د. زكي الجابر
شؤون إعلامية
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
1- بين مقولة ماكلوهان Marshall McLuhan(1) ’’العالمٌ قريةٌ صغيرةٌ‘‘
و ’’تكنولوجيا‘‘ الاتصالِ الرَقمِيّ و ’’الإنترنت‘‘ Internet نِصفُ قَرنٍ تغيّرتْ خِلالَها مُعطَياتٌ كثيرة. والتسارُع أبرزُ صِفاتِ ’’تكنولوجيا‘‘ التَواصُلِ المُعاصِرة، فإذا ما كانت المسافةُ الزمنيةُ بينَ المَطبعةِ المُتحرّكةِ وكاميرا التَصويرِ وصلتْ مائةً من الأعوامِ فإنَّ المسافةَ تقلَّصتْ إلى خمسينَ عاماً بينَ الأخيرةِ والأُنبوبِ المُفَرغِ، وبينَ أُنبوب الصُورةِ والأخيرةِ تقلَّصتِ المسافةُ إلى عشرينَ عاماً، ولم تَستغرقِ الفترةُ إلّا أقلَّ من عَشرِ سنواتٍ بين أُنبوبِ الصُورةِ والقَمر الصناعيِّ. قد يكون ذلك حصيلَة التَراكُمِ المعرِفيِّ، ولكن لا ينبغي أن نُغفِلَ التطبيقاتِ العسكريَّةَ لتَكنولوجيا التواصُلِ. لقد ترعرعتْ هذه التكنولوجيا ونَمَتْ في رَحِمِ المؤسسَّةِ العسكريّةِ وسنظلُّ نشاهدُ التطوُّراتِ المذهِلَةَ التي سيُسفرُ عنها هُبوطُ المِسبارِ ’’پاثفايندر‘‘ Pathfinder على سَطحِ المَرّيخ. إنّ الكونَ العظيمَ، وليس الأرضَ فحسبُ، سيغدو قريةً، ولكن الأهمَّ أن تكونَ قريةَ سلامٍ لا أن تكونَ جبالُها وتلالُها مُنطَلَقاتِ تدميرٍ لحضارةِ الإنسانِ على وجهِ أرضِنا الطيّبة.
2- هذه التكنولوجيا موجودةٌ في منازلنا، نحن العربَ، أو على السطوح، لكنْ يظلُّ التساؤُلُ: هل استطعْنا الانتقالَ من طَورِ المستهلِكِ السَلبيِّ إلى المُساهِمِ الفِعليِّ؟
لم نَستطعْ أن نكونَ مُساهِمينَ فِعليّينَ في صُنعِ السياسةِ التي تصنعُ يومَنا وغَدَنا، ولا في صِناعة أسلحتِنا التي نُدافعُ بها عن أرضِنا، ولم نَتقدَّمْ خُطُواتٍ في صناعةِ أجهزةِ إعلامِنا. إنّنا أمَّةٌ ما زالتْ تعيشُ تحتَ ظلالِ الهزيمةِ، ولن نستطيعَ أن نكونَ مُستهلِكينَ ومُنتِجينَ فِعليّينَ، أو بتعبيرٍ آخر، لن نَستطيعَ أنْ نصنعَ إعلاماً فاعلاً، عالميّاً وعربيّاً، ما لَمْ نَهزمِ الهَزيمة.
3- يُلاحَظُ انتشارُ القنواتِ الفضائيّةِ العربيّةِ الخاصّةِ إلى جانبِ القَنَواتِ الحُكوميّةِ، ويشهَدُ وطنُنا العربيُّ ما يَقرُبُ من الفَوضَى الإعلاميَّةِ وبالأخصِّ في مجالاتِ الإدارةِ والتنظيم. ثمّةَ أجهزةُ إعلام رسميّةٌ وأُخرَى مؤسّساتيّةٌ مُشتَركَةٌ بين العامِّ والخاصّ، وهناك أجهزةٌ خاصّةٌ وأجهزةٌ مُؤَسَّساتيّةٌ رسميَّةٌ تَخضَعُ لإشرافٍ حكوميّ. هذه الإدارةُ المتنوِّعةُ المَناحي على الساحةِ العربيّةِ لم تُسفرْ عن تَنوُّعٍ في البَرمَجةِ ولا عن ارتفاعٍ في مُستوَى البَرامج، وقد بَقِيَتْ كلُّ تلكَ القنواتِ الفضائيّةِ خاضعةً بشكلٍ مُباشرٍ أو غيرِ مُباشرٍ للتوجُّه ’’الآيديولوجي‘‘ للدولةِ القُطريّةِ، ولعلّ أصدقَ دليلٍ على هذا الحكمِ هو تماثُلُ النَشرةِ الإخباريّةِ في القنواتِ العامّةِ والخاصّةِ في جَوانِبِ المُحتَوى وتَرتيبِ الأولَوِيّات. لا أتوقَّعُ اشتدادَ المُنافسَةِ بَل المزيدَ من التَماثُل.
4- أصبحتْ ظاهرةُ التخصُّصِ من سِماتِ عَصرنا، فهُناكَ قَنواتٌ ومجلّاتٌ تُعنَى بالسياسةِ وأخرَى بالفنِّ أو الرياضةِ أو غير ذلك من التَخَصُّصات. إن مرحلة تَخَصُّص قَنواتِ الإعلامِ مِن صُحُفٍ ومجلّاتٍ وإذاعةٍ وتلفزيونٍ تتجاوبُ مع انتشارٍ ملحوظٍ للتعليمِ العالي، قدرةِ ذاتِ اليدِ، ووقت الفراغ، واتّساعِ الحجمِ السُكّانيّ. وهي تأتي بعدَ مرحلتينِ يُمكنُ تسميةُ أولاهُما مرحلةَ النُخبة حيثُ يسودُ الراديو الوسطَ الأُمِّيَّ، وحيثُ تأخذُ السينَما والتلفزةُ مكانَتَهما بينَ قِلّةٍ من الناس. أما ثانيتُهما فيُمكنُ تسميتُها بالمرحلةِ الشَعبيّةِ، حيثُ تبدأُ مُثَبِّطاتُ الفقرِ والأميّةِ في الانحسارِ ويزدادُ استخدامُ الصُحُفِ ووسائلِ الإعلامِ الأخرَى بين أوساط الناس.
إنّ مرحلةَ التخصُّصِ تختلفُ من مكانٍ إلى آخرَ حسبَ انتشارِ تعلُّمِ اللُغاتِ الأجنبيّةِ وزيادةِ الثروةِ والرغبةِ في إشْباعِ الهِواياتِ والتطلُّعات.
5- مع ذلك، نُلاحظُ أنَّ الإعلامَ العربيَّ عُموماً لا زال يُحاكي، شكلاً ومضموناً، الإعلامَ الغربيَّ المتقدِّمَ دُونَ أن يرتقيَ إلى الخصوصيَّةِ العربيّة. إنّنا أمّةُ شعرٍ رائعٍ وخِطابة، ولدينا إنجازاتٌ في النَثرِ تُغطّي مجالاتِ التاريخِ والجُغرافيا والعلومِ، ولكنّنا لسنا أُمّةَ روايةٍ أو مسرحٍ، وبالتالي لا يُمكنُ أن نكونَ أُمّةَ سينما ولا تَلفَزة. السينما والتَلفَزةُ من الصناعاتِ الحديثةِ التي لم تَعرِكِ الرأسمالَ العربيَّ ولم يَعتَرِكْها، ولم نَخُضْ غِمارَها بعدُ، مُؤلِّفينَ ومُنتِجين. ’’المِشوارُ‘‘ أمامَنا طويلٌ، ولكنْ هُناكَ ثِقةٌ بتوفُّرِ إنتاجٍ عربيٍّ ذي خُصوصيّةٍ في المستقبلِ القريب. لن نَستطيعَ أن نعيشَ التقليدَ أبداً.
6- يبدو الجمهورُ العربيُّ في حالةِ عُزوفٍ عن قضاياهُ المصيريّةِ ومُتَّجهاً إلى برامجِ التَسلية والترفيهِ، فهل هذا يَعني أنَّ المواضيعَ الجادَّةَ لا تُغري جُمهورَ وسائلِ الإعلامِ؟ أيٌّ هو العازفُ عن القضايا المصيريّةِ، الجمهورُ العربيُّ أم البرامجُ المُرتكِزةُ على الترفيهِ؟ إن العلاقةَ أصبحتِ الآنَ مُتبادَلة. لا يمكنُ الإنكارُ بأنَّ حالةَ العُزوفِ قد ساهمتْ في خَلقِها الإحباطاتُ السياسيّةُ والاقتصاديّةُ والعسكريّةُ، وشاركتْ في تركيزِها البرامجُ الترفيهيَّةُ المُستورَدَةُ التي كثيراً ما تُوضع لِسَدِّ الفراغِ بسببِ ضَعفِ قُدراتِ الإنتاجِ فِكراً وصِناعةً. إنَّ برامجَ الترفيهِ هي نوعٌ من الهُروبيّة، وما أسهلَ أنْ نغنِّيَ للبُؤسِ ومعَ البُؤسِ ونَكتَفيَ بذلكَ دُونَ بَذلِ جُهدٍ في مُحاولةِ التَغيير.
7- لم تَستطِعْ وسائلُ الاتصالِ الحديثةُ أنْ تُلغِيَ سُلطةَ الرقيبِ فينا، بل إنّ هناكَ تَفَنُّناً وتَطوُّراً في سُلطة الرَقابة. ستَجدُ البرامجُ غيرُ المرغوبِ فيها إداريّاً طريقَها مُتسلِّلةً متخفّيِةً، وستُحاولُ سلطةُ الرقيبِ التَفَنُّنَ في المُواجَهة. هناكَ الرقيبُ القارئُ، رقيبُ ’’الجمارك‘‘، الرقيبُ ’’الإلكترونيُّ‘‘، وأشدُّها نفوذاً وسُلطةً رَقيبُ الإنتاجِ والرقيبُ الذي يَكمنُ في نفسِ هذا الرقيب.
8- لقد سَبقَ لِليونسكو أن شكّلتْ لجنةً لدراسةِ قضايا الاتصالِ والإعلامِ على مستَوى العالَمِ، وأصدرتْ تقريرَها المعروفَ بتقريرِ ’’ماكبرايد‘‘ MacBride(2). وقد حملَ ذلكَ التقريرُ عُنوانَ ’’أصواتٌ متعدّدةٌ وعالمٌ واحد‘‘، أمّا بالنسبةِ للوطنِ العربيِّ فقد استطاعَ كاتبٌ ذكيٌّ أن يُغيِّرَهُ إلى ’’أوانٍ متعدِّدةٌ وطعامٌ واحد‘‘، وأقول: قد تختلفُ ألوانُ هذا الطعامِ الواحدِ لكنّ المُقوِّماتِ الأساسيّةَ تظلُّ واحدةً: تعزيزُ الكِيانِ القُطريِّ، والتخوُّفُ من طَرحِ المشاكلِ الجَذريّةِ، والانشغالُ بالاعتياديِّ والعابرِ، وتكريسُ الإنتاجِ ذي الطابعِ الاستهلاكيِّ السريع.
9- إنّنا نتغيّرُ وهذه طبيعةُ الحياةِ، وكثيراً ما تغيَّرْنا تحت تأثير قُوَى دُوَلِ ’’المركز‘‘. إن أحاسيسَنا ونظرتَنا نحو العالَم تغيّرتْ إلى الشُعورِ بالدُونيّةِ والتخلُّفِ، وبدأْنا ننسَى أنّنا أمّةٌ حَملتْ مِشعَلَ الحَضارةِ وأنارتِ الظَلامَ الذي كانَ يسودُ العالمَ. من واجِبِنا التأكيدُ على الارتفاعِ بالنَفسِ والتخلِّي عن جَلدِ الذاتِ وأنْ تسودَ لدَى الجيلِ نزعةُ الابتكارِ والإبداعِ والنقدِ الواعي.
1- ’’مارشال ماكلوهان‘‘ (Marshall McLuhan) 1911-1980. أستاذ وفيلسوف وكاتب كَنَدي، له نظريّات في وسائل الاتصال الجماهيري مفادها أنّ الوسائل الالكترونيّة سريعة جداً تصهر الشعوب على اختلاف مواقعها في بَوتَقَةٍ واحدةٍ، وبذلك تقضي على الفرديّة والقوميّة فينمو مجتمعٌ عالميٌ جديد. (ويكيپيديا)
2- ’’شون ماكبرايد‘‘ Sean MacBride، 1904-1988. سياسي إيرلندي ووزير خارجيتها، مشارك في منظمات عالمية، حصل على ’’نوبل‘‘ للسلام عام 1974. (ويكيپيديا)
******************
نشرت في مجلة ’’الشعب العربي‘‘ (المغرب) في 18-8-1997.
949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع