عائشة البصري
غضّوا الطرف في فرنسا أو غادروها
استفزاز المسلمين في فرنسا واضطهادهم لا يبرّر إطلاقا قطع رأس مدرس التاريخ والجغرافيا، صمويل باتي، أو الاعتداء الجسدي على أي إنسان آخر. الأفكار تُحَارَب بالأفكار لا بالخناجر، والعنف يولّد المزيد من العنف، والاضطهاد يُحَارَب باللجوء إلى القضاء أو الانسحاب. لو لم يرتكب الشاب الشيشاني المتطرف جريمته البشعة، ربما واجهت إدارة الإعدادية التي كان يُدَرِّس فيها باتي تهمة تعريض القاصرين لصور مهينة للكرامة الإنسانية، فضلا عن التمييز ضد المسلمين وخرق حيادية العلمانية. اليوم وقد تحول الأستاذ الضحية من مواطن عادي إلى "شهيد" الجمهورية و"بطل" حرية التعبير، يصعب إقناع الفرنسيين بالعودة إلى الوراء، للتوقف عند ما سبق هذه الجريمة من انتهاكٍ لحقوق الطفل باسم حرية التعبير.
كاد يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري يكون يوما عاديا في إعدادية تقع في أحد الأحياء الهادئة في ضواحي باريس، لو لم يتم عرض رسمين من رسوم المجلة الأسبوعية الفرنسية، شارلي إيبدو، الساخرة. كان المُدرّس باتي يعلم أن رسما محددا بالذات صدم ملايين الراشدين، وسيصدم تلاميذ قصّراً لا يتجاوز عمر بعضهم 12 سنة، وأن المسلمات والمسلمين منهم سيشعرون حتما بالحرج والإهانة. حاول أن يمارس القليل من الرقابة، فنصح الأطفال أن يغادروا الفصل، أو أن يمكثوا ويغمضوا أعينهم حتى يعرض الرسميْن على رفاقهم إن كانت لديهم حساسية حول الموضوع، حسب تقارير إعلامية فرنسية اطلعت على أقوالٍ نُسبت إلى المدرّس في محضر الشرطة.
خُيّر الأطفال بين أن يشاهدوا أو ألا يشاهدوا الرسومات، فمارس بعض التلاميذ المسلمين الرقابة الذاتية على أنفسهم وامتثلوا لخيار المغادرة، في حين فضّل آخرون البقاء وخوض تجربة النظر في صور تنتهك براءة سنهم. فاقت صدمة بعض الأطفال توقعات أستاذهم، واشتكوا من الحادثة إلى أولياء أمرهم، فتوالت ردود أفعال هؤلاء، وتراوحت حدّتها بين محاورٍ ومناوئ. غداة هذا الدرس عن "حرية التعبير"، اتصلت والدة إحدى التلميذات المسلمات بمديرة الإعدادية، وهي تنهمر بالبكاء من تعرّض ابنتها للتمييز على أساس دينها. في اليوم نفسه، تلقت المديرة في بريدها الإلكتروني رسالة من مجهول المصدر، يُدين "مناخ الإسلاموفوبيا" الذي يسود في الإعدادية. لكن أقوى ردّ جاء من إبراهيم س، والد إحدى التلميذات الذي تابع الأستاذ باتي قضائيا بتهمة "نشر صور إباحية". وضع أصبعه على طبيعة محتوى هذه الصور المخالف للقانون الفرنسي، لكنه أخطأ في أسلوب الدفاع عن القضية. بدل أن يستعين بمحامٍ متمرس، أقحم الإمام الداعية عبد الحكيم الصفريوي، وهو فرنسي من أصول مغربية تضعه المخابرات الفرنسية على لائحة الإسلاميين المتطرّفين. استقبلت إدارة الإعدادية زيارة الصفريوي وإبراهيم، وأخبرتهما أن عرض هذه الرسومات مُدرج رسميا في البرنامج الدراسي للإعدادية منذ خمس سنوات في إطار درسٍ عن حرية التعبير، وهذا ما أكدته شهادات تلاميذ وردت في الإعلام الفرنسي. اتضحت مسؤولية المؤسسة التعليمية عمّا كابده الأطفال من تمييز وإهانة، و لكن الرجلين فضّلا شخصنة القضية، وشيطنة المدرّس الذي وصفاه بـ"الوغد"، حتى بعد أن اعتذر لتلامذته واعترف بأن تصرفه كان "أخرق".
كان الأحرى بهما مقاضاة المسؤولين في هذه الإعدادية التي سمحت بسلوك عرّض المدرّس والأطفال المسلمين معاً لأكثر من خطر، فالمادة 227 - 24 من القانون الجنائي الفرنسي التي تم تعديلها العام الحالي تُجرّم تعريض قاصرين لأي مادة مرئية تحتوي على رسالةٍ ذات طبيعة إباحية، وتحط من كرامة الإنسان بشكل واضح. ويبدو القانون صارما، نظريا على الأقل، إذ يعاقب كل من ضلع في هذه الجريمة بالسجن ثلاث سنوات، وبغرامة قدرها 000 75 يورو. بإمكان الإعدادية التملص من تهمتي الإخلال بحيادية العلمانية والتمييز ضد المسلمين، بحجة حرية التعبير التي أصبحت تُكبّل الحريات الأخرى، لكن إباحية الرسوم تشكل إخلالا بالدور التربوي المنوط بها، وفضيحة إضافية في بلادٍ تدّعي أنها مهد حقوق الإنسان ومنارته.
ربما أدرك باتي، قبل قتله ذبحا، عمق الجرح الذي حفره في نفوس أطفالٍ ذاقوا شعور الإقصاء والدونية والإهانة، لكنه لم يكن سوى تلك الشجرة التي تخفي الغابة، فمشكلات فرنسا تكمن في مؤسساتها، وفي مقدمتها المؤسسة التعليمية التي تمنع الأمهات المحجبات من مرافقة أبنائهن في الرحلات المدرسية، وتطرد من مدارسها فتياتٍ يرتدين أوشحة، باسم العلمانية. المؤسسة التعليمية تدفع الأطفال المسلمين إلى الانعزالية نفسها التي تدّعي محاربتها، وتزجّهم في أحضان اليأس والتطرّف.
فرنسا تمارس فن الخداع على نفسها، تنتهج الإقصاء باسم الإدماج، وترقى بتحقير المسلمين والسخرية من معتقداتهم إلى حرية مقدسة. الآلة القمعية الفرنسية قادرةٌ على إعادة تعريف الإباحية، كي تقنّن عرض كل رسومات "شارلي إيبدو" على القاصرين في صفوف مدارسها العمومية بلا حرج. لقد حسم الرئيس ماكرون موقفه، وقرّر أن بلاده لن تتراجع قيد أنملة أمام "أعداء الحرية"، وستواصل نشر هذه الرسوم المسيئة للنبي، دفاعا عن علمانية الجمهورية.
لن يكون هناك بعد اليوم حوار مع المسلمين. لقد ألحق بهم الشاب الشيشاني الذي ذبح المدرّس مزيدا من الأذى، وضيّق عليهم الخناق، وأضاع عليهم فرصة الدفاع عن أطفالهم. شطبت فرنسا كلمتي "الاحتشام" و"الحياء" من قاموسها الجنائي، بعد أن تخلت عن "جريمة الإخلال بالحياء"، واستبدلتها بقانون يجرّم "الاستعراض الجنسي". وها هي اليوم تمتحن المسلمين، مرة أخرى، في أطفالهم، تخدش حياءهم وتجرح أحاسيسهم، وتطلب منهم الامتثال لقيم مشبوهة.
ربما كان الضحية باتي على حق، فلم يبقَ لمسلمي فرنسا وأطفالهم إلا أن يغضّوا الطرف عمّا يؤلمهم أو أن يغادروا جمهورية العراء والاستهزاء. أما الخيار الثالث، خيار الدفاع عن الحقوق والحريات، فيبدو رهانا ضعيفا في ظل تصاعد وتيرة القمع والتمييز وعنصرية المؤسسات. فرنسا تنفث النار وتتوعد بتصعيد حربها ضد "الانفصال الإسلامي"، وتستعد لسنّ قوانين من شأنها أن تزيد من حدة الاستقطاب والكراهية.
1121 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع