رومانسيون حالمون، إذ أن الثورة قائمة أساساً على قوانين ومعادلات ليست بسيطة، إن فكرة تصدير الثورة اعتماداً على البندقية لوحدها عملاً مستحيلاً، فهناك العمل السياسي النضالي، وهناك الحتميات التاريخية وقوانين الثورة بصرف النظر عن هوية رافع هذه البندقية وحامل اللواء.
عبر التاريخ لاقت فكرة تصدير الثورة نتائج كارثية حيثما فكر وأقدم من قام بها. فإذا أوغلنا في ملفات التاريخ، نجد أن الثورة الفرنسية عندما استتب لها الأمر استقرت، أبدت استعدادها لتحرير أوربا من ملوكها المتعسفين. وكانت هذه الفكرة تبدو شاعرية في البدء وفي غاية النزاهة، لكن سرعان ما تحولت إلى استعمار عندما تحقق لفرنسا السيطرة على أوربا وتحول الفرنسيون إلى غزاة على الرغم من جمال وجاذبية شعارات: حرية مساواة وإخاء. إلا أن الاحتلال الأجنبي في النهاية هو احتلال، وهو إهانة لشرف أي بلاد مع أن الفرنسيين هم من أرومة مشتركة مع الإيطاليون والألمان والنمساويون وغيرهم من الشعوب الأوربية، وينتمون إلى الديانة المسيحية المشتركة، بل إلى كنيسة واحدة في أغلب الأحيان.
وكان الجنرال نابليون قد ادعى أن جيش الثورة الفرنسية مستعد لأن يحرر أوربا على أن تدفع تلك الشعوب نفقات التحرير، ولكن ما لبث أن تحول هذا الشعار الخيالي إلى حملات وفتوحات، سعياً وراء التوسع السياسي الاقتصادي والعسكري، باسم الثورة، وحتى الشعوب الرازحة تحت الظلم والطغيان قاومته لأنها ترفض السيادة الأجنبية.
تصدير الثورة إذن خرافة، وفكرة بائسة عندما تستخدم كشعار سياسي، إذ بالإمكان تبين القهر بين أنيابه، في إرغام شعب آخر على اتباع منهج يماثل منهجه. ثم أن الأمر لا يعدو في النهاية عن خلق وسط سياسي / اقتصادي / استراتيجي، مرتبط وتابع. والعملية برمتها لعب على الألفاظ والكلمات، فمن ذا الذي يحق له إصدار مراسيم احتلال..؟ أيّاً كان شعار هذا التوسع فهو استعمار أيّاً كان لونه.
وبالإمكان أيضاً مراجعة مصير أيديولوجية تصدير الثورة لتروتسكي في الاتحاد السوفيتي، إذ لم تلاقي هذه الفكرة القبول من الغالبية الساحقة للأحزاب العمالية، ولم تعد في النهاية سوى تجمعات هزيلة هنا وهناك، لم تنجح في تقديم الدليل على صواب فكرة الثورة الدائمة. وحتى تلك الأفكار والفعاليات الأكثر تقدماً التي قام بها ثوريون محترفون في بناء الخلايا الثورية في مجتمعات لا تتوفر فيها شروط ومقدمات الثورة، لاقت هي الأخرى فشلاً مؤسفاً في بعض الأحيان، والدليل على ذلك فشل تجربة بناء البؤر الثورية في أميركا اللاتينية، رغم أن الفكرة تبدو للوهلة الأولى جذابة وبراقة، وأضفت عليها شخصية الثائر الكوبي / الأرجنتيني، أرنستو غيفارا الرائعة الكثير في مغزى التضحية والشجاعة الثورية، لكن تجربة بوليفيا كانت بائسة ومؤسفة، وكانت جهات كثيرة وفق رؤية علمية للأمر قد قدّرت مخلصة الفشل المسبق لهذه التجربة.
حركة التاريخ محكومة بقواعد علمية لا تتغير تقريباً، وهناك قواعد للتطور والنمو، وقوانين اجتماع، وهي التي تحكم التطورات بطابعها بما يظهرها وكأنها تكاد أن تكون متشابهة لدرجة التماثل.
هناك دائماً غزاة ومحتلون، يطلقون على أنفسهم المحررين، أو مندوبي الحضارة والمدنية، أو رسل الديمقراطية، والسلام، والإنسانية ... الخ .. ما في موسوعة القواميس السياسية من مصطلحات وتعبيرات .. ولكن كل هذه المصطلحات تعبر في نهاية المطاف عن رغبة وإرادة في التوسع، ومهما اختلفت الحقب فالمسميات واحدة، والنتائج متشابهة.
بالنسبة لدولة مثل إيران مثل مشروع تصدير الثورة فقرة رئيسية في مخططات الدولة الإيرانية، وبرنامجا حكومياً علنياً لتصدير الإرهاب تحت عناوين وأساليب شتى، يقع التدخل العسكري المباشر في مقدمتها، إلى جانب فقرات أخرى في سياسة التدخل في الشؤون الداخلية، مما يخلق منها جاراً يتسبب بخروق للأمن القومي ويهدد البلاد، ويشيع الأعمال الإرهابية.
بتقديري أن فكرة تصدير الثورة هي جذر الإرهاب بصرف النظر عن الشعارات التي تطرحها، وهوية القائمين عليها. وتصدير الثورة يتم بوسائل ووتائر مختلفة. وفكرة تصدير الثورة مؤسسة (Fundament) قوامها : " أن الجهات التي يستهدفها مصدروا الثورة يفترضون أن تلك الجهات قاصرة على "الثورة"، ونحن نقوم بمساعدتها ".
وتتخذ الجهات المصدرة للثورة من الشعارات "الثورية" ستاراً للأهدافها الحقيقية المتمثلة بالتوسع وإحراز النفوذ السياسي والاقتصادي وسائر المكاسب الأخرى، إن القانون العلمي للثورة لا يحتمل التعميم، بل أن أي من المجتمعات تعيش بنفسها احتدام التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى تتجاوز مرحلة التناقض الثانوي، إلى مرحلة التناقض الرئيسي وصولاً إلى درجته التناحرية، حين يعجز نظام العلاقات عن جمع المتناقضات وتعايشها، وحين يبلغ عمود التراكم حده الأقصى، تنفجر الثورات. وأي حديث خارج هذه القوانين هو خارج العلم وقوانين التطور التاريخية.
أستخدم نابليون مصطلح تصدير الثورة صراحة، ولكنه كان يخفي برنامجاً توسعياً، وهو ما وحد الأوربيين ضده، ثم حاول تروتسكي تصدير أفكار الثورة الروسية، فكانت تلك محاولة فاشلة أيضاً، وفي القرن العشرين أيضاً حاول الثائر الارجنتيني / الكوبي أرنستو غيفارا ذو الوجه الملائكي تصدير الثورة بكثير من النزاهة والأخلاق، وبمحتوى آيديولوجي نبيل، وبوسائل العنف الثوري، لكن قضية تصدير الثورة تحمل في أساسها أسباب فشلها لأنها تتجاهل الظروف الذاتية والموضوعية لذاك البلد، وبالفعل كانت نتائج جميع محاولات تصدير الثورة فاشلة في نهاية المطاف سواء الثورة الفرنسية، أو التروتسكية، أو ثورة غيفارا.
أما فحوى التوسع الإيراني فهو ليس سوى طموحات قومية فارسية لا علاقة لها بالدين، ولكنها تستغل الدين كغطاء للتضليل والتمويه، ويفتقر المشروع الإيراني لأي محتوى وجوهر فكري أو فلسفي، والشعارات الإيرانية بائسة، تفتقر بصورة تامة للمشروعية أولاً، ثم إلى محتوى اقتصادي وأجتماعي، وبذلك ليس مستغرباً التدمير الشامل للبلدان التي وصلها التأثيرات الإيرانية. ونلاحظ :
رافق "الثورة" الإيرانية إرهاب لم تشهد له إيران في تاريخها مثيلاً.
• ربط حتمي بين الانتماء المذهبي والولاء التام المطلق لإيران وسوق تأويلات باطلة لتبرير هذا الشرط ليصبح جزءاً من العقيدة ... في مؤداها النهائي تكريس لولاية الفقيه قائم على عبودية فكرية وإلغاء تام لشخصية الفرد في إطاعة عمياء للمرجع.
• إلغاء تام لفكرة الدولة الوطنية والقومية، وهذا الإلغاء ينفي أي احتمال لتطور النظام السياسي، تطور تحكمه الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، محلياً ودولياً.
• غوص متزايد في عالم الغيبيات، في عصر تتوالى فيه الحقائق المادية العلمية ومنجزاتها الباهرة، وبلوغ التراكم المعرفي والثقافي درجة كبيرة.
• أن الحجم الكبير للجهد الإيراني في اختراق مجتمعات إسلامية، سينجح نجاحاً محدوداً في اجتذاب عناصر محدودة، مشخصة هي على هامش المجتمع أو في قاعه، وهي لا تساوي الجهد الذي في معظمه استخباري / مالي قائم على الكسب بتقديم إغراءات (بعثات، علاجية، إغراءات مالية زواج مؤقت، منح لدراسة العقيدة).
إن الثقافة هي أفضل وسيلة التنوير، ومنها نصل إلى بناء شخصية متينة للأفراد، لا تعبث بها الخرافات والأحلام، والتعصب وثقافة الكسب بالقوة والثأر والأنتقام ... فهذه كلها لن تبلغ بأي مجتمع، (بما في ذلك مجتمع البلد مصدر الثورة)، إلى إلى مرحلة يمكن وصفها بالتقدم، فتتحول إلى سلطة غاشمة تفرض الأمر الواقع بقوة السلاح وعنف الدولة الذي يصبح طغياناً واضحاً مهما تغلف بشعارات براقة شعبوية.
ليس سوى تقديم المكاسب المادية للمجتمع، ليس سوى زج كافة القوى البشرية، ليس سوى برنامجاً سياسياً / اجتماعيا يتجاوز التعصب والتشدد وطرح الفكرة الواحدة، ليس سوى نظام سياسي / اجتماعي يتجاوز الطائفية والعنصرية، ويطرح ديمقراطية شعبية تنهض بالبلاد لا تعيده إلى الخلف ..
4812 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع