من طويبة إلى بغداد رحلة بين عالمين - الحلقة الثانية

                                            

                              نزار السامرائي

من طويبة إلى بغداد رحلة بين عالمين -الحلقة الثانية

على الرغم من أن المسافة بين طويبة وبغداد لا تزيد عن 80 كيلومترا، إلا أنها بحساب طالب في الصف الثاني الابتدائي، رحلة بين كوكبين أو بين قارتين، وها أنا أنقل لكم كيف ركبت الكبسولة الفضائية لانتقل من طويبة إلى بغداد، يوما في مدرسة عكاب وقبل فترة قصيرة من هذا الانتقال سألني معلم الأشياء والصحة في مدرسة عكاب من هو جيمس واط؟ لم يقل فيما إذا كان الشخص على قيد الحياة وما هي جنسيته وهل هو فلاح مهم بحيث يسأل عنه وما هو اختصاصه؟ فالفلاحون في طويبة متخصصون بموجب خطط زراعية معدّة بموجب اتفاقات بين الفلاحين والملاّك، هناك فلاحون متخصصون بزراعة الحنطة وهناك من يزرع الشعير وكان الفلاحون يتبارون أيهم ينتج غلة أكثر في نهاية الموسم، وتتم المقارنات بين الفلاحين عند اكتمال البيادر، وعند دراسة البيدر بالطرق البدائية التي يطلق عليها الفلاحون اسم الجرجر، يقيم الفلاحون كدس محصولهم ويطلقون عليه اسم الصبّة، هناك المتخصصون بزراعة الخضر أيضا وقليل منهم يمتلكون بساتين فهذا أمرٌ محصور بين طرفين، الأول هو مالك الأرض الحاج جاسم السامرائي وأخويه رحمهم الله، والذين يمتلكون بستانا واسع المساحة جدا فيه مختلف أنواع الفاكهة ومن عينات كان يستورد أشجارها من الخارج لعدم توفر أصنافها داخل العراق، وهناك بستان آخر مساحة تقرب من ثلث بستان الحاج جاسم ويعود لجدي بدر عبد الحميد الداوود وولديه خالي فرحان وخالي إسماعيل رحم الله الجميع.

كل هذه الأفكار مرت أمامي وأنا واقف أمام معلمي مستنجدا بكل ما ادّخرته من خزين الحكايا التي كانت تخترق أذني وتستقر بعقلي الطري وأسمعها من أبي وأمي وأخوالي، نعم توقفت برهة طويلة فأخذني عقلي في سفرة إلى المناطق الحضرية الأقرب إلى طويبة، قلت مع نفسي في مدينة بلد لا يوجد شخص اسمه جيمس واط، فأحد أخوالي كان يأخذني إلى الحلاق مرة كل أربعين يوما أو خمسين يوما في بلد، تقرب المسافة بينها وبين طويبة من عشرة كيلومترا، ولو كان فيها شخص اسمه جيمس واط لكنت عرفته وخاصة من خلال تشعب الأحاديث عند الحلاق أثناء الحلاقة أو في الانتظار، لأن جيمس واط على ما يبدو شخصية مهمة بحيث يسأل عنها معلمنا، خاصة وأن المعلم وصفه لنا بأنه مكتشف قوة البخار التي تُحرك القطار الذي أرى محطته كلما ذهبت إلى بلد أو نستقله عندما نسافر إلى سامراء أو نمر على منزل السيد محمد صالح التكريتي ومحطة الوقود الوحيدة على الطريق العام بين بغداد وسامراء وتعود تلك المحطة للحاج جاسم السامرائي أيضا، ثم رحت أبعد حيث مدينة سامراء التي هي مركز القضاء الذي ترتبط به ناحية بلد، والتي تبعد بحدود خمسين كيلومترا شمال بغداد، حاولت أن استذكر حكايات أبي وأمي عن الأشخاص المهمين فتذكرت أنني سمعت يوما اسم عالم كبير فيها هو السيد أحمد الراوي رحمه الله، وعندما أردت أن استوضح أكثر قلت لأمي هل يستطيع سيد أحمد الراوي أن يخبرنا قبل سقوط المطر بيومين أو يوم
واحد، قالت لي لا هذه ليست واجباته، كان كل تصوري عن اسم "عالم" ينصرف إلى معرفة المطر ولا شيء غير ذلك، لأن المطر بقدر ما هو زائر منتظر من قبل الفلاحين ومصدر خير في المزرعة ولكنه نقمة علينا نحن طلبة مدرسة عكاب فهو الذي يقطع الطرق الترابية في طويبة فتتحول إلى طرق طينية مستحيلة التحرك، فيعرقل وصول أصدقائي من القرى البعيدة عن المدرسة وقد يمنع وصولهم يوما أو يومين، ولهذا فحيثما سمعت اسم عالم أسال أمي رحمها الله عن قدرته على التنبؤ بسقوط المطر، ليس هناك اهتمام أكثر من هذا.
أخيرا قلت لأذهب إلى بغداد ذلك العالم الساحر المبهم على مداركي، الغامض بالنسبة لي في كل شيء ما عدا الأمانة، وهي حافلة نقل الركاب داخل بغداد والتي تتوقف كثيرا على مسافات متقاربة، فكانت هذه الصورة التي نقلها لنا السيد سامي مهدي السامرائي رحمه الله، ابن خال أبي عندما كنا نتحلق حوله عند عودته من بغداد فكان يتحدث لنا عن الأمانة وكان يرسم لنا صورا حلوة عن الأمان في وسيلة النقل هذه، وقال لنا يوما إنها أمينة جدا ولا تحصل فيها سرقات ولا يحصل فيها اعتداء على أحد من ركابها، كان سامي يركز دائما على الحديث عن الأمانة لأن هناك صورا أخرى ربما علقت في الذهن من هول كبر مساحة بغداد بالقياس إلى طويبة وبلد وسامراء، بغداد كانت حلما ساحرا يرد على الخاطر في المناسبات المتباعدة، وعندما رأيتها لأول مرة خلال مراجعة أمي للأطباء لعرضي عليهم بحثا عن علاج لعلة الخرس التي أعاني منها والمرة الثانية بعد أكثر من سنتين برفقة أمي التي أصيبت بجرح أثناء تقطيع اللحم لأعداد الغداء لضيوف جدي بدر، الذين كان يستقبلهم في مضيفه بلا انقطاع فينحر لهم الذبائح، ويوفر لهم المنام فيه، ولكنه وإياهم يذهبون مساء إلى المضيف المركزي في طويبة أي مضيف الحاج جاسم والذي يتواجد فيه الحاج مهدي والحاج إبراهيم حيث تعرض فيه كل القضايا الاجتماعية التي تتعلق بحياة الفلاحين وعلاقاتهم مع المالك، أو خلافاتهم مع بعضهم وكل أمورهم المادية، ويمكن التطرق بعد حل تلك المشكلات إلى الأوضاع السياسية في العراق والقضايا العربية وخاصة فلسطين التي تم سلبها من العرب توا بعد احتلال الصهاينة لها، وكذلك نتائج الحرب العالمية الثانية التي حُسمت قبل سنوات معدودة، أعود إلى إصابة أمي بهذا الحادث الذي أدى إلى إصابة والدتي بذلك الجرح المسموم، كانت خالتي الكبرى أم فريد رحمها الله والتي لم تكن قد تزوجت في ذلك الوقت بعد هي سيدة البيت المطلقة والمطاعة والتي لا ترد لها كلمة بحيث كان الآخرون يطلقون عليها وصف الشيخ، وعلى الرغم من وجود جدتي على قيد الحياة، فهي التي تقرر ما هو الغداء وما هو العشاء، وتوزع الواجبات على أمي وخالاتي الثلاث الأخريات وويل لمن يخالف أمرها، على العموم يبدو أن السكين التي جرحت أمي كانت ملوثة، مما اضطرنا للسفر إلى بغداد بعد أن أعيتنا الحيلة في مدينة بلد سافرنا أمي "الله يرحمها" وأنا، أوصلنا سائق الحاج إبراهيم رحمه الله، وهو سائق فلسطيني اسمه مصطفى جاء قبل مدة قصيرة من فلسطين بعد احتلالها من قبل الصهاينة، وكان مثالا للأمانة والخلق الرفيع، وأخذنا إلى منزل عمي الدكتور شامل السامرائي رحمه الله في كرادة مريم، وعند معاينته للجرح أخبرها عمي شامل بأنّ الجرح تسمم وأنها بحاجة ماسة إلى إجراء عملية جراحية، وحجز لها موعدا سريعا مع الدكتور الجراح الاختصاصي البارع عبد اللطيف البدري "السامرائي" رحمه الله، وعند الكشف على أصابعها أخبرها بأنها لو تأخرت قليلا لاضطُر لقطع كفها، لكن الحمد لله جئت قبل فوات الأوان، وبقيت تتعالج في عيادة الدكتور البدري نحو أسبوعين.
تقع تلك عيادة الدكتور البدري في مجمع عيادات الأطباء في ساحة الملك فيصل الثاني والتي صار اسمها ساحة الوثبة بعد 14 تموز 1958 وهي الساحة التي يسميها البغادة ساحة حافظ القاضي، ومقابل عيادة الدكتور عبد اللطيف البدري "أبو رفل" تقع عيادة زوجته طبيبة الأمراض النسائية المعروفة الدكتورة لميعة البدري، وبعد ذلك تماثلت أمي رحمها الله للشفاء التام ولكن بعد معاناة طويلة قبل العلاج واثناءه باتت قادرة على انجاز وظائفها المنزلية على أكمل وجه وهو ما كان ينتظره أبي بعد غيابنا عنه مدة طويلة، وعدنا إلى طويبة بعد هذه التجربة المحزنة لي والمؤلمة لأمي وإن كانت نتائجها طيبة، ارتبط اسم بغداد في ذهني بتلك الصورة وبمراجعة الأطباء وتناول الأدوية والتضميد، عندها قلت للمعلم لا أعرف أحدا بهذا الاسم لا في بلد ولا في سامراء يجوز في بغداد، سكت المعلم ولم يعاقبني واعتبرت ذلك مكسبا إذ لم يكرر صفعة الاستاذ عبد الرحمن الموصلي التي كادت أن تتسبب بفصلي نهائيا من المدرسة، وللإنصاف لقد كانت تلك الصفعة سببا في كراهيتي للدراسة والمدرسة لم أُشفَ من هذا الشعور على الرغم من تقدم العمر.
المهم في أيلول 1951 ومع بدء العام الدراسي الجديد شددت الرحال إلى بغداد، كم كانت حزينة ومؤلمة لحظات الفراق، كنا نحن أربعة فقط في البيت أبي وأمي وشقيقتي التي تصغرني بخمس سنوات رحمهم الله جميعا، كان الوقت مع صلاة الفجر حيث حملت صرّة ملابسي وتوكلت على الله، بين محتقن نفسيا أكاد انفجر في بكاء مرّ بسبب فراق الأهل ومرابع الصبا وبين عالم جديد مزدحم بالغموض وغارق في المجهول والأحلام الوردية، أوصلني مصطفى الفلسطيني رحمه الله إلى منزل الحاج جاسم السامرائي في منطقة الأعظمية شارع طه، وبقيت عندهم حتى عصر اليوم نفسه، وجاء سامي مهدي السامرائي وأخذني بسيارته إلى بيت عمي شامل حيث كانت جدتي بانتظاري، واحتضنتني بقوة وكأنها تريد أن تقول أحبك كما تحبك أمك وأبوك، اليوم الأول مرّ ثقيلا وكأنه اختزل عمرا كاملا بسبب افتقاد الأم والأب والشقيقة الوحيدة في ذلك الوقت وهي أم أحمد التي توفيت عام 2007 في دمشق بسبب إصابتها بمرض قديم في صمام قلبها رحمها الله، فكرت حينها ولأول مرة ماذا جنيت حتى يتخلى عني أبواي؟ هل الأمر لا يتعدى عن كونه تعبيرا عن التخلص من شؤم تسبب بفقدان عدد من الأخوة والأخوات؟ أم هو البحث عن مستقبل أفضل لابنهم في تعليم أكثر تطورا مما هو متاح في قرية قصيّة؟ أم أن الأمر يرتبط بالعناية الطبية التي احتاجها بصفة مستمرة في بيت طبيب هو عمي؟ كل هذه التساؤلات كانت تمر سريعا ولكن عند استذكار فراق أمي وأبي وشقيقتي تخنقني غصة مرة ولا امتلك لهم شفيعا بسبب قناعتي بأن أمي وأبي تخليا عني وأنا في أمس الحاجة لحنانهما الذي لا يمكن أن يعوضه حب جدتي وعمي لي في بيت كنا نقطن فيه أربعة من أعمامي هم شامل السامرائي وعبد الرحمن السامرائي وأحمد وغازي وجدتي وعمة أبي آمنة وعمتي رحم الله الاموات جميعا، ومد في عمر عمتي الصغرى، والحق إن الحنان الذي تدفق عليّ في بغداد كان كبيرا وكأنه رسالة تعويض لي عما كنت احظى به في طويبة حيث كان جدي بدر وجدتي أم فرحان وخالي فرحان وخالي إسماعيل وأربع خالات هن أم فريد وأم أركان وأم ناصر وأم سفيان، رحم الله الجميع وحفظ خالتي أم سفيان، كان الجميع يتبارى في تدليلي على نحو كنت لا أُعاقب حتى إذا ارتكبت مخالفة توجب العقاب، وكانت خالتي أم فريد تتولى معاقبتي نيابة عن أمي وذلك بجمع كفها على شكل هرم وتهوي به بقوة حتى إذا وصلت إلى خدي أوقفت اندفاعته حتى خلت أنها كانت تداعبني بدلا من معاقبتي، كانت خالتي تعرف أن أمي كانت قاسية في معاقبتي عند إقدامي على واحدة من المخالفات لأنها تريدني مستقيما في حياتي كلها، لم يهبط معدل العطف عليّ طيلة وجودي في طويبة إلا لفترة قصيرة عندما سقط خالي إسماعيل رحمه الله ذات يوم من سطح المضيف عندما كان يجري عليه صيانة لقرب موسم الشتاء والمطر، وتعرّض إلى كسر بسيط في إحدى ساقية ورضوض في يديه.
بعد وصولي إلى بغداد بقيت عدة أيام انتظر الخطوة التالية، فأنا لم أجلب معي شهادة نقل من مدرسة عكاب تؤكد نجاحي من الصف الأول إلى الصف الثاني، ومع ذلك فقد طمأنني عمي الثاني عبد الرحمن رحمه الله إلى أنه سيتصرف ولن يسمح لسنة أن تضيع من عمري، بعد أن اكتملت ملابسي الجديدة التي تم شراؤها لي من أسواق أبهرتني بطريقة عرضها والازدحام في معارضها، ذهب بي عمي عبد الرحمن إلى مدرسة دار السلام الأهلية الواقعة في كرادة مريم مقابل جامع الحاج مظهر أحمد الشاوي في الشارع الجانبي للسفارة الإيراني في بغداد، مدرسة دار السلام تمتلكها الطائفة المسيحية السبتية في بغداد هي ومستشفى دار السلام، وهي مدرسة للبنين والبنات ابتدائية ومتوسطة، كانت أجور الدراسة السنوية 12 دينارا تسدد في بداية السنة الدراسية، وعند لقائنا بمدير المدرسة الاستاذ غانم أبلغنا بأن للمدرسة نظامها الخاص، فهي تعطل يومي السبت والأحد والدوام على مرحلتين قبل الظهر وبعده والطالب الذي لا يحصل على معدلات جيدة يُطلب منه البحث عن مدرسة أخرى، وقال إن الطلبة يجب أن يرتدوا زياً موحداً يتم تصميمه من قبل خياطين تتفق معهم المدرسة ويُكلِف الزي الموحد عشرة دنانير، وأخيرا أبلغنا المدير بأن المدرسة تجري فحوصات طبية سنوية على طلبتها من قبل طاقم متخصص من مستشفى دار السلام.
تم دفع التكاليف حينها شعرتُ بأنني مهمٌ للغاية فهذه هي المرة الأولى التي تُدفع عن دراستي مثل هذه التكاليف الكبيرة، هل يمكن أن يتأمل الإنسان في هذا الوقت ماذا يعني دفع 22 دينارا لسنة دراسية واحدة؟ جاءت المس شميران مرشدة الصف الثاني وأخذتني إلى الصف فألقت كلمة ترحيبية أمام الطلبة وقالت لهم رحبوا بزميلكم الجديد نزار، كان معظم طلاب المدرسة من المسيحيين، أذكر منهم في صفي يعقوب بنيامين وكنت أنا وهو نتنافس على الحصول على المرتبة الأولى، ومعنا الشقيقان روميو وجوليت جورج والطالبة الأجمل في الصف جين وليم، مرّ اليوم الأول في المدرسة بطيئا كما مرّ اليوم الأول لوصولي إلى بغداد، هذا عالم جديد عليّ في كل تفاصيله، عليّ أن أكوّن صداقات جديدة وأكفَ عن التفكير بأيام مدرسة عكاب بل عليّ أن أنسى طويبة كلها ونهر دجلة الذي يمر عندها بشاعرية ملهمة والذكريات الجميلة هناك وحتى المحزنة فليس منا من يتنكر لذكرياته أيا كان طابعها أو أثرها، ومع ذلك كنت أرى طويبة في أحلامي بطرقها الترابية ومزارعها الخضراء وأشجارها الباسقة وتل مهيدي الذي صار مقبرة لطويبة ويرقد فيه أشقاء لي وشقيقات، بل كنت عندما أتذكر فرس أبي العربية الأصيلة برشاقتها وجدائلها التي لا تختلف كثيرا عن جدائل فاتنة سمراء اللون، وكان والدي يردفني وراءه في بعض الرحلات، كان ينساب شلال الذكريات متدفقا واشتاق إلى تلك الأيام الخوالي، كنت أرى كيف يرعاها أبي بنفسه ويتأكد من علفها بنفسه ومن أن شفّاً سميكا يجب أن يلقى على ظهرها ليقيها برد الشتاء القارس، كان يحبها كثيرا وكانت تفتقده في كل يوم إذا تأخر وترقب مجيئه بشوق كبير، وهذا الانطباع يؤكد لي بأن الخيول العربية الأصيلة لها مشاعر ود وحنين لفارسها ولا ترضى بغيره فارسا لها وكأنها عاشقة أيضا.
ومن الطلبة المسلمين في الصف الثاني أدهم خميس الضاري وشقيقته، وضياء حسين علي مبارك، وهناء جاسم والشقيقان فائز وفواز الكيلاني وابن ضياء جعفر وابن فراش المدرسة وهو محسن غزال، مع الوقت تآلفت مع الجو الجديد، بصداقاته وطرق التدريس في المدرسة، كان علي أن أعوّد ذهني على تقبل الدروس باللغة الانكليزية من جهة والوسط الطلابي المختلط، وخاصة في الفرصة بين درس وآخر إذ يتحدث الطلاب ثلاث لغات على الأقل فاللغة العربية سائدة بين الجميع، ولكن اللغة الآشورية أوسع انتشارا منها وتأتي بالدرجة الثالثة اللغة الأرمنية، ربما تعلمت في ذلك الوقت كثيرا من الجُمل باللغة الآشورية، ولكن دروس اللغة الانكليزية كانت في غاية الصعوبة بالنسبة لي فهي درس مقرر فيه نجاح ورسوب وليس مثل لغات التخاطب في الفرصة، فالمدارس الحكومية كانت فيها دراسة اللغة الانكليزية تبدأ من الصف الخامس الابتدائي.
شعرت بغربة قاسية في وسط ارستقراطي وأنا ذلك القروي القادم من قرية وهو محمّل بكل تراثها ومفرداتها التي تبدو في غاية الغرابة عندهم، كنت عندما اتحدث باللهجة القروية التي هي خليط من لهجة السوامرة والبلداويين والجبور والاحباب وغيرهم، وتبدو تلك المفردات قاسية على أذن البغدادي الذي لم يلتق بقرويٍ متمسكٍ بقرويته حد الصدام الهادئ، واختلف الزملاء فيّ كثيرا فمنهم قال إنه ابن اقطاعي متخلف، ومنهم قال إنه ابن مزارع خرج إلى الدنيا حديثا، ومنهم من قال إنه ابن فلاح فقير عطف عليه الاقطاعي فأرسله إلى هذه المدرسة ومردّ هذا كله أنني كنت التقي مع محسن غزال كثيرا، ربما بعضهم صب جام غضبه على المدرسة التي أتت إليهم بهذا الطالب الذي قد يدلل على أن مستوى المدرسة في نزول، كنت اسمع كل ذلك ولكنني لم ابذل جهدا لتغيير قناعات لن تبدل شيئا، يوما دعاني صديقي الجديد ضياء حسين علي مبارك إلى أن نلعب بعض الألعاب الرياضية ولما رأيته يلعب مع فتيات، قلت له بلهجتي القروية الجافة "أنا لا ألعب مع البنوات" كان جمع اسم بنت على هذا الوزن الشاذ سببا في إثارة عاصفة من الضحك عند البنات أنفسهن، فيبدو أنهن أردن أن ينتقمن مني عبر هذه الضحكات، انتفضت بكل ما أحمله من موروث قروي عسير الفهم على وسطي الجديد، فاشتبكت في حديث مؤدب مع الفتيات وقلت لهن هذه لهجتي، وليس من الأدب السخرية من لهجة أبناء القرى، بعد ذلك عزفت عن المشاركة في أية أنشطة لا صفيّة مع زملائي، ويبدو أن تلك الواقعة هي الأكثر تأثيرا على تعودي على استخدام المفردات العربية الفصحى، لاسيما وأن بيت عمي شامل لا يوجد فيه من هو بعمري أو قريب منه، ثم إنني لم أكوّن صداقات خارج المنزل، فكان الراديو صديقي المفضل، استمع فيه إلى القران الكريم وإلى نشرات الأخبار وبقية الفعاليات التي تذاع من إذاعة بغداد.
وإذا أردت أجراء مقارنة سريعة بين مدرسة عكاب ومدرسة دار السلام الأهلية فعلي أن أُقر أن الأساس التربوي الذي أقامه الاستاذ محمد الدوري مدير مدرسة عكاب القروية، لا يمكن أن يقارن بأية مدرسة أخرى قرأت عنها أو سمعت، وأضرب المثال التالي، في أحد أيام الخميس استدعاني المدير محمد الدوري وهو يحمل بيده اليمنى الخيزرانة في ساحة المدرسة، وقال لي أمام الطلبة جميعا أُلق قصيدة سلي الرماح العوالي، فقرأتها بانسيابية ارتحت لها مع أنني لم أكن قد أجدت النطق كاملا، حتى وصلت إلى بيت:
إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفاً ..... أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
أمرني بالتوقف وقال من هم القوم الذين قال عنهم الشاعر إنا لقومٌ؟ ولما رآني صامتا، زجرني بقوة وقال إنهم أجدادك العرب أصحاب المروءة والشهامة الذين عليك أن تفخر بهم لا أن تجهلهم، بعد أن قال كلمته هذه، قال لي واصل القراءة، طبعا أضعت الخيط والعصفور كما يقول المثل العراقي وكنت بحاجة إلى استعادة قراءة القصيدة صمتا كي استأنف القراءة بصوت عالٍ، صرفني من هذه المهمة بعد أن قال للطلبة صفقوا له، سرني أنه شجعني بهذه الطريقة العلنية ولم يعاقبني، لأنه تربوي ناجح وهو من أسرة كريمة خرجت الكثير من رموز العراق منهم قدوري جابر الدوري القائد العسكري المعروف أثناء القادسية الثانية،.
لكن ما كان يعوضني أن عمي شامل جلب لي دفترا من 100 ورقة وكان في كل يوم يكتب سطرا في أعلى الصفحة ويقول استنسخه على طول الصفحة واعطيك عشرة فلوس، كان الدرس الأول وأذكره كما لو أنه وقع اليوم، كتب "أنا عربي من العراق الإسلام ديني ومحمد نبيي، العراق جزء من الأمة العربية"، وفي كل يوم تتغير العبارات، ومرت السنون عليّ في بغداد ولما وصلت الصف الخامس الابتدائي، جلب لي عمي كتابا عن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم من تأليف عباس محمود العقاد هو عبقرية محمد، وقال لي اقرأ الكتاب ولك أسبوع أكمله وحدثني عن مضمونه وسأعطيك ربع دينار، ولكنني لم اتمكن من قراءته لا في أسبوع ولا في أسبوعين، وعندما تحدثت له عن فهمي للكتاب رفض ما قلت وقال أعطيك أسبوعين لإعادة قراءته واذا رضيت بسردك سأعطيك نصف دينار، وهذا ما حصل وتعددت الكتب التي كان يجلبها لي وكلها كتب تربوية ذات أهداف سياسية وفكرية قومية، بعد أن كان هدفي في تلك المرحلة الحصول على المكافأة النقدية، صارت لي أهداف أخرى وخاصة بعد أن سار قطاري على السكة.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/maqalat/47079-2020-12-12-09-11-31.html

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

662 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع