رفيف الشيخلي
فؤاد سالم وبكائي!
كنت في حوالي الثامنة من عمري، وقد مر على استقرارنا في المغرب حوالي السنة قادمين من الكويت. لم أكن حينها أعرف عن العراق سوى أنه بلدي الأصلي، وأنه جار الكويت. وهذه الجيرة كانت تثير أسئلة غريبة بداخلي، من قبيل: ولماذا لم نزره مثلما نزور بيت خالتي في الكويت؟ أو أصدقاء بابا، بما أنه هو أيضا قريب؟
في المغرب، كان أهلي يلتقون بأصدقائهم العراقيين مِن مَن كانوا قد سبقونا للاستقرار هنا، كل نهاية أسبوع، تجتمع عدة عائلات. وكنتُ أحب جدا هذه اللقاءات. أفضل الجلوس مع الكبار عوض اللعب مع من هم في سني. طبعا، كان جل حديثهم عن الذكريات، وأيام الدراسة في الكلية، والأصدقاء والأهل هناك، وعن الشوارع... ومع أني لم أكن أفهم نصف ما يقال، وأستغرب مسحة الحسرة في الصوت والحزن في الملامح، بالرغم من الذكريات الحلوة. لكني أسافر مع كلامهم بخيالاتي، فأرى نفسي أتمشى في شارع أبو نواس، أو أجلس في إحدى مقاهي الرشيد أو الكرادة والأعظمية. وأصير أبني أبنية وأزينها مما أسمعه من ذكرياتهم.
وطبعا، لم تكن تخلو اللقاءات من الأغاني العراقية، والتي أيضا لم أكن أفهم معناها العميق. ولكني من شدة انسجام الكبار ورغبتي في محاكاتهم، صرت أحفظ أغاني عزيز علي، الذي تعلمت بسببه معنى السخرية، وزهور حسين وسعدون جابر ومائدة نزهت وياس خضر... وفؤاد سالم الذي كنت، وما زلت أحبه بشكل خاص، وأيضا ما زلت أجهل سبب تمييزي له، ربما بسبب كلماته المفهومة نسبيا، بشكل حرفي للطفلة التي كنتها، وربما بسبب أغنية "يا نغم" التي كنت كلما غضبت وتدللت على أبي يردد مغيرا الاسم: يا بنيتي لا تعتبين... دهري رماني يا رفيف بويا. أو بسبب "حجيك مطر الصيف" التي كنت أفهمها حرفيا وأتساءل: كيف مطر بالصيف؟ وكيف ما يبلل اليمشون؟ وربما بسبب تكرار الحادثة الغريبة، التي لم أتمكن رغم مرور كل هذه السنوات على فهم سببها النفسي. وهي أني كنت أصر على سماع أغنية "غريب على الخليج" وكلما لبوا لي رغبتي، انخرطت في بكاء ونحيب، وأردد أني أيضا أريد الذهاب إلى العراق الذي يتحدثون عنه. فلا يملك كل الكبار من حل أمام حزني الغريب ذلك، إلا أن يشاركوني البكاء. والعجيب، أن هذا كان يتكرر في كل مرة أستمع فيها إلى الأغنية التي أخذت من قصيدة السياب... حتى صرتُ أنا نفسي أتهرب من سماعها، كي لا أجد دموعي تنهمر رغما عني، وهربا من الإحساس بالوحدة ربما...
كبرت، ومرت سنوات طويلة على تلك الحوادث، وبقيت أطرب إلى تلك الأغاني، وأصبحت أفهم وألمس سبب حزن وحسرة الكبار في صغري. وبقيت وفية لحب وتفضيل فؤاد سالم. والتهرب من سماع "غريب على الخليج" حتى استوقفتني الأغنية قبل أيام بشكل لم يكن يسمح لي بالتهرب. كانت تبتسم ! فأنصت إليها، وإذا بقلبي مثل آلة قديمة، ينفض عنه الغبار، ويصدر أهات حب صامتة وهو يردد: شوق يخض دمي إليه كأن كل دمي اشتهاء... جوع إليه كجوع كل دم الغريق إلى الهواء...
606 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع